بين المواطن والدولة:

الدولة أسرة كبيرة، فعلاقتها بمواطنيها هي علاقة الأسرة بأبنائها.

فالأسرة توفر الرعاية الكاملة لأبنائها من الجوانب التربوية والصحية والمعيشية بما فيها من مسكن وملبس ومأكل ومشرب، وتراعي الجوانب النفسية والمعنوية لأبنائها، فلا تميز فردا منهم على آخر بشيءٍ، لأن هذا مخالفة للعدل الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم” وليس ذلك بمانع لها من مكافأة المجدّ المجتهد، ومعاقبة الكسول المقصر. وتظل الأسرة ترعى وتوجه وترشد وتقوّم، حتى يشب بنوها.

والدولة في ذلك كالأسرة تحافظ على الأمن العام في الداخل وتحرس الحدود من الخارج، وتتكفل بتحقيق المطالب الأولية ومن أهمها المسكن والعمل المناسب، وتوفير السلع التي لا غنى عنها، وتحقيق العدالة بين أبنائها في الحقوق والواجبات، ليشعر الجميع أنهم سواسية كأسنان المشط، فيشتركوا في المغنم ويشتركوا في المغرم، كل بقدر طاقته، وسعة قدرته. دون أن يفقدوا في أي وقت من الأوقات احترامهم للدولة وتقديرهم لجهودها، والعمل على مساعدتها في إعلاء شأنها، وتأييدها في قرارتها التي تعبر عن رغبة شعبية عامة، فتكون القرارات الحكومية صدى للمشاعر الشعبية فلا تلقى من الشعب إلا الترحيب .. لأن الناس ألفوا أن دولتهم تعمل لصالحهم، وتبني نفسها بتكاتفهم، وتأبى أن تتخذ  من القرارات ما يخالف رغباتهم ويعارض آمالهم.

وبذلك تظل الصلة بين الدولة والمواطنين قائمة على الحب الذي يدفع إلى التضحية -إن اقتضى الأمر- بالمال والنفس من أجل حفظ الوطن ورفعته وتقدمه، ويصبح كل مواطن جنديا في ميدانه، لا يتوانى في السعي، ولا يقصر في العمل.

إن الأسرة التي لا تقدر أبناءها المجدين تفقد جزءا من إخلاصهم، وتعمل على إلغاء جزء من رأبهم في نشاطهم، وقد تدفعهم إلى الأثرة والأنانية، وإن الأسرة التي تنقلب فيها الموازين فيكافأ فيها المقصرون ويهضم حق المجدين، سرعان ما يلحقها التمزيق والتشرذم، وإن الأسرة التي لا تعدل بين أبنائها تزرع في قلوبهم البغضاء، وقد يدب بينهم الحسد، وإن الأسرة التي لا تراعي كفالة أبنائها، يخرجون عن طوعها وقد يقطعون حبل مودتها.

وهكذا الدولة في كل أمر من الأمور السابقة ينطبق عليها ما ينطبق على الأسرة سواء بسواء.

الأزمة الحاضرة:

كانت هذه مقدمة ضرورية قبل الحديث عن الأزمة الحالية (أزمة الإسكان) التي كانت في الأسابيع الأخيرة مثار جذب وشد بين التوجه الشعبي وبين بعض مؤسسات الدولة في طريقة معالجتها والتغلب عليها.

والحق أن أزمة الإسكان هي أحد جوانب المشكلة ولعل الاهتمام بها دون غيرها لأنها أبرز المظاهر في الأزمة الحالية التي تمر بها الكويت، والتي نتجت عن عاملين هامين لم يكن للكويت خيار فيهما أو في أحدهما، أما العامل الأول فهو الغزو العراقي وما نتج عنه من آثار، وما خلفه في بنية الكويت من دمار، وكان إصلاح ذلك يقتضي إنفاقا ضخما ربما في بنود لم تكن -من قبل- تأخذ هذا الحجم الكبير من الإنفاق، فتحقيق الأمن وحماية الدولة اقتضى حجما ضخما من الإنفاق يشعر به كل متابع وكل مواطن. وإن لم يعرف حجمه أو قدره، لأن ذلك يدخل في باب الأمن والسرية، التي لا يطلع عليها ولا يعرف مقدارها وحجمها إلا القليل، مما يؤدي إلا الإحساس بصعوبة القرارات والإجراءات المترتبة على ذلك والنفور منها وعدم قبولها شعبيا، لأنها في نظر الفرد العادي بالغة التعقيد والصعوبة لدرجة تجعل الفرد عاجزا عن التعامل معها بالشكل الصحيح.

وأما العامل الثاني فهو الانخفاض العالمي في أسعار النفط، وهو قوام الاقتصاد الكويتي، مما يكلف الدخل الكويتي نقصا كبيرا. فكانت المعادلة الصعبة هي ضرورة زيادة الإنفاق لتحقيق الجانب الأمني، ونقص الدخل العام مما جعل الأزمة تطل بوجهها وتفرض نفسها على الشعب والحكومة فلم يكن من المستطاع تأمين الموارد البشرية والمادية من غير أن يظهر الضيق في الأولى والعجز في الثانية، وأن يتفاعل هذان الأمران (الضيق النفسي والعجز المالي) في زيادة حدة الأزمة وبروزها واستمرار الحديث عنها أسابيع طويلة، ولا أظن أن الحديث قد انتهى.

ولم يراع المتحدثون (مؤيدين أو معارضين) طبيعة الأزمة وموقعها من الشعب الكويتي.

فلننظر في الأمر في ضوء الحقائق الواقعية -وحدها- إن أردنا حلا إيجابيا يرضي الأغلبية ولا يغضب الأقلية. فماذا يقول الواقع؟

الموارد المالية والبشرية:

الواقع الذي لا جدال فيه أن الموارد المالية الكويتية لم تأت نتيجة جهد بشري منتج، يفيض انتاجه فيتحول إلى رأس مال مدخر، يدخل في حساب الخطط المستقبلية، فلم يكن في الكويت قاعدة صناعية ثقيلة أو خفيفة، تستوعب الجهود البشرية وتدر على الدولة عائداً تستثمره، ولم يكن في الكويت نهضة زراعية واسعة تنتج من الغلال والثمار ما يحتاج إليه الآخرون، ولم يكن لها أسطول كبير يغدو ويروح عبر البحار. وحقا كان فيها تجار نشيطون ولكن إمكاناتهم محدودة، لا تغطي بعض زوايا إنفاق دولة قائمة.

ولا يختلف اثنان في أن الموارد المالية الكويتية (أكثر من 92%) من البترول (الذهب الأسود) الذي وهبه الله لنا من غير جهد منا، فتفجرت عنه الأرض، وتفتحت العقول لتستوعب -على مستوى العالم كله- استخدامه بتشغيل الآلات التي ابتكرتها في المصانع أو المركبات أو المواصلات، أو آلات الحرث والزراعة أو البناء والتشييد والعمران، فصار استخدامه ضرورة عصرية لا غنى عنها أمام البشر كما لا يمكنهم الاستغناء عن الطعام والشراب. ومع حاجة البشرية لهذه السلعة الضرورية (النفط) كان استخدامها في بداية الأمر محدودا، وكانت أسعارها مقبولة، ثم بعد حرب رمضان سنة 1393 أكتوبر سنة 1973 وبعد حظر النفط عن الغرب تضاعفت أسعار النفط عدة مرات في زمن قياسي مما أحدث طفرة مالية كبرى في الدول النفطية عامة والخليجية منها على وجه الخصوص، وفاض المال وتعددت أوجه الإنفاق، وزادت دخول الأفراد، وأحس الفرد الكويتي العادي أنه لا يعجزه شيء في دنيا المال، فإن أراد سفرا سافر، وإن أراد سيارة فاخرة فهي رهن الإشارة، وإن أراد غير ذلك فإنه قادر على الوصول إليه بطريقة أو بأخرى، لأن المال كثير يأتي مع جهد قليل أحيانا أو كثير حينا، أو بلا جهد يذكر فيكفي أن يوقع بعض الموظفين الكويتيين في خانات الحضور والانصراف ثم بعد ذلك لا شيء عليه ولا تثريب. ومن هنا اعتاد الناس أن يأخذوا دون أن يعطوا، خاصة وهم يحسون أن الله وهبهم من نعمه، وأفاض عليهم من خيره، فلماذا يعملون؟ ولماذا ينتجون؟

ألف الناس ذلك في جيل أو جيلين، وربما ثلاثة أجيال، وأصبح ذلك عادة لديهم.

والإنسان أسير ما ألف، يصعب عليه الخروج عن عادة اعتادها، فكيف بعادة مبنية على المشاركة في حق؟ وكل محاولة لمعالجة الأزمة بالطريقة والقرارات التي يتحدث الناس والإعلام عنها لابد أن تؤدي إلى إحباط مشاعر الناس، لأنهم يعتقدون أنهم يمنعون حقا لهم من أجل علاج أزمة لا يد لهم فيها.

وقد حدث بعض التغيير على الموارد المالية، ولكن لم يحدث أي تغيير على النفوس البشرية .. ومن القواعد الأساسية في (مواجهة الأزمة التعامل مع الرغبات والاستعدادات وحب المشاركة وليس على الأوامر والإجبار والضغوط مع الأخذ في الاعتبار الظروف الزمانية والمكانية التي يمكن أن تساعد كثيرا في  إضافة القوة المناسبة عند مواجهة الأزمة) (مهارات إدارة الأزمات ص81)

وإلف الناس المسبق لنمط معين في الحياة يعوق كثيرا من مواجهة الأزمة بصورتها الحالية. وإذن فما المخرج وما الحل؟

الحل والمخرج:

الحل يمكن في عدم تحميل الأفراد مزيدا من الأعباء المالية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تخفيف العبء عن ميزانية الدولة. ولعل طرفي هذه المعادلة هما محور الجذب والشد فكيف يتفقان؟

وللوصول لدرجة الاتفاق بين هذين المحورين لابد من معالجة متأنية، تبتعد عن القرارات الآنية التي تصدم مشاعر الناس، لأنهم ما تعودوا عليها من قبل، ومن الصعوبة الآن أن يقبلوها، لقد عاشوا في ظل الرفاهية سنوات عديدة استغرقت جيلا أو جيلين فكيف يمكن أن يقبلوا هذا التحول الفجائي، الذي لا يقع تحت وطأة الضرورة الملجئة الملحة، التي لا يمكن تأجيلها أو إلغاؤها؟

إن هذا التحول في حياة الأفراد يحتاج إلى سنوات وسنوات، حتى يمكن أن يستقر في ضمير المواطن أن له حقا يأخذه وعليه واجبا يؤديه، وأن الغرم بالغنم كما يقول الفقهاء، وأن الحياة ليست غنيمة دائما، كما أنها ليست غرما دائما، وأن المشاركة في السراء والضراء بين المواطنين موجودة، يشارك فيها كل أحد بقدر حظه وقدرته، فلا يحمل صغير عبء كبير، ولا يحمل فقير عبئ غني، ولا يأخذ أحد حقا ليس له.

ولعل البعض يظنون أننا نطلب بهذا تأجيل الأزمة سنوات، وليس هذا ما قصدنا إليه، وإنما نحن نود أن يتهيأ المواطنون لمواجهة أمثال هذه المواقف، ولن يكون لهم ذلك إلا بنوع من تغيير الأنماط السائدة في المجتمع، وتغيير أولويات الإنفاق الحكومي بحيث ينصب أغلب هذا الإنفاق في جانب الطبقات العادية، مع البعد عن الهدر المالي في جوانب عديدة، وإلزام الميسورين بدفع القيمة الحقيقية لما تحت أيديهم مما ينتفعون به من أملاك الدولة.

وهذا قد يمكن تحقيقه بعد تربية الشعب على مثل هذه الأمور .. وحينها يقبل الشعب -لمواجهة الأزمات- ما يرفضه الآن. أما إصدار القرارات وإرغام الناس على قبول أمر لا يