بقلم الشيخ الدكتور / جاسم مهلهل الياسين

فن الإدارة:
الإدارة فن قيادة الجماهير والتعامل معها، وتوجيهها وترشيدها لتحقيق مصلحة كبيرة أو صغيرة، دائمة أو متقطعة وهي مهارة قائمة على العلم المستمد من عديد من تجارب الأشخاص، ولها معارفها التي تمنع عنها الارتجال، ونجعل لها وسائل متعددة وأسباب متشعبة، ومقدمات لازمة، تؤدي إلى النتائج والغايات والآمال والطموحات.
وعصرنا الحاضر لم يعد يقبل شيئا غير مبني على أساس علمي، وخاصة في مجال حيوي كمجال الإدارة الذي لا يخلو منه شيء، فلا تكاد تجد أسرة من الأسر أو مؤسسة من المؤسسات أو هيئة من الهيئات فضلا عن الدولة والمجتمعات إلا ولها إدارة توجهها وتقودها، وتبعد عنها الأخطار، وتحقق لها المصالح، وتدرأ عنها المفاسد، وتعمل على تنميتها وتقويتها.

أعمدة النجاح الإدارية:
ولما كان للإدارة هذه الأهمية كان لا بد من أن تقوم معطياتها على المعلومات الدقيقة المستمدة من واقع الناس وحياتهم، بحيث تكون قراراتها سليمة، وتوجيهاتها سديدة وتصرفاتها رشيدة، ومن الخطأ البين أن نضع أمام مهرة الإداريين معلومات مغلوطة أو منقوصة، أو معلومات غير دقيقة تغلفها العاطفة بألوان محببة، أو يزينها الهوى بأرديته التي تميل إليها النفس، أو تحلق في الخيال، وتطير في الفضاء بعيدا عن الواقع الأرضي.
وهذه المعلومات التي لا بد من توافرها أمام الإداريين لا تغني نفعا ولا تفيد شيئا إن لم يكن الإداريون أنفسهم يتمتعون بكثير من المهارات، وعديد من القدرات، التي تجعل من هذه المعلومات آلية لتحقيق كسب لكل من يقع في إطار هذه الإدارة، ومن خلال توزيع الأدوار، وبيان الواجبات والالتزامات، وبث عوامل النجاح في نفوس الناس، وإبعاد الإخفاق والفشل عنهم، وتحقيق التناغم والتكامل بين الجميع، بحيث لا ينقص أحد عمل الآخر، ولا يكرر أحد عمل غيره فتقل الإنتاجية وتتأخر أو تتوقف التنمية، وتضطرب الأمور، وتعم الفوضى.
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جها لهم سادوا
ونستطيع أن نقول إن هذا الشاعر الجاهلي قد أدرك المعنى الحقيقي للإدارة التي لا يصلح لها الجهلة، لأنهم بهذا الجهل سيفسدون في الأرض وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا.
لا مفر من أن يتمتع الإداريون بمهارات وقدرات أكثر من غيرهم، أو إن شئت تعبير الأقدمين فقل: إنهم لا بد أن تتحقق فيهم ملكات فطرية ومكتسبات حياتية، تضيف إلى خبرتهم المزيد، وتجعلهم يمتازون في مجال عملهم بكل مبتكر مفيد.

