بقلم الشيخ / د. جاسم مهلهل الياسين

الديمقراطية والتربية:

النظرية الديمقراطية في التعامل نظرية لها تقديرها واعتبارها، إن وضعت في محلها الصحيح، واستخدمت في زمانها المناسب، وبين الذين يحسنون المشورة لخبرتهم العملية، وحنكتهم السياسية، وسلامة قراراتهم الإدارية … هؤلاء وأمثالهم تنمو بينهم الديمقراطية وتزهر آثارا إيجابية نافعة في مجالات الحياة المختلفة وقضاياها المتعددة … أما إن استخدمت الديمقراطية في غير مكانها وبين الذين لا يحسنون -لصغر سنهم وقلة إدراكهم- ما يترتب على عواتقهم من مسئولياتها فإنها -حينئذ- تضر ولا تنفع، وتسيء ولا تحسن، ويكون شرها أعظم من خيرها.

القضايا الاجتماعية لا يعيرها الناس التفاتا لأن معظم انتباههم متجه للقضايا السياسية أو الاقتصادية.

وليس حديثنا اليوم عن القضايا السياسية، التي تلقى اهتمام معظم الناس ومشاركتهم بالرأي، ولا عن القضايا الاقتصادية، التي يخوض كل الناس في حديثهم عنها، وخاصة إن اتصلت بما يمس حياتهم اليومية، فمثل هذه القضايا يلتفت الناس إليها ويبحثون عن حلٍ لها ويتداولون الرأي حولها، ويقدم المختصون أبرز الحلول وأقربها للتخلص من آثارها، وإبعاد كثير من خسائرها عن الناس.

أما في مجال القضايا الاجتماعية فإنها لا تلقى من الناس نفس الاهتمام، وإن كانت تثير في النفوس كثيرا من الآلام والأحزان. وخاصة عندما يستخدم الناس فيها الديمقراطية، فيضعونها في غير موضعها ويستعملونها مع غير رجالها.

لقد أعطت النظرية الديمقراطية الناس حقوقهم في التعبير عن آرائهم، وأعطتهم الحرية في اختيار الألفاظ التي تحمل الآراء والأفكار للآخرين، ولكنها لم تعطهم الكياسة في اختيار الألفاظ ولا الفطنة في استخدام ما يقال وتجنب ما لا يقال، لأن مرد الكياسة والفطنة إلى التربية العميقة والممارسة التوجيهية الصحيحة، التي تقوم بها المؤسسات التربوية ابتداء من الأسرة حتى الجامعة، وبناء على هذا فليس كل من ملك حق التعبير أحسن العبارة، ولا كل من كان له رأي أحسن إظهاره، فقد يأتي التعبير مجافيا للمقصود، وحتى لا يحدث ذلك قال البلغاء قديما: لكل مقام مقال ولكل دولة رجال.

 

لماذا انقطع الاحترام؟

وإذا استشرنا من ليس أهلا للمشورة، وأفرطنا في الاستماع لكل الآراء والاعتراضات من غير أن يكون هناك حد لوضع الأمور في نصابها، وحسم الأشياء التي يدور التنازع حولها .. فإن ذلك يولد –لا أقول جرأة في إبراز الآراء- بل أقول تهورا في الكلام، وقد يصحبه لمز أو غمز في بعض الأحيان، مما يعني جرأة على المسئول تفقده الهيبة التي يجب أن يستصحبها دائما معه حيثما حل.

ولا تنس -أخي القارئ- أننا نتحدث عن الجوانب الاجتماعية التي تقوم بها المؤسسات المختلفة وفي مقدمتها الأسرة، التي تخلى فيها الأب عن دوره التربوي الأصيل الذي لا يمكن الاستغناء عنه أو تعويضه، تحت وطأة ذيوع وانتشار ما سمي بـ “النظرية التربوية الحديثة” التي تترك للأولاد في بيتهم الحبل على الغارب، يتصرفون كيف يشاؤون، ويقولون ما يريدون، دون مراعاة لمن يتحدثون، ولا أمام من يتصرفون، بحجة تربيتهم تربية ديمقراطية (صحيحة) مما أوجد نوعا من التسيب، سقطت معه هيبة الوالدين في بيتهما، فما عاد لوجودهما اعتبار، ولا لقولهما –في كثير من الأحيان- تقدير، بسبب هذه النظرية التربوية الجديدة على حياتنا والمخالفة للمأثور من عاداتنا وتقاليدنا، فقد كان من مأثور القول عندنا: “لاعب ولدك سبعا، وأدبه سبعا، وصاحبه سبعا” ثم أترك له الحبل على الغارب، أي بعد أن يصير رجلا مكتمل الرجولة قد تعلم وتربى وعرك الحياة وعركته في ظل توجيه سديد من والدين يعرفان واجبهما ويقومان بحق أبنائهما عليهما. يضعان الحب والحنان في موضعه، ويضعان الشدة -كذلك- حين يقتضي الأمر في موضعها من إفراط ولا تفريط في أي جانب من الجوانب، فتستقيم حياة الأبناء، وتظل مهابة الوالدين باقية تحتفظ بها القلوب وتظهر في السلوك.

