بقلم الشيخ د. جاسم مهلهل الياسين

رسالة عامة:

كلما أدرك المسلم أبعاد رسالته وأهدافها، كلما كان أقدر على التفاعل والتجاوب مع محيطه، والقرآن الكريم وفر على الناس الكثير من العناء في بحثهم عن غاية الخلق، والدور المعين على المخلوق بقوله تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (1)، فالعبادة هي المطلوبة من البشر.

تعبيد الناس لله هو الدور الرسالي الذي كلف به الأنبياء والرسل والمؤمنون من بعدهم

وتعبيد الناس لله هو الدور الرسالي الذي كلف به الأنبياء والرسل والمؤمنون من بعدهم، حيث إن جوهر العبادة لا يقف عند حدود الذات، بل يتعداها إلى الآخرين لتحويل المجتمع بأسره إلى مجتمع عبادة، من هنا جاءت الآيات القرآنية الكريمة تدعو المؤمنين إلى القيام بالدعوة، بإطلاقها إلى كافة الميادين وخارج كل الحدود، فجاءت للناس أجمعين، لا يحدها جنس ولا لون ولا تاريخ، قال تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (2)، وقال أيضا: “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (3)، إنها رسالة سماوية يقوم بواجبها الرسل والمؤمنون بهم، تكليفا وليس منة.

 

حركة رائدة:

فالإسلام هو الحاضن لأبناء المجتمع يعيشون في كنفه، والحركة الإسلامية هي الحركة التي ندبت نفسها للقيام بهذا الدين وإعلاء شأنه، وهي في ذلك حركة طليعية نبتت في المجتمع وانطلقت من خلاله، رافعة لواء الإسلام لكي يعم، لقد أيقنت الحركة الإسلامية أن قيام الجو الإسلامي والحكم الإسلامي الذي يرعى هذا الجو ويحافظ عليه، إنما يتأسس على جهد جماعي منظم، جهد مؤسسي يتجلى فيه مفهوم الطاعة والجندية والقيادة.

هذا الإتجاه المتقدم لم يكن اتجاها متفردا أو متعصبا، بمعنى أنه يحتكر الإسلام والعلم له، إنما هو إتجاه تعاوني مع جميع العاملين والخيرين داخل الحركة وخارجها من أبناء المجتمع الإسلامي، لذلك كان السعي الدائم لتحقيق الإسلام قبل تحقيق ذاتية الحركة، وبقيت الحركة وسيلة ناجعة وناجحة للغاية المطلوبة، وقد عبر الإمام البنا مؤسس الحركة الإسلامية في القرن العشرين عن انفتاح الحركة ووحدتها مع كافة العاملين للإسلام، وبذلها كل الجهود للوصول إلى الهدف الإسلامي الكبير عن طريقها أو عن طريق سواها،

 

_______________________________________________________

(1) سورة الذاريات: 56

(2) سورة الأنبياء: 107

(3) سورة سبأ: 28

 

قائلا: <فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأعوانه> (1)، إذا فالحركة هي الروح التي تسري بهذه الأمة، وهي جزء منها تتجاوب وتتفاعل معها، وتحمل قضاياها وهمومها وتستوعب طاقاتها.

الإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأعوانه

هذا هو الهدف من وجود الحركة الإسلامية، النهوض بمهام الإسلام ما استطاعت، والذود عن حماه، وحمله للناس، وتوحيد الكلمة ورص الصف، ضمن جو إسلامي حميم مبني على الأخوة والروح الإسلامية العالية، على هذا نشأت الحركة الإسلامية انحراف عن النهج، لكن تعدد أشكال هذه الحركات، واستمرارية الحركة الدعوية العامة داخل هذه الحركات وخارجها أدى إلى نوع من التعصب والحزبية عند البعض، مما أساء للحركة وجعلها في تنافس وإلتحام مع عامة المسلمين ومثقفيهم والعاملين منهم بالتحديد، وفي هذا المضمار يحدثنا المفكر الإسلامي الدكتور فتحي يكن فيقول: <في إعتقادي أن الحركة الإسلامية تأثرت إلى حد بالجو الحزبي الذي تعيشه البلاد العربية في هذه الحقبة من الزمن .. حتى كادت تتلوث طبيعة العمل الإسلامي وأساليبه -في بعض الأحيان- بالروح الحزبية الضيقة التي لا تتفق بحال ونزعة الإنفتاح والإنسانية في الإسلام> (2)، مما يعني أن وجود هذه النزعة وتأثر البعض بها أمر مستشر إلى حد ما، إلا أنـــه -وهذا ما يجب أن يفهمه الجميع- بعيد عن الإسلام وغريب عنه.