أنماط إدارية:
وحين نتطلع إلى الإداريين لتستشف بعض إمكاناتهم الذاتية، وتصرفاتهم التي تنعكس على الآخرين نفعا أو ضرا تجد أنهم أنماط متعددة، يختلفون في تصرفاتهم ويختلفون بالتالي فيما يحققون من أعمالهم، وفي حكم الناس لهم أو عليهم، ومدى نجاحهم أو فشلهم.
وقد اختارت لجنة مصابيح الهدى (وهي اللجنة المختصة بالعمل الاجتماعي داخل الكويت) إحدى لجان الأمانة العامة للجان الخيرية التابعة لجمعية الإصلاح الاجتماعي مائة والد كويتي -كنموذج لنوع من الإدارة “الأسرة”- وأجرت عليهم استبيانا لتخرج منه بالنتائج الآتية المتعلقة بأنماط الإداريين وأثرهم على من يديرونه داخل مؤسساتهم الأسرية:
1- نمط المتسلط: وهو عبارة عن الوالد الذي يهتم بتحقيق أهدافه ويتجاهل ما يعارضها، ولا يستمع إلا لما يريد، ويتحمل المسئولية كاملة دون السماح لغيره بالمشاركة في القرار، وهو هادئ لا يقبل الهزيمة ولا الفشل ولا يعترف بهما، ونسبة الأبناء المعرضين للانحراف تحت مسئولية هذا النوع من الإداريين هي 77%.
2- نمط الديمقراطي: وهو الوالد الذي يشارك الآخرين في تحقيق الأهداف ويستمع للحوار ويقبل ترجيح الرأي بالتصويت، عاطفي، ويسمح بالمشاركة في اتخاذ القرار، ولا يتحمل المسئولية وحده، ونسبة تعرض أبناء هؤلاء للانحراف 50%.
3- نمط الانفعالي: وهو الوالد العصبي الذي لا يعرف أهدافه ولا يحقق إلا القليل منها، ويأخذ الأمور بصورة شخصية، وكثير (النرفزة)، ويتحمل المسئولية وحده ولا يحسن إدارتها، ونسبة تعرض أبناء هؤلاء للانحراف 90%.
4- نمط المتساهل: وهو الوالد الذي يتنازل عن أهدافه مقابل تحقيق أهداف الآخرين، ويستمع للآراء الأخرى ويفضلها، وهو عاطفي وسهل ومرح، لا يتخذ القرار وحده ولا يتحمل المسئولية إلا نادرا، ونسبة تعرض أبناء هؤلاء للانحراف 50%.
5- نمط البيروقراطي: وهو الوالد الذي يعرف أهدافه ولكن لا يثبت عليها، ويعتمد قراره على حسب آخر نظرية علمية ولا يقبل الحوار إلا الذي يحمل معلومات جديدة، نظامي، آلي، يتحمل المسئولية، ونسبة تعرض أبناء هؤلاء للانحراف هي 99%.
6- نمط المهمل: وهو الوالد الذي لا يحمل أهدافا واضحة في حياته، مشغول عن الحوار مع أبنائه، قراراته فردية، يتعذر عليه الاهتمام بأبنائه، ولا يحسن تحمل المسئولية، ومتقلب المزاج، ونسبة تعرض أبناء هؤلاء للانحراف 87.5%.
7- نمط المبدع: وهو الوالد الذي يملك حسن التصرف في المواقف، ويوازن بين أهدافه وأهداف أبنائه، يفضل الشورى والمشاركة في اتخاذ القرار، متزن انفعاليا، ونسبة تعرض أبناء هؤلاء للانحراف هي 60%.

انتشار هذه الأنماط:
وهذه الأنماط الإدارية موجودة في المؤسسات العامة، وفي الهيئات وبين أجهزة الدولة، بل إنها تصل إلى جهاز الإدارة الأكبر في جميع الدول (مؤسسة الرئاسة) وهي المشرفة على إدارة أي دولة من الدول.
وإنك لتجد بين هؤلاء الإداريين على اختلاف مراكزهم الإدارية، ومسمياتهم الوظيفية، ذات النماذج المنطبقة على الآباء، فمن بينهم نمط المتسلط .. إلى آخر هذه الأنماط المذكورة من قبل ونسبة فشل أتباعهم في مؤسساتهم، ورعاياهم في دولهم هي نسبة فشل هذه الأنماط مع أبنائها، بل قد يكون فشل غير الآباء أشد وأعظم، وهؤلاء الاداريون يتفاوتون في مقدرتهم الإدارية بحسب ما يملكون من مهارات وخبرات، ولذا تجد أن مؤسسة من المؤسسات قادها وأشرف عليها فلان قد هبطت أسهمها وقلت إنتاجية العاملين فيها، وتضاربت قراراتها، وألف العاملون فيها اضطراب شئونها فما عادوا يبالون برفعتها أو بانحطاطها ولا بقوتها أو ضعفها، وهذه المؤسسة بعينها قد يقيض الله لها من يحسن إدارتها، فيصلح فاسدها ويلم شعثها فينقلب حالها من ضعف إلى قوة، ومن خسارة إلى ربح، والفرق في الحالين هو نوع الإدارة ومدى ما يتسم بهم المديرون.