ليس كل من ملك حق التعبير أحسن العبارة، ولا كل صاحب رأي أحسن إظهاره.

وكان المأثور من تقاليدنا أن الأبناء يقبلون رؤوس الآباء وأيديهم صباح مساء في بر ظاهر وحب غامر واحترام وافر، كانوا يفعلون ذلك دون شعور بالدونية، فلم يكونوا معقدين ولا انطوائيين .. ولم يعقهم ذلك ويمنعهم من التفوق في حياتهم وأعمالهم، فقد خرج من هذا الجيل، الذي حرص على بر الوالدين واحترام الكبار من حمل أمانة المسئولية في كثير من المواقع، فأحدثوا فيها أعمالا جليلة وآثارا عظيمة، وكان من هذا الجيل كل الذي تولوا مراكز مرموقة، في مراكز البحث العلمي في الدول المتقدمة، التي تحرص على أن تنتفع بخدمة هؤلاء الذين تربوا على احترام وبر الوالدين، بل احترام كل كبير والرحمة بكل صغير، لأنهم تربوا تربية أصيلة فيها الاعتبار كل الاعتبار للقيم التي تجعل المرء جادا في حياته، بارا بوالديه، وفيّاً لوطنه، حريصا على إتقان عمله، مراقبا ربه في تعامله مع الآخرين.

ولسنا -بطبيعة الحال- نريد ذلك الأب الذي يتحرك في بيته وكأنه قائد عسكري في أرض معركة، يستنفر كل من في البيت بحيث يسكت المتحدث، ويقف الجالس ويصمت الجميع انتظارا لأمره العظيم، لسنا مع هذه النوعية من الآباء، فربما كان ضررها أكثر من نفعها، وكان غيابها أرجى لدى الأبناء من حضورها، ولكننا لا نود للأب أن يدخل بيته فلا يعيره أحد التفاتا ولا اهتماما، ويتحدث فلا يعيرون حديثه انتباها ولا انصاتا، ثم يسكت على ذلك الإهمال بحكم التربية الحديثة. لأن ضرر هذه الحالة أعظم من كل ضرر، وهذه (التربية) لا تنتج غير التسيب والإهمال الشديد في حق الوالدين وحق الأسرة وحق العمل وحق الوطن، بحيث يغلب على الأبناء لا مبالاة غريبة بكل ما يدور حولهم، فلا يعتمدون على أحد منهم وتضيع المسئولية من بينهم، ولا يبقى إلا أن ينظر كل فرد منهم لما يريده هو -وحده- وإن كان من بعده الطوفان.

التربية الصحيحة التي تنتج الاحترام للوالدين وتشعر الجميع بمسئولياتهم نحو أسرهم وأوطانهم هي التربية المطلوبة .. والأمر يحتاج إلى وقفة جادة من جميع المؤسسات المعنية لإقرار هذه التربية السلوكية، بحيث تختفي مظاهر الازدواج من حياتنا وتتلاشى بين الأجيال .. وإن ليحزنني أن أرى أبا يسير مع ابنه أو يجلس معه وفي يد الابن سيجارة يدخنها، وينفث دخانها ربما في وجه أبيه. وإني ليحزنني أن أرى أما محجبة تسير مع ابنتها المتبرجة، وقد أخذت زينتها وازينت بكل أنواع الزينة، لا تبالي وهي في طريقها مع أمها بنظرات المتطفلين ولا بكلمات الماجنين. وإن ليحزنني أن أرى مجموعة من الأبناء القادرين قد سعوا بأبيهم أو بأمهم إلى دار العجزة في عقوق ظاهر من أجل أسباب تافهة … وما يحزنني في المجالات الاجتماعية أكبر من أن يحصى ويحصر، وما نتج هذا إلا من فقدان الاحترام، وغياب هذه القيمة من حياة الجيل الناشئ، الذي لن يقف تفريطه -إن أهملنا علاج هذه الحالة- عند هذه القيمة وحدها، لأن القيم كلها عقد تنتثر حباته إن انقطع نظامه. أما إن نحن أمسكنا نظامه وعقدنا خيطه تماسكت حباته وبقيت. وهكذا القيم، فهل نحفظها ونحافظ عليها قبل أن تقضي -بغيابها وفقدانها- على الأخضر واليابس؟

