بقلم الشيخ د. جاسم مهلهل الياسين
أذلة على المؤمنين
“الإنسان القدوة” هو النموذج الواقعي المتجسد الذي يحمل من القيم والفضائل والمكارم ما يعلو به على نوازع الأرض وثقلة الطين، لأن له بالله صلة قوية تمنعه من التردي والسقوط، فهو مشدود إلى العلا، بعيد عن الهوى، أسلم قياده لله فحماه وآواه، وأمده بنصره ورعاه “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” والذين يقتدى بهم لهم في الفضائل والمكارم درجات بحسب استمساكهم
“لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا” |
بمنهج الله، ولذا كان خير قدوة مأمور باتباعها النبي صلى الله عليه وسلم “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا” ويظل الناس يحاولون الارتقاء نحو هذا المرتقى الصاعد، لعلهم يقتربون من هذه القمة السامقة التي يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في ذلك متفاوتون أشد التفاوت بحسب القدرة والإخلاص والاستمرار والعلم والمعرفة والاشتغال بالعمل الإسلامي العام، الذي يقوم به بعض الدعاة سواء على المستوى الرسمي أم على المستوى الشعبي المتمثل في أصحاب المشروع الإسلامي، هؤلاء الذين ينبغي أن يتجردوا من كل ما يمس ذواتهم، ويجعلوا أنفسهم مذللة للدين، تمثله سلوكا وعملا والتزاما قبل أن تتحدث به أو تعلن للناس عنه ليكونوا قدوة لغيرهم، وسراجا منيرا ينير الدرب، ويزيل الغبش أو الظلام فهل نحن -الدعاة- كذلك؟
هل قادة المشروع الإسلامي ودعاته حين نظروا إلى أتباعهم فرأوهم -في بعض الأحيان- كثيرين، ونظروا إلى أعمالهم فرأوها في بعض الأحيان غير قليلة، بالقياس إلى غيرهم تواضعوا لله، وشكروا أنعمه عليهم، أم أنهم اعتدوا بحولهم وطولهم وقضهم وقضيضهم، وظنوا أن الأرض دانت لهم، وأن الناس نازلون على حكمهم، سائرون على دربهم، منفضون عن غيرهم، فاستعلوا في الأرض، ولم يتواضعوا أمام أتباعهم، ولم يتذللوا خضوعا وانكسارا لربهم .. وكأنى بهم يقولون: لن نغلب اليوم من قلة..؟
إن التواضع للناس أجمعين أمر حث عليه الدين وأوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: “إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد” وكان الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم إمام المتواضعين، حتى إن الجارية كانت تأخذ بيده إلى أي طريق من طرق المدينة لتسر له بحاجتها، كان يلاطف الصغير، ويحترم الكبير، ويقدر الآخرين، ولا ينتقص جهد أحد، ويقبل من كل أحد بحسب ما يستطيع، وقد بين لنا أن المتواضعين يرفعهم ربهم، ويعلي من شأنهم “وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله”.
وقد كان موقفه في مواطن الترفع التي يقع فيها الناس مثالا للتواضع، ألم يأتك نبأ فتح مكة؟ كم يساوي هذا الحدث في دنيا الناس آنذاك حين يجد الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلى أن يقولو ربنا الله أنفسهم وقد نصرهم الله فعادوا إلى موطنهم ظافرين، وعلى أعداء الأمس منتصرين، استسلمت لهم الجباه، وخضعت لهم الهامات، ودانت لهم الدور والجبال في موقعة حربية سبقها إعداد واستعداد؟
ومع عظمة هذا الحدث فإنك تنظر إلى القائد العظيم محمد صلى الله عليه وسلم ورأسه تكاد تمس عنق راحلته تواضعا لله، وشكرا له على ما رزقه إياه، وساقه إليه من النصر، “وما النصر إلا من عند الله”.
وانتقل هذا الخلق الكريم من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه حتى إن أبا بكر كان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة -كما أخرج ابن سعد- فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا تحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر، فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم، والأمثلة عديدة، وكلها تبين أن الإسلام صاغ نفوس المسلمين صياغة جديدة، وصفاها تصفية بديعة، أزالت شوائبها وعمقت فضائلها، وجعلت للتواضع مكانا بارزا بين هذه الفضائل.
فهل ما زال مكان التواضع هذا بارزا في القلوب، ظاهرا في الأعمال؟
إن بعض الأضواء وبعض الأتباع وبعض الأحاديث والأقوال والكتابات لا ينبغي أن تمس القيم الأصيلة في النفس، ولا أن تطغى عليها لتزيحها من مكانها، أو تحجب نورها، أو تزعزع مقدارها، وإلا فإن هذا أول الشروخ في زجاج الدعوة، وإن الزجاجة كسرها لا يجبر.
هل نحن مقتدون..؟ (2)
الغضب للحق..
“الإنسان القدوة” هو النموذج الواقعي المتجسد الذي يحمل من القيم والفضائل والمكارم ما يعلو به على نوازع الأرض وثقلة الطين، لأن له بالله صلة قوية تمنعه من التردي والسقوط، فهو مشدود إلى العلا، بعيد عن الهوى، أسلم قياده لله فحماه وآواه، وأمده بنصره ورعاه “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” والذين يقتدى بهم لهم في الفضائل والمكارم درجات بحسب استمساكهم بمنهج الله، ولذا كان خير قدوة مأمور باتباعها النبي صلى الله عليه وسلم “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا” ويظل الناس يحاولون الارتقاء نحو هذا المرتقى الصاعد، لعلهم يقتربون من هذه القمة السامقة التي يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في ذلك متفاوتون أشد التفاوت بحسب القدرة والإخلاص والاستمرار والعلم والمعرفة والاشتغال بالعمل الإسلامي العام، الذي يقوم به بعض الدعاة سواء على المستوى الرسمي أم على المستوى الشعبي المتمثل في أصحاب المشروع الإسلامي، هؤلاء الذين ينبغي أن يتجردوا من كل ما يمس ذواتهم، ويجعلوا أنفسهم مذللة للدين، تمثله سلوكا وعملا والتزاما قبل أن تتحدث به أو تعلن للناس عنه ليكونوا قدوة لغيرهم، وسراجا منيرا ينير الدرب، ويزيل الغبش أو الظلام فهل نحن -الدعاة- كذلك؟
هل نحن -دعاة المشروع الإسلامي- نغضب للحق أو نغضب لذواتنا؟
وهل المعارك التي تقوم بين أصحاب الفصيل الواحد، وتنشرها الصحف وتزكي أوراها، وتنفخ في لهبها مقصود بها وجه الله أو يقصد بها وجه فلان ورأى فلان؟
هل نحن -دعاة المشروع الإسلامي- نغضب للحق أو نغضب لذواتنا؟ |
إن الغضب غريزة في الإنسان والحيوان لا يمكن منعه، ولكن يمكن التخفيف من أوضاره، والتخلي عن أثقاله، وتجنب أسبابه أو بعضها على الأقل، وتوجيهه الوجهة النافعة حين يكون الغضب من أجل إحقاق الحق وإن خالف رأينا، وإزهاق الباطل وإن وافق هوانا.
وهكذا كان غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، وما كان ينتقم إلا أن تنتهك محارم الله.
وهل كانت مناصبة المشركين العداء وجهاد المسلمين الأولين، وبذلهم للأموال والدماء إلا غضبة للحق ونزولا على مقتضياته .. فما بالنا نجانب هذا المنهج، أويجانب بعضنا هذا المنهج في بعض الأحيان والمواقف، فلا يرى غير نفسه ولا يقبل غير رأيه، فإما رأيه وشخصه وإما غضبه الذي لا يبقى ولا يذر..فأين الحلم؟ وأين الرفق؟ ثم أين الإيثار؟ ثم أين موضعك من الأتقياء الأخفياء الذي إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا؟
إن فلانا إذا أراد ألا يرى الناس إلا شخصه ولا يسمعون إلا رأيه، ولا يقدمون في المهمات غيره، ولا يقضون أمرا إلا بمشورته، قد يشتط إذا تجاوز الناس شيئا من ذلك لسبب من الأسباب، فإن هم فعلوا نالهم غضبه، وأحاط بهم سخطه، وعبس وبسر وأدبر واستكبر وقال: مالكم من داعية غيري، ومنظر مثلي وإلا فهاتوا برهانكم وأجمعوا جموعكم فإني لكم بالمرصاد أكشف أوهامكم، وأظهر أسراركم وأهتك أستاركم .. ثم يتمادى في غضبه، مستظهرا بالشيطان على نفسه، فينطق لسانه في أشخاصهم، وربما أطلق قلمه في كشف أخطائهم مدعيا أن غضبه للحق، والحق أن غضبه لنفسه .. لكنه لم يعد يرى أين الحق من الباطل أم أين الهدى من العمى، وكثيرا ما تكون طامة هؤلاء أن يأتي ضلالهم الحاضر على أثارة من علم سابق فيحدثوا فتنة، قد تشتد حتى تضر بآخرين.
وقد يستمر هذا الغضب لأن أسبابه قائمة ودواعيه لا تتوقف فما من إنسان غير الأنبياء أوتي الحكمة وفصل الخطاب، بل إن الرأي بين الناس مشترك والأمر شورى، والناس يحترمون كل صاحب رأي لا يتعصب لرأيه، ولا يرى أن قوله -وحده- هو الحق، وقول غيره هو الخطأ، بل إن المنصفين يقولون قول الإمام الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، ويتحلون بما تحلى به الشافعي في مناظراته من سلوك (ما ناظرت أحد إلا تمنيت أن يجعل الله الحق على لسانه).
فإين هذا مما يظنه البعض في آرائهم من أنها لا تحتمل الخطأ، ولا يأتيها باطل من بين أيديها ولا من خلفها، فإن أظهر أحد عوارها وأبان بهرجها وفسادها، صب عليه الغضب صبا، وذاق من أفانين الكيد ألوانا، وشهر به واجتنبه الناس وتحزب ضده المتحزبون .. أفلا راجع الدعاة الهداة أنفسهم؟ أفلا جعلوا غضبهم للحق .. أفلا سخروا أنفسهم وأقلامهم وأقوالهم وأموالهم وجهودهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رغبة فيما عند الله، وطمعا في رضاه، فتجازوا عما يصيبهم في ذات الله، ولم يغضبوا لمنصب ذهب، أو رأى مخالف لرأيهم بين الناس اشتهر، أو شخص غيرهم تقدم.
أسمعت أن أحدا غضب أو ثار أو استدبر أمره واستدار لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ولى أسامة (20 سنة) جيشا فيه أبو بكر الذي جاوز الستين أو عمر أو غيرهم من الصحابة .. وحقا حين مات الرسول صلى الله عليه وسلم حاول البعض عزل أسامة بناء على رأي رآه ولكن تمسك أبي بكر بقيادته للجيش حزمت الموقف فلم يخرج عن قيادته أحد من مشاهير القواد المهرة المعروفين .. لماذا الغضب إذن إن أخذ رأي من الآراء، واستحسن اجتهاد معين قد يناسب الظرف الآني فيكون أولى بالتقديم؟ ولماذا الغضب إن قدم هذا أو ذاك لتولي قيادة أو الاضطلاع بأعباء الريادة؟ إننا ننصح له ونبذل معه ما نستطيع ونكون له ردءا وعونا .. لأننا نعمل في سبيل الله وينبغي أن نستعين بما أمر به الله: “واستعينوا بالصبر والصلاة” أسأل الله لي ولكم العافية.
هل نحن مقتدون..؟ (3)
حب النفع للآخرين
“الإنسان القدوة” هو النموذج الواقعي المتجسد الذي يحمل من القيم والفضائل والمكارم ما يعلو به على نوازع الأرض وثقلة الطين، لأن له بالله صلة قوية تمنعه من التردي والسقوط، فهو مشدود إلى العلا، بعيد عن الهوى، أسلم قياده لله فحماه وآواه، وأمده بنصره ورعاه “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” والذين يقتدى بهم لهم في الفضائل والمكارم درجات بحسب استمساكهم بمنهج الله، ولذا كان خير قدوة مأمور باتباعها النبي صلى الله عليه وسلم “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا” ويظل الناس يحاولون الارتقاء نحو هذا المرتقى الصاعد، لعلهم يقتربون من هذه القمة السامقة التي يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في ذلك متفاوتون أشد التفاوت بحسب القدرة والإخلاص والاستمرار والعلم والمعرفة والاشتغال بالعمل الإسلامي العام، الذي يقوم به بعض الدعاة سواء على المستوى الرسمي أم على المستوى الشعبي المتمثل في أصحاب المشروع الإسلامي، هؤلاء الذين ينبغي أن يتجردوا من كل ما يمس ذواتهم، ويجعلوا أنفسهم مذللة للدين، تمثله سلوكا وعملا والتزاما قبل أن تتحدث به أو تعلن للناس عنه ليكونوا قدوة لغيرهم، وسراجا منيرا ينير الدرب، ويزيل الغبش أو الظلام فهل نحن -الدعاة- كذلك؟
هل نحب للآخرين ما نحبه لأنفسنا، ونكره لهم ما نكره لها؟ هل نعتبر صالح المسلمين صالحنا؟ هل نبذل ما نستطيع من نصح أو جهد أو مال في سبيل الآخرين، نعلم جاهلهم، ونعالج مريضهم،
هل نحب للآخرين ما نحبه لأنفسنا، ونكره لهم ما نكره لها؟ |
ونحاول إغناء فقيرهم بإعطائه حقه ومنع الظلم عنه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا؟ هل نصرناه كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انصر أخاك ظالما أو مظلوما”؟ وهل حققنا في المسلمين قول الله: “وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر” هل أقمنا بيننا حقوق الأخوة التي قررها الله سبحانه بين المؤمنين “إنما المؤمنون إخوة”؟ وقول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ربط فيه تحقق الإسلام بحب النفع للآخرين “وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما“؟
هل نحن على قلب رجل واحد نتعاون على البر والتقوى، ونتباعد عن الإثم والعدوان؟ هل تآلفت منا القلوب، وتماسكت منا الأيدي، وتدابرت عنا الأحقاد؟
وفيم يكيد بعضكم البعض وتبدون العداوة والخصاما؟
كم من مرة تناصح فيها الأخوة في المشروع الإسلامي؟ وكم من مرة تصافح فيها ذوو الاتجاهات المختلفة في هذا المشروع الإسلامي؟ هل عفا أحد فيه عن مخطئ أساء، أو جاهل بغى، أو عالم تأول بعد اجتهاد أم أن هؤلاء المخطئين سلقوا بألسنة حداد، وجلدوا بكلمات أقسى من السياط وأشد من وقع النبال عند النزال؟ هل فعل فيهم أحد ما فعله ابن عباس رضي الله عنهما حين سبه أحد المسلمين؟ ماذا كان رد فعله، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن؟ قال له: إنك لتسبني وإن في ثلاث خصال: أني أقرأ الآية من كتاب الله فأود لو أن كل المسلمين يعلمون منها ما أعلم، وأني أسمع بالغيث نزل في أرض المسلمين فأفرح وليس لي في مكان نزوله سائمة، وأني أسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل فأفرح وربما لا أقاضي إليه أبدا.
لقد اكتفى ابن عباس في رده على من سبه بأن قلبه يحب للمسلمين ما يحبه لنفسه، وأنه يفرح لكل خير أصابهم، ويحزنه كل شر نزل بهم.
وتلك هي النفس التي تحمل الدين وتعمق له مكانا في قلوب المسلمين، وتنشره بين الناس أجمعين، فهل نحن كذلك؟
وهل قمنا بحقوق الآخرين؟
هل نحن مقتدون..؟ (4)
التضحية في سبيل الدين
“الإنسان القدوة” هو النموذج الواقعي المتجسد الذي يحمل من القيم والفضائل والمكارم ما يعلو به على نوازع الأرض وثقلة الطين، لأن له بالله صلة قوية تمنعه من التردي والسقوط، فهو مشدود إلى العلا، بعيد عن الهوى، أسلم قياده لله فحماه وآواه، وأمده بنصره ورعاه “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” والذين يقتدى بهم لهم في الفضائل والمكارم درجات بحسب استمساكهم بمنهج الله، ولذا كان خير قدوة مأمور باتباعها النبي صلى الله عليه وسلم “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا” ويظل الناس يحاولون الارتقاء نحو هذا المرتقى الصاعد، لعلهم يقتربون من هذه القمة السامقة التي يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في ذلك متفاوتون أشد التفاوت بحسب القدرة والإخلاص والاستمرار والعلم والمعرفة والاشتغال بالعمل الإسلامي العام، الذي يقوم به بعض الدعاة سواء على المستوى الرسمي أم على المستوى الشعبي المتمثل في أصحاب المشروع الإسلامي، هؤلاء الذين ينبغي أن يتجردوا من كل ما يمس ذواتهم، ويجعلوا أنفسهم مذللة للدين، تمثله سلوكا وعملا والتزاما قبل أن تتحدث به أو تعلن للناس عنه ليكونوا قدوة لغيرهم، وسراجا منيرا ينير الدرب، ويزيل الغبش أو الظلام فهل نحن -الدعاة- كذلك؟
هل نحن -حقا- نضحي التضحية الواجبة في سبيل نصرة هذا الدين؟ إن الغايات العظيمة تتطلب تضحيات جسيمة، وأي تضحية تكون هينة بسيطة أمام عظمة هذا الدين.
هل نحن -حقا- نضحي التضحية الواجبة في سبيل نصرة هذا الدين؟ |
لأنه النعمة الكبر التي امتن الله بها على المؤمنين ورضيها لهم “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” وقد فهم المسلمون الأولون قيمة هذه النعمة (الدين) في حياتهم وآخرتهم فاسترخصوا كل شيء في سبيله، قدموا أموالهم وأولادهم، وأنفسهم لإعلاء كلمة الله، وجعلوا حياتهم وقفا على نصرته، وتحملوا ما تحملوا من جهاد لينتشر نور الله بين العالمين وأي تضحية تأتي بعد تضحيتهم لن تكون على مثال ما قدموه، ولا قريبة مما فعلوه وأحداث الصدر الأول من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده لا تترك مجالا لمقارنة ولا حتى لمقاربة في الأفعال مع الذين يظنون -اليوم- أنهم يضحون وهم يجنون ويحصدون ثمرة ما يعملون، حيث يجدون أنفسهم وقد صار لهم أتباع وصارت لهم كلمة مسموعة بين مجموعات من الناس، ولا يحرمون من السفر هنا أوهناك، ليؤدوا بعض المحاضرات، ويتم الاتفاق معهم على كتابة بعض المقالات، أو يحضروا بعض الاجتماعات، ثم يظنوا أنهم قد ضحوا وأنهم قد بذلوا وأدوا لهذا الدين بعض ما يجب عليهم أداؤه، وأن تضحياتهم قد تجاوزت الحد، وبلغت الأوج، فيعتزون بما فعلوا، وهم لم يفعلوا شيئا إلا أنهم خرجوا عن إطار العرف الفاسد، الذي أصبح الدين آخر ما يتصل به أو يعبر عنه، وهذه ليست تضحية، لأنها واجب من واجبات المسلم التي تجعله ينأى بنفسه عن كل ما يرتضيه العرف الفاسد ويرتفع بنفسه وبغيره عن السفاسف والدنايا “وإذا سمعوا اللغو أعرضو عنه” “وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذا مثلهم“، فهل إن تجنبنا أمثال هذه الأشياء نكون قد ضحينا أم نكون قد التزمنا بشيء ديني أوجبه الله علينا؟
وهل التضحية ترك المعصية أم هي التسابق في حمل الأعباء وتخفيف اللأواء على المسلمين؟ هل التضحية عند المسلمين غير بذل وعطاء يتفاوت فيه المسلمون ابتداء من شق تمرة “اتقوا النار ولو بشق تمرة” وانتهاء بتقديم النفس في سبيل الله “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون“.
وبين البدء والانتهاء في سبيل الحق ومن أجله درجات كثيرة يتفاوت فيها المؤمنون وتتنوع وتتعدد من أجلها التضحيات، التي تتجمع لتصد عن الدين شرا قادما، أو تدفع بالدين شرا قائما “بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق” وبدون هذه التضحيات يبقى الشر منتفشا والحق منكمشا.
وكان السابقون في الإسلام هم أكثر الناس تضحية بالمال والوطن والأهل والولد والعشيرة والتجارة “قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين“، لقد أحبوا الله ورسوله فقدموا كل شيء، قدم أبو بكر كل ماله، وقدم عثمان الكثير من المال، وسمع أبو طلحة الآية الكريمة: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون“، فجعل بستانا له من أجمل بساتين المدينة تجري فيه عين ماء في سبيل الله، وقسم عبدالرحمن بن عوف ماله نصفين جاء بأحدهما إلى رسول الله لينفقه حيث شاء في مصالح المسلمين، وفعل مثله أحد فقراء المسلمين، وحملوا جميعهم السلاح في وجه البغاة المتجبرين ليردوهم إلى الحق الذي جاء من عند رب العالمين، فأين نحن من هذه الأعمال؟ ومتى نقوم بها أو نؤدي بعضها؟