نموذج في إدارة الدولة:
وبالمثل تجد هذه الأنماط الإدارية بين رؤساء الدول والحكومات، فيصلحون أو يفسدون، ولن نعدد هذه الأنماط بين الرؤساء والمسئولين، لأننا نكتفي بأمثلة من بين القائمين على إدارة الدول، فهذا جار السوء صدام دكتاتور في العراق، نعامة أمام القوى الدولية يصدق عليه قول الشاعر وهو يصف الحجاج بن يوسف حين رفض أن يبرز لقتال الخوارج الذين تقودهم غزالة الحرورية:
أسد على وفي الحروب نعامــــــة فتخاء تنفر من صغير الصافـــر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر!!
إنه يمثل نموذج الإداري الانفعالي المتسلط، الذي لا يمكن التنبؤ بحركته، ولا يوثق بتصرفه فهو يوما قومي حريص على العروبة، ويوما معتد على العروبة يحتل دولة الكويت، ويسعى في الأرض فسادا، فأين منه القومية؟ وأين منه العروبة؟ ثم هو يوما مسلم غيور على الإسلام يدعى لنفسه حماية الدين، ويحرص على الإسلام والمسلمين، ثم يشن حربا دمويا على إيران تستمر ثماني سنوات وتقضي على الأخضر واليابس دون أن يستفيد الإسلام والمسلمون شيئا من هذه الحرب، يدعي الإسلام وهو بعثي عفلقي، يحرص على جلب جثة ميشيل عفلق لتدفن في مقابر المسلمين وهو يبكي على جوع شعب العراق تحت الحصار، وينسى أن الشعب يعاني بسببه، ويتصرف وكأنه يجهل أنه قتل آلافا من الشعب العراقي في ليلة واحدة في (حلبجة) بالأسلحة الكيميائية، يعلن الحرص على وحدة العراق وسلامة أراضيه، فإذا ما اتخذت تركيا من شمال العراق حزاما أمنيا (لا نرضى نحن به ولا نستسيغه) ارتضاه صدام وامتنع لسانه عن الكلام، فأين الكبرياء القومية؟ وأين العزة العربية؟
إنه يطلب رعايا بعض الجنسيات العربية ليعيشوا -معززين في العراق- كما قال حتى إذا استنفد أغراضه من أعمالهم أرسلهم إلى بلادهم جثثا هامدة في نعوش طائرة، بعد أن يقتلوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وكأنهم كانوا محاربين ولم يكونوا أناسا عاملين!!
وتتوالى مخازيه، فلا يثبت على عهد، ولا يصون ودا، ولا يتورع عن قتل أزواج بناته، ولا ينكر بعض جرائمه البشعة التي قام بها من قبل، وهذا يجعل نسبة الانحراف بين شعبه ما بين 87.5% إلى 90%.
فهل يحقق هذا النوع الانفعالي أمانا لشعبه أو لجيرانه؟ إنه -حتى الآن- يستطيع تحقيق الأمان لنفسه، لأنه يجيد العمالة للآخرين، الذين يتخذون منه (فزاعة) أو ألعوبة بشعة يظهرونها في الظلام فيغطي الناس وجوههم ويغمضون عيونهم خوفا من البشاعة والشناعة، حينئذ يمد هؤلاء أيديهم فيسرقون قوت الشعوب، ومدخرات البلاد لتصب في جيوبهم وتفرغ في خزائن دولهم.
إنها ألعوبة مربحة تستحق المحافظة عليها، لأنها تحقق الغاية وزيادة من غير أن يرتاب في الأمر غير العدد القليل، فهل يزول هذا النموذج الانفعالي لإدارة الدولة؟ ومن يخرب البلاد؟ ومن يفقر العباد؟ ومن ينشر الدمار والخراب؟
إن هذا النموذج الانفعالي فيه أعظم الغرم لشعبه وبلده وقومه، وفيه النفع للذين يديرون الآلة العالمية للسياسة الدولية، إذ يسهل تذليله إن أطاع ويسهل خداعه إن عصى وفي الحالين نفع كبير للمسيطرين على الساحة الدولية في عالم الدولة القطبية، الذين يمتصون رزق العباد، وينهبون ثروة البلاد.

طريق الأمان:
وأمثال هذا النموذج كثيرون، وغيره من الإداريين في بعض الدول تنطبق عليهم بقية الأنماط، وتدب بين شعوبهم نفس نسبة الفشل والإخفاق ولا مخرج من هذا كله إلا بالشورى الإسلامية، التي يلتزم الإداري فيها بالحق والعدل، ويحرص على تحقيق الصالح العام، فيأمن شعبه ويأمن جيرانه من غدره وكيده، لأنه ملتزم بمعايير لا تتبع الهوى ولا تميل كل الميل أو بعضه، ولا يمالئ عدوا، ولا يحابي ظالما، ولا يعتبر نفسه الزعيم الأوحد، أو الشخص الأعظم، إذ هو وغيره من الناس سواء، يجمعهم التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان ومثل هذا الإداري لن يكون بالقطع صداما ولا من يسيرون على منواله، ويعملون مثل أعماله.
الشورى إذا هي السبيل وهي الضمان نحو الأمان والمسئولية والالتزام وصاحبها هو النمط المطلوب.