هذه الروح الحزبية الضيقة تزكي روح الصراع والتنافس بين أبناء الحركة وبين من يعمل للإسلام خارج إطار الحركة، وهذا ما يتنافى تماما مع هدف الحركة وبرنامجها وقيمها، فالأخوة التي جمعت أبناء الحركة هي ذاتها الأخوة التي تجمع بين عموم المسلمين، ومنطق الأخوة في الإٍسلام منطق ديني مرتبط بالمستوى الإيماني للفرد المسلم، وكذلك هو منطق إجتماعي يتكرس ممارسة وتطبيقا وصفاء للعلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، قال تعالى: “إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون“، وهذا ما يعلو فوق الحزبية لأنه تقرير إلهي لا محيد عنه

 

معالم الأخوة وأمارتها

<ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الإستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه، وأن يستباح في سبيل تقرير لا قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من أخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة، وهو إجراء صارم وحازم كذلك> (3)

 

______________________________________________________

(1) حسن البنا: الرسائل – المؤسسة الإسلامية – بيروت – ص: 137

(2) فتحي يكن: مشكلات الدعوة والداعية – ص: 132

(3) سيد قطب: في ظلال القرآن – دار الشروق: ط 15- 1988 – جـ6- ص: 3343

 

فالرحمة واللين والعفو كلها سمات لازمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في علاقته مع صحابته، قال تعالى: “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” (1).

والرسول قدوة، وعلى نهجه يجب أن تسير الطليعة المسلمة لتحقيق غايتها في تعبيد الناس لله .. ولا ينجح مسعاها إلا بالكلمة الطيبة، والدفع بالتي هي أحسن، وبمحبة الناس والتقرب إليهم، لا بمنافستهم وصراعهم، طالما أن الجميع هم أبناء الإسلام.

 

استيعاب المسلمين:

من هنا كان دور الحركة الإسلامية دورا حساسا، لأن لها كيانها الخاص الذي يجب أن تحافظ عليه كوسيلة متقدمة من وسائل نشر الإسلام ونصرته، ولها أيضا مجتمعها الإسلامي وعليها استيعابه والإستفادة منه ومن طاقاته، وحيث إن طبيعة العمل المنظم قد لا تستهوي الجميع أو لا تتناسب مع طباع الجميع، كان لابد للحركة أن تجد طريقة تفاهم وتعاون مع المسلمين العاملين خارج إطارها، وهذا أمر طبيعي وغير منكر، حيث إن العديد من الناس غير مؤهلين للعمل المنظم بطبيعتهم ونفسيتهم،

من هنا كان دور الحركة الإسلامية دورا حساسا

إلا أنهم يحبون الإسلام ويعملون له  وربما يبدعون في عملهم الدعوي الفردي، أضف إلى ذلك أن هنالك فئات عديدة ومتنوعة في المجتمع مؤمنة مسلمة قد تعجز الحركة عن استيعابهم، وفي كلتا الحالتين ومن أجل الإستفادة من كامل طاقات المجتمع كان لا بد من تواد وتراحم بين كل تلك الفئات التي تعمل تحت مظلة الإسلام، تعاون وتعاضد لا خصام وصراع يضيع الطاقات ويشغل العاملين للإسلام ببعضهم البعض ويخلق فيما بينهم البغضاء والعداوة، فإن الرابط بين الجميع هو الإسلام ونعمة أخوته، وعندما تتخلخل هذه الأخوة تتخلخل كل العلاقات الاجتماعية والروابط المتينة بين أبناء المجتمع الإسلامي، ليتحول إلى مجتمع ينهش بعضه بعضا، وهذا ما لفت إليه القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا” (2)، إنها الأخوة في الله، <تلك التي تجعل من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية، وفي التاريخ الإنساني: دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إقامة الحياة على أساس المعروف وتطهيرها من لوثة المنكر> (3)

 

 

_______________________________________________________

(1)

(2) آل عمران: 103

(3) سيد قطب: في ظلال القرآن – جـ2 – ص: 23

 

البعد عن التمزق والضياع:

إن سيادة روح الأخوة في المجتمع الإسلامي هي الضابط لأيقاع هذا المجتمع والبعد به عن التمزق والضياع، والحركة الإسلامية بطبيعتها ودورها، حليف لكل المسلمين تعمل معهم ولأجلهم، أما ما وجد في الحركة من يتقوقع وينعزل عن باقي المسلمين ويحصر الإيمان والإسلام في جماعته، فهذا إنسان مريض لا يفقه الإسلام بل يعمل على إجهاض مشروعه وتشتيت وفرقة أبنائه، فالعلاقة المفتوحة والودية مع المسلمين مطلوبة بغض النظر عن إنتهائهم الحركي التنظيمي لأن الشرع يطالبنا، فإمتثال الأخوة مع جميع المسلمين، وليس العامل التنظيمي سوى خطوة أساسية للأمام لمزيد من القوة والتراص في صفوف المسلمين وليس العكس، هكذا نفهم الإسلام وهكذا نفهم العمل الحركي والتنظيمي الإسلامي وندعو له.