 

القيم عندنا وعندهم:

لقد سقطت القيم الأخلاقية في مجال العفة والاستعفاف عند غير المسلمين من زمن بعيد، وطغت على حياتهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وارتضاها الجميع بحيث لم تعد إثما يشين صاحبه إلا إذا صحبها كذب في الكلام، أو حدثت في مكان لا يليق أن ترتكب فيه الفواحش والآثام كالبيت الأبيض مثلا، حينئذ قد تجد بعض المنتقدين الرافضين لما صحب الفاحشة وأحاط بها، وليس رفضهم للفاحشة في ذاتها، ولا غرابة بعد كل ما قيل أو نشر في فضيحة “مونيكا” أن تزداد لدى الشعب الأمريكي شعبية كلينتون، حيث تسقط القيم الأخلاقية وتحيا وتعيش الأعمال الإباحية. لكن الغرب في عمومه ظل يحافظ -ولو بقدر- على قيم العدل وحقوق الإنسان وكرامته، والاهتمام بالعمل، والصدق في التعامل، والبعد عن الغش والتزوير، وغير ذلك من القيم العملية السلوكية على الأقل في بلادهم، أما عندنا في بلاد الشرق فإننا نحافظ كثيرا على قيم العفة والاستعفاف، ولا نبالي بكثير من القيم الأخرى، فقد تضيع قيمة العدل، أو تسقط حقوق الإنسان، أو غير ذلك من القيم التي نفقد بغيابها الكثير.

الجيل الذي تربى على القيم الأصيلة خرج منه كثيرون من الناجحين الذين يتولون مناصب عليا في أهم المراكز العلمية في البلاد المتقدمة.

إن الغرب وهو يحافظ على بعض هذه القيم إنما يحافظ عليها لأنها تحقق له موازين الحياة السليمة، فهو يرى فيها مصلحته، أما نحن فإننا نرى أن هذه القيم تحقق لنا -أيضا- موازين الحياة السليمة، إلى جانب أن فيها ثواب الله؛ لأنها مستمدة من الدين ومن هدي الرسول الأمين … ولقد أضعنا كثيرا من هذه الفضائل، وكان مما ضاع من قيمنا المستمدة من ديننا احترام الكبير وبر الوالدين، –عند البعض- وفقدان الحياء، وعدم الالتزام بالسلوك العام، أو العرف المتداول بين الناس، حتى إنك ترى في الشارع الواحد كثيرا من مظاهر الحياة المنتشرة في الشرق أو الغرب مما ينذر بغزو اجتماعي تسقط أمامه بعض التقاليد الأصيلة في المجتمع. وتأخذ في طريقها بعض القيم التي تربت عليها أجيال وأجيال.

فهل نحاول أن نقف في وجه هذا الغزو الاجتماعي الوافد علينا من الشرق ومن الغرب قبل أن يهدم ما تبقى لدينا من قيم تحفظ علينا حياتنا، ونقيم في ضوئها موازين سلوكنا، أم أننا سنترك الأمر فوضى، لا ضابط لها ولا التزام نحوها، بحيث نصل إلى التسيب في مظاهر الحياة المختلفة؟

 

لماذا التسيب؟

التسيب في حياتنا أوضح من أن يُشار إليه أو يُدلَّ عليه، فمظاهره عديدة في شوارعنا ومدارسنا ومستشفياتنا وفي كثير من مؤسسات الدولة، وفي التعامل مع المال العام (ممتلكات الدولة) وفي غير ذلك من المواقع والأماكن، وهو ألصق بنفوس بعض الناس من كثير من الرغبات، ولذا فهم ينشرونه أينما وجدوا، دون أن يبالوا بأنهم –بعملهم هذا- ينشرون الفوضى، ويشيعون الخراب في أرجاء الديار، فلا صلاح ولا عمران بغير انضباط ونظام، فإذا فقد الانضباط وضاع النظام فماذا تنتظر لأناس هذا حالهم؟

ولعل من أسباب ذلك ضعف التربية الدينية والوطنية. أما ضعف التربية الدينية فهو لا يخفى على أحد في الشرق أو في الغرب. ولا يشك صاحب عقل ولب في سلامة التربية الدينية من حيث وسائلها وأهدافها. وهي تربية يوشك الجميع أن يبتعدوا عنها. وهذا سبب كثير من البلاء في كثير من البلاد. ولن أتحدث في هذا الجانب الآن.

