بقلم الشيخ الدكتور / جاسم المهلهل الياسين

إن جو الحرية المتاح في مناخ دولة الكويت يفرض على كل ذي رأي أن يوضح رأيه، وأن يبين فكرته للناس، فلعلها أن تضيف جديدا يبعد عن شعبنا الكويتي خوفا، ويحقق له -في بلده- اطمئنانا وأمنا، ولا يصح في مثل هذا الجو الذي لا حجر فيه على فكر، ولا منع فيه لقول، ولا مصادرة لرأي أن يكتم صاحب رأي رأيه، وأن يحجب صاحب فكر عن الناس فكره، وإلا فما قيمة (الديمقراطية) أو قل بالتعبير الإسلامي (الشورى) التي هي مكفولة للجميع إن قصرناها على أعضاء المجلس النيابي وحدهم، بحيث ينشغل عنهم الناس بهموم الحياة.
إننا -إن فعلنا ذلك- نكون مقصرين في حقنا أولا كأفراد وفي حق الكويت كمجتمع، لأن أعضاء المجلس كغيرهم هم نبت هذا البلد، وفرع من دوحته التي يستظل الجميع في ظلالها، فالرفعة والنهضة والحفاظ على المبادئ والأخلاق والفضائل والقيم كلها ستصب في مجتمع الكويت إن تمسكنا بها وحققنا وجودها في المجتمع سلوكا وتشريعا، ومن ثم فإن كل قادر على العطاء مطالب -اليوم قبل الغد- أن يعطي للمجتمع من رأيه وفكره وسلوكه وتصرفه، ما يظل به هذا المجتمع متماسكا قويا حريصا على الدين، جاعلا دنياه في خدمة دينه.
من هنا يصير واجبا أن نقدم للناس أجمعين -وفي مقدمتهم أعضاء المجلس النيبابي بمناسبة دورة الانعقاد الحالية- بعض الملاحظات التي نراها مساعدة ومحققة للآمال في مجتمعناالكويتي.
1- الحفاظ على تماسك هذا الشعب بالابتعاد عن كل ما يخلخل البنية الاجتماعية، أو يمزق وحدة الصف، أو يقلل من قيمة البناء الداخلي، الذي يؤدي إلى التلاحم وترك الخلاف والشقاق، بوضع المصلحة العليا للبلاد فوق مصالح الأفراد أو الطوائف أو المذاهب أو التوجهات، لأن تقديم مثل هذه الأمور على غيرها لا يجهل أحد ضرره، ولا يخفى علينا -جميعا- أثره، وقد كانت المصلحة العليا مقدمة دائما على غيرها، ولن نستشهد لذلك بما حدث في أثناء الغزو العراقي، ولكننا نستشهد بحدث قريب لم تمض عليه غير أسابيع، حين سارع الجميع لإظهار مشاعر الحب لسمو ولي العهد، بعد عودته من رحلة الشفاء، مما لا يزال حديث الناس، فقد كان هذا الحب مظهرا من مظاهر التماسك والتلاحم، يدل على قوة الترابط في النسيج الاجتماعي للشعب الكويتي مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو كثير كلام، لأن الواقع المرئي كان أقوى من الكلام المروي، فلنجعل من واجبنا جميعا الحفاظ على هذا التماسك.
2- ولا يمنعنا هذا من أن نسلك كل طريق مشروع لتحقيق مصلحة البلاد العليا، فإذا كانت المصلحة في مخالفة عرف شائع أو عادة متبعة فلا بأس بذلك ولا ضرر منه، لأننا ندور مع المصلحة، حيث دارت إلا إذا كانت مخالفة للدين (وهذا لا يتصور عقلا)، فإننا -في هذه الحالة- نتوقف عنها ونبتعد ونقول: في ما يحققه الدين لنا غناء عن غيره، وقد تتغير مصلحة البلاد اليوم عما رأيناه بالأمس، وقد تتغير غدا عما نراه اليوم، فلا يمنعنا رفضنا أو قبولنا لها بالأمس من الأخذ بها اليوم، أو التخلي عنها كذلك إن وجدنا غيرها أفضل لبلادنا وأحسن لمسارنا وأقوى حفاظا على مستقبل بلادنا ..
ولا مجال في السياسة للعواطف والمشاعر، وإنما المجال للعقول التي تحكم على الوقائع، وسواء في ذلك السياسة الخارجية أو الداخلية فكلها محتاجة إلى النظرة المستقبلية وإلى التخطيط الواعي والإدراك الذي يستوعب قضايا الدولة، ويراعي الأوليات في هذه القضايا، بحيث لا نهضم الأجيال القادمة حقها، لحساب الجيل الحالي، ولا نمنع هذا الجيل حقه في الحياة لحساب الأجيال القادمة، فالتوازن مطلوب وحقوق الجميع مصونة.
وهذا ما فعله المسلمون الأوائل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قسم خيبر بعد فتحها بين المقاتلين ولم يفعل ذلك عمر رضي الله عنه، عندما فتح سواد العراق حيث رأى أن الأصلح في زمنه غير ذلك، وجادله كثير من الصحابة في ذلك، ولا سيما أن رأى عمر يخالف ظاهر عموم آية سورة الأنفال “واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ..”
وقال عمر في ذلك رأيت أمرا يسع أول الناس وآخرهم، وقال: أتريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء، أي إنه راعي مصلحة الأجيال القادمة، وهذا نوع من التكافل.
الرائع بين أجيال الأمة بحيث لا يستمتع جيل على حساب جيل أو أجيال لاحقة، واستند عمر في ذلك إلى آيات سورة الحشر التي أشارت إلى قسمة الفيء بين المهاجرين والأنصار “والذين جاءوا من بعدهم”
وعلل الإمام ابن قدامة الاختلاف بين صنيع عمر وصنيع الرسول الكريم بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما هو الأصلح في زمنه وعمر فعل ما هو الأصلح في زمنه.
فمراعاة المصلحة الكلية للبلاد أمر تجب مراعاته في كل عصر، ولن تكون هذه المصلحة ثابتة ومستقرة إلا إذا استندت على أساس وأصل شرعي.
وهذا ما ينبغي أن نراعيه عند التشريع والتنفيذ، فلا يكون الخلاف في الرأي لإثبات الذات، ولا يكون التعصب لتيار بعينه، أو توجه بذاته، فكلنا كويتيون، يعمنا الخير فنفرح به، ولا تفرق بيننا شدة -مهما عتت- ويبقى الرأي متداولا بيننا ننشد به المصلحة العليا، وإن اختلفت بيننا زاوية الرؤية وطريقة التعبير فإن قاعدة “اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية” تسود بيننا وتكون عالقة في أذهاننا مسيطرة على مواقفنا وتصرفاتنا حتى نسلم من شر الكائدين والمتربصين.