بقلم الشيخ د. جاسم المهلهل الياسين
إنما الميت ميت الأحياء:
ماتت الأرض مواتا: خلت من العمارة والسكان فهي موات، (المعجم الوسيط)
وإحياؤها يكون بالغرس والزرع والبناء، وأن تدب فوقها حركة ونشاط الأحياء، لأنها صارت أرضا عامرة، يستفيد منها بنو الإنسان، وقد يستفيد منها الحيوان ويأوي إليها الطير … وجهد الإنسان في تعمير الأرض وإحيائها غير ضائع في ميزان الإسلام، لأن ثواب ذلك عند الله لا يضيع في الدنيا ولا في الآخرة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحيا أرضا ميتة فله خير أجر..” صححه الألباني (ص.ج.ص 5974)
وقال: “من أحيا أرضا ميتة فهي له..” صححه الألباني (ص.ج.ص 5975)
فعمّار الأرض لهم أجرهم في الدنيا والآخرة .. وأعظم من هؤلاء أجراً العاملون على إحياء الموات من البشر، الذين لم يعرفوا الصراط المستقيم، أو عرفوه ولكنهم ينحرفون عنه ويبتعدون عن سبيله، ويجعلونه خلف ظهورهم، وهم يتجهون تلقاء الضلال الذي أشاعه المفسدون وأذاعه المنحرفون، وزينه للغافلين الشياطين الذين لا يكفون عن الشر والمنكر، ويقدمون للشباب من القصص الرخيصة والتمثيليات الهزيلة والمسرحيات الهابطة ما يجعل غريزته تزداد التهابا فوق التهابها، وتأججا فوق تأججها، ويزداد الصراع في نفسه بين الخير والشر، وبين المعروف والمنكر وبين الفضيلة والرذيلة.
إن الشباب هنا أحوج إلى الإحياء من الأرض الموات، لأن الأرض إن لم تنبت الزرع فليس من الضروري أن تنبت الشوك، لأنها قد تصبح جرداء لا تنبت شيئا.
والإنسان إن لم يعش للخير عاش للشر، وإذا لم يصلح أفسد، وإذا لم ينفع أضر وهو -في معظم الأحوال- يجد على الشر أعوانا ورفقاء وأدّلاء، وما لم تمتد إليه يد حانية تنقذه من الأشرار وتخلصه من الفجار فإنه يهلك نفسه ويهلك غيره.
وإحياء هذا الشباب بالدين والقرآن والسنة والأخلاق والفضائل والقيم أعظم أجرا عند الله: “لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النَّعم” ولا تعجب إن اعتبرنا أمثال هؤلاء مواتا يستحقون الإحياء فإننا قد استعملنا تعبير القرآن الكريم: “أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها” فالضالون والغافلون والغارقون إلى آذانهم في أوحال المعاصي في حاجة إلى من ينتشلهم، أو هم في حاجة إلى إحياء جديد يبدد الظلام من حولهم، وينشر الضياء في قلوبهم وحياتهم.
من يحيي الشباب؟
إن الشباب هم نصف الحاضر وكل المستقبل، ولا تستطيع جهة واحدة –مهما زاد إخلاصها وكثر جهدها- أن تقوم بهذا العبء، الذي يترتب على النهوض به الاطمئنان إلى مستقبل الأمة، وإلى أنها تسير في الطريق الصحيح.
إن جميع المؤسسات الرسمية والشعبية عليها واجب المساهمة في هذه المهمة بقدر ما تستطيع، وإن جهود العلماء العاملين في مجالات تخصصاتهم المختلفة لازمة للقيام بعملية الإحياء على النحو السليم.
وحين أطلب من المؤسسات والعلماء القيام بهذه المهمة لا يفوتني ولا يغيب عن ذهني ما يقدمه الجميع في مجالات العمل الرسمية لهذه الغاية، غير أني أتجاوز الرسميات إلى مجال المبادرات، وأن تكون الجهود التطوعية في غير أوقات العمل الرسمية ميسورة موفورة، تؤدي دورها في رعاية النشء، وإتمام بنائه بعقد الصلة الوثيقة بينه وبين الله، حتى تكون الرقابة الذاتية التي لا تغيب من نفس الإنسان هي المهيمنة على سلوكه ونشاطه، وهو يتحرك في الحياة يبني بمنهج الله نفسه، ويصبح -بذلك- مع إخوانه في مجتمعه لبنة قوية متلاحمة لا تتفتت عند أول ضربة.
تكامل الجهود:
والجهود المتكاملة هنا لها ضرورتها، فلا يمكن أن يكتمل بناء إنساني أو عمراني إذا كان هناك هدّامون لهذا البناء تحت أي حجة من الحجج
متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وبناء الإنسان أو إحياؤه أمر يحتاج إلى صبر جميل وجهد طويل، وبعد عن التشعب والتشتت، حتى لا تتضارب عنده الأفكار، وتتناقض في ذهنه الاتجاهات فيسلب بعضها بعضا ويخرج الإنسان في النهاية مشوش الفكر، مضطرب الوجدان، لا يدري على أي جانب يقف، وفي أي اتجاه تكون السلامة والأمان، فيصبح بذلك مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، لأن هؤلاء يجذبونه مرة، وأولئك يجذبونه أخرى وهو -لفراغ عقله وقلبه- لا يدري أين يستقر. وحتى نقضي على هذا التذبذب والتردد لا بد أن نعرف ماذا نريد من الشباب؟
ماذا نريد من الشباب؟
إننا نريد من شبابنا أن يكون جادّاً في عمله وحياته يستمتع –أحيانا- باللهو البريء، الذي يدفعه بعد ذلك إلى استمرار الجد، وإلى تحمل المسئولية والاحساس بواجبه نحو أهله وقومه ووطنه.