 

ضعف الإحساس بالمواطنة:

وأما ضعف التربية الوطنية فلا يخفى كذلك على أحد، لأنه سبب كثير من الدمار الذي يلحق مرافق وطنية عديدة، في سلامتها قوة للوطن، وفي اعتلالها واختلالها وبال على الوطن … وضعف هذه التربية الوطنية أدى إلى فقدان الإحساس بالانتماء الوطني، سواء أكان انتماء معنويا أخلاقيا لبلده، أم انتماء ماديا. إن الشخص الذي فقد الانتماء الوطني الحقيقي لا ينتمي إلا لمصلحته فقط، ولذا فهو يحافظ على ممتلكاته الخاصة، لأن بينه وبينها رابطة مادية ومعنوية، فهو حريص على سيارته -مثلا- ولا حرص عنده على سيارات الآخرين، لأنه لا يرى صلة تربطه بممتلكاتهم، ولذا فإنه غير حريص على ممتلكات الدولة، لأنه لا تربطه بها رابطة مادية ولا رابطة معنوية، فالوطن -في رأيه-لا يزيد عن مكان من الأمكنة غير مميز بميزة خاصة … إن تاريخ هذا الوطن مجهول لديه، إن إحساسه بأن ازدهار هذا الوطن عائد عليه مفقود عنده … إن القيم التي يحرص عليها هذا الوطن لا تجد عنده قبولا، ولذا لا يأنف أن يلبس قميصا عليه علم دولة أخرى، ولا يستنكف أن تحمل ملابسه الخارجية صورة ساقط من الغرب أو ساقطة، إنه بهذا يعلن الانتماء لأرض غير أرضه، ويعلن الإيمان بقيم غير القيم التي آمن بها الوطن ومن فيه. إنه يقول أنا نبت غير نبتكم، وإن نشأت في أرضكم. أينتظر أن يدافع أمثال هؤلاء عن أرض أو عرض؟

ضعف الإحساس بالمواطنة لا يرجع إلى تصرفات الأفراد والمؤسسات فقط، بل يتعدى ذلك إلى تصرفات بعض المتنفذين.

إن الوطن لديه سفينة تعبر به من شاطئ لآخر، وتستوي عنده مع هذه السفينة أي سفينة أخرى تؤدي هذه المهمة، فلماذا يتعب نفسه بمشاكل الوطن؟ ولماذا يحرص على تقدمه؟ ولماذا يحافظ على ممتلكات الآخرين؟

إنه لم يسمع أو يقرأ في يوم من الأيام قول ابن الرومي:

وحبب أوطانَ الرجال إليهم            مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمُ             عهود الصبا فيها فحنّوا لذلكا

ولم يسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أخرج من مكة:

“والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت” إنه لم يسمع عن حب الأوطان، فنمى في قلبه الدمار الذي يخرب الأوطان ويقلق الغيرة عند الإنسان الحر الغيور على بلده ووطنه.

دور التربية والإعلام:

ولعلك تسأل: ومن المسئول عن ذلك؟ ونقول مجيبين عن هذا السؤال: إن المسئول بالدرجة الأولى مؤسستان: المؤسسة التعليمية، التي لا تنمي الانتماء ولا تعلم الإنسان أنه يعيش في مجتمع من البشر، وأن له حقوقا قبل الآخرين يأخذها، وعليه واجبات نحوهم يؤديها، وأخذه لحقوقه وقيامه بواجباته متساويان لا تفضيل بينهما لحالة على أخرى .. وإن وجد تفضيل فإن إيثار الآخرين أولى وأحق، ليتخلص الإنسان من أثرته وأنانيته.

والمؤسسة الأخرى هي المؤسسة الإعلامية التي تقدم -في معظم موادها- ما يخدش الانتماء الوطني، ويبرز الحقوق دون الحرص على تقديم الواجبات، ولذا فدغدغة الغرائز والشهوات ونماء الثروات عن طريق النصب والاحتيال أو الربا والقمار أو الغش والتزوير هي أبرز ما تدور حوله المسلسلات والأفلام والمسرحيات، وكلها في النهاية تصب في خانة المصالح الذاتية والمكاسب الشخصية. فهل تثمر مثل هذه الأشياء حرصا على أملاك الآخرين أو حبا لممتلكات الدولة أو حثا على القيام بالواجبات الملقاة على عاتق الفرد؟ وبالتالي: هل تحقق هاتان المؤسستان التربية الوطنية الصحيحة؟

ومما يؤسف له أن الأمر ليس قاصرا على هاتين المؤسستين وحدهما، وإنما تعداهما إلى كثير ممن لهم شأن في تسيير شئون البلد، حيث يساهم في هدم الإحساس بالمواطنة عدد غير قليل من المتنفذين على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي. والمتابع للصحف اليومية يجد أمثلة لا تحصى على ذلك، ومنها أن الذين لم يسددوا فواتير الكهرباء كانوا بعد التحرير قرابة 400 ألف، وقد أعلنت الوزارة الآن –في فرح ظاهر- أنهم يبلغون الآن قرابة 40 ألفا فقط، والعجز في عدم مطالبة هؤلاء بدفع ما عليهم من أموال الدولة مرجعه إلى عدم وجود عقد بين هؤلاء وبين الدولة، أو اعتمادهم على المكرمة الأميرية التي أعلنها سمو أمير البلاد بعد التحرير بعدم قطع التيار الكهربائي عن أحد.

الوطن -عند الجيل الجديد- سفينة يعبر بها من شاطئ لآخر، وتستوي عنده هذه السفينة مع أي سفينة أخرى تؤدي نفس الغرض.

وليس معنى ذلك أن يأخذ إنسان ما ليس له بحق، وأن يحرم الدولة من قيمة عملها وجهدها حين يجد مخرجا قانونيا لعمله أو مستندا يستند إليه .. وإننا إن فتحنا ذلك نكون قد فتحنا الأبواب لكل من يستطيع أن يأخذ شيئا من  أملاك الآخرين دون أن يلاحقه القانون أن يفعل ذلك.

ولعل هذا الجمود في الإحساس بالمواطنة لا يرجع إلى تصرفات الأفراد -وحدهم ولا إلى بعض المؤسسات وحدها- بل يرجع كذلك إلى بعض أجهزة الدولة والمتنفذين فيها، لأنهم يسمحون بصورة أو بأخرى للبعض بأن يأخذ من أموال الدولة ما يستطيع الوصول إليه، وحين لا يحاسب هؤلاء على ما أخذوه يصبحون قدوة للمواطن البسيط الذي يرى ما فعله هؤلاء، فلم يحاسبهم قانون، ولم يلاحقهم قضاء، ولم ينبذهم المجتمع، بل إن هناك من غطى على أعمالهم بسن القوانين أو بإلغائها. هؤلاء يدفعون المواطن البسيط أن يفعل فعلهم وهو يدرك أنه يأخذ القليل في مقابل الكثير الذي أخذه الآخرون دون أن يدرك أن ما أخذه هو أو غيره -قلّ أو كثر- إنما هو جزء من أملاك الدولة، وهو في النهاية ملك لجميع المواطنين لا ينبغي أن يستقل به شخص أو أشخاص، ولا أن يدخره لنفسه ويحجبه عن الآخرين شخص أو أشخاص، لأن هذا خلل بحق المواطنة وبالتربية الوطنية ذاتها.

إن قرب عودة السياسيين والنواب وغيرهم من المهتمين بقضايا الوطن إلى استئناف عملهم بعد انتهاء الصيف يجعلنا نضع أمامهم بعض هذه الهموم الاجتماعية التي تشغل البال وتحزن القلب لعلها تجد على أيديهم حلا منصفا، فيه الخير لأبنائنا وبلدنا.

 

مانشيتات

1- القضايا الاجتماعية لا يعيرها الناس التفاتا لأن معظم انتباههم متجه للقضايا السياسية أو الاقتصادية.

2- ليس كل من ملك حق التعبير أحسن العبارة، ولا كل صاحب رأي أحسن إظهاره.

3- الجيل الذي تربى على القيم الأصيلة خرج منه كثيرون من الناجحين الذين يتولون مناصب عليا في أهم المراكز العلمية في البلاد المتقدمة.

4- ضعف الإحساس بالمواطنة لا يرجع إلى تصرفات الأفراد والمؤسسات فقط، بل يتعدى ذلك إلى تصرفات بعض المتنفذين.

5- الوطن -عند الجيل الجديد- سفينة يعبر بها من شاطئ لآخر، وتستوي عنده هذه السفينة مع أي سفينة أخرى تؤدي نفس الغرض.