 

إتساع واقع العالم الإسلامي:

نتعاون فيما إتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختفنا فيه

فالعالم الإسلامي اليوم يعج بالحركات الإسلامية منها الأصيل ومنها الوليد، منها العالمي ومنها المحلي، منها المتفاهم ومنها المتعارض .. وهذا الواقع يزداد إتساعا وربما يخرج أحيانا عن سيطرة المعنيين به، ومن هنا نرى أهمية تصدي الحركة لتلك المقتضيات من حيث تقريب وجهات النظر وتطبيق القاعدة الذهبية، <نتعاون فيما إتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختفنا فيه>، وطالما أن الجميع يعملون للإسلام، فإمكانية التلاقي تبقى مفتوحة وضرورية، وفي هذه الحالة لا يجوز أن يسود منطق الصراح والمنافسة العدائية لأن الجميع سيخسرون، والمشروع الإسلامي سيتراجع.

أما على مستوى الأفراد فمنهم من لا ينسجم مع العمل المنظم، وتلك طباع مختلفة لدى البشر، ومنهم من ينتمون إلى الحركة ثم يخرجون منها لأسباب خاصة وربما عامة، وفي كلتا الحالتين يجب ألا يتم الخلط بين الخروج من الحركة والخروج من الإسلام، وتلك الحالات منتشرة: <فهنالك أشخاص قد يجتذبون إلى الحركة في ظرف من الظروف وبسبب من الأسباب، ثم يتبين أنهم غير قادرين على التكيف وفق سياسة الحركة وعلى السمع والطاعة لها .. إن من هؤلاء من يرفض (الذوبان) في البنية الجماعية ويحرص على أن يحافظ على شخصيته .. وعندما يشعر بما يعرض شخصيته للذوبان، ورأيه لعدم القبول، يولي الأدبار خلف ستار كثيف من المبررات والمعاذير> (1)، هذا الخروج يجب ألا يترتب عليه صراع، ونكران جميل، بل كل يعمل من موقعه في تنافس خير يحمل في طياته الحب والبناء وليس الضغينة والعداء.

 

 

_______________________________________________________

(1) فتحي يكن: المتساقطون على طريق الدعوة – مؤسسة الرسالة – ص: 78-79

 

تنافس نافع:

فنحن وجميع الحركات والأفراد المتلزمون بالإسلام والمحبون له إنما نتفاضل بالخير، ويصح لنا أن نتنافس فيه، أما المنافسة التي تؤدي إلى الخروج عن نطاق الشريعة، حيث ينتشر الحسد والبغضاء والتدابر، فإنها وبال على الجميع لأننا في وقت اشتدت فيه الهجمة على الإسلام وأهله، وتنازع المسلمين لم يعد يساوي إلا الخسران في الطاقة والوقت، وعلى الحركة الإسلامية أن تعمل وتصبر على استيعاب كل الطاقات والاشخاص، فإن لم يكن استيعاب عناصر وعضوية، فليكن استيعاب أنصار ومؤيدين، وهذا لن يتحقق إلا من وراء سلوكيات رفيعة وقيادية تجسد الأخلاق الإسلامية التي تشد الناس إليها، كما أخبرنا القرآن الكريم عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” (1)

 

أمامنا جهود وجهود:

ففضلا عن الإسلام الذي يجمعنا، هناك العديد من القضايا الاجتماعية والعديد من الأوضاع الاقتصادية والسياسية تستدعي جهودنا المشتركة: فهناك الغزو الثقافي والفكري الزاحف إلينا، وهنالك الفقر والعوز، وهنالك الاقتتال الداخلي، والعدوان الخارجي، وتسلط الحكام، و……… و……… ومقابل ذلك لنا طلبات كثيرة نتعاون عليها ونحشد لها الطاقات: كالعمل على تقوية الإعلام الإسلامي ليكون على مستوى المواجهة، والوصول إلى المشاركة في وضع البرامج التعليمية وإدارة مؤسسات التربية والتعليم، والحض على الفضيلة ونشر الأخلاق والعادات الإسلامية، وإنشاء المؤسسات الأقتصادية والتجارية الإسلامية غير الربوية، وبذل الجهود والطاقات المادية والعلمية للتنمية …

إذا فهنالك قضايا متراكمة يمكن أن نتعاون عليها، بل واجب أن نتعاون عليها، ويبقى التنافس والتفاضل في الخير والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

 

الإسلام دعوة للتضامن والتعاون:

نتنافس على الخير، والميزان بيننا ميزان العمل الصالح والتقوى

إننا نحمل رسالة، ونقدم دعوة عنوانها التوحيد ومضمونها التعاون والإخاء مع كل من إرتضى الإسلام دينا ومنهج حياة، إننا نتنافس! نعم نتنافس في الخير فقط من أجل مزيد من العطاء وإعلاء لكلمة الحق، والإسلام الجامع لهذه الأمة دعوة للوحدة والتضامن، وإذا أمعنا النظر في الإسلام شريعة ومبادئ ونظما وسعة أفق نجد فيه مكانا واسعا يستوعب الجميع ويضفي عليهم جوا من الحياة الأخوية المتآلفة المتكاتفة .. كما عاشت العصور الإسلامية الأولى، على المحبة والتضحية والبذل المشترك، نتنافس على الخير، والميزان بيننا ميزان العمل الصالح والتقوى، قال تعالى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (2)

 

_______________________________________________________

(1) آل عمران: 159

(2) الحجرات: 3