نريد من الشباب أن يرعى وطنه وأن ينمي بناءه وأن يحافظ عليه وألا يفرط فيه، وأن يقدر النعم التي وهبها الله هذه الأرض التي نعيش فوقها، فلا يسرف فيها ولا يبذر وهذا وغيره لا يتم إلا في ضوء تربية إيمانية قوية تجعل الشباب يتخذ الدين (عقيدته وعبادته وشعائره وشرائعه) مرجعا أعلى في كل حكم وكل سلوك، لأن في دين الله الخير كل الخير “قل إن الله لا يأمر بالفحشاء”، “قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد..” والرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك من خير إلا دلنا عليه، وما ترك من شر إلا نهانا عنه. فكيف نجعل هذه المعاني تستقر في قلوب الشباب وعقولهم، وبيننا من يسيء إلى الذات الإلهية، أو يسخر من الرسالة المحمدية، أو يجعل قواعد الدين وأسسه مجالا للاستهزاء بدعوى حرية الرأي، وحرية الفكر وحرية التعبير؟
ولهذا فإن الجهود المتكاملة ضرورة لازمة ينبغي أن نوجدها بيننا ونلتزم بها في تصرفاتنا في ضوء احترام الدين ومبادئه وقيمه التي لا خلاف فيها بين الناس، وإذا كان الناس جميعهم يتفقون على أنه من العيب وليس من الحرية أن يسب الولد أباه، فكيف لا يتفقون حول من يسب الذات الإلهية؟ وبأي حجة يحتجون؟ وكيف نربي أبناءنا على القيم والفضائل وهم يرون اختلافا في رأينا وسلوكنا وقبولنا أو رفضنا لمن يؤذي الله ورسوله والمؤمنين؟ وإن كل دعوة مناقضة للدين، تؤثر في تربية الشباب وفي بناء المجتمع، وتسبب أضرار كبيرة تجنبها الأمة والمجتمع ولو بعد حين.
ومن هنا فإن أساس إحياء الشباب –إن أردنا له وللمجتمع النفع- أن يرى الجميع متفقين على القيم العليا التي يحتكم إليها .. وقيم الدين وشعائره وشرائعه هي أساس كل بناء وأساس كل إحياء .. فتكون هي المرجعية التي يرجع إليها الجميع والرابطة التي تربطهم حتى لو اتجهوا في الحياة وجهات شتى، فإنهم يظلون مخلصين لدينهم، جاعلين جهودهم في خدمته لا في نقضه وهدمه.
ولنذكر جميعا هذا النموذج: (إن العالم اليهودي الذي اخترع مادة متفجرة جاءت كثمرة لتخصصه العلمي، كان إلى جانب هذا التخصص العلمي الدقيق يتمتع بثقافة توراتية ورؤية دينية توجه ملكاته وتوظف تخصصاته للعمل على تحقيقها وذلك في الوصول إلى أرض الميعاد وإعادة بناء الهيكل، إنه لم يكن عاجزا عن توظيف مخترعه العلمي من خلال تلك الثقافة، لقد فرض على الحلفاء في الحرب العالمية أنه لن يبوح لهم بسر المخترع الذي يمكنهم من النصر ما لم يأخذ عليهم العهد في تأييد حق يهود في فلسطين .. وهذا الذي كان، وقدم هذا العالم لأبناء دينه ما لم يستطع تقديمه جيش من الجهلاء أو العلماء الفاقدين للبصيرة والثقافة، والذين لا تزيد علومهم عن أن تكون نسخا جديدة مما قرأوا أو معاجم جامدة في المكتبة!!) (انظر حول إعادة تشكيل العقل المسلم)
إن هذا العالم كانت مرجعيته دينية يعمل من أجلها ويخدم في سبيلها، ويقدمها على ما سواها ورغم أن يهوديته الحاضرة قد لحقها زيف كبير وتحريف عظيم قام به الأحبار بحسب أهوائهم ورغباتهم إلا أن ذلك لم يمنعه من تسخير علمه وعمله وجهده لمصلحة اليهود في الشرق والغرب حتى لو اغتصبوا الأرض وطردوا أصحابها وارتكبوا كل موبقة ومهلكة، فلماذا ليس بيننا مثل هذا العالم حتى في بعض فروع العلم التي نبغ فيها بعض علمائنا العرب؟ إن جهودنا واختلاف نظرتنا لديننا ومبادئنا وقيمنا، وعدم الاتفاق على مرجعية عليا نحتكم بالفعل والقول والسلوك إليها أدى بنا إلى ما نحن فيه من خلافات وتذبذبات.
ومن زرع حنظلا لا يحصد تمرا، ومن زرع شوكا لا يجمع عنبا. فهل تجد هذه الدعوة صداها أو أنها تذهب صرخة في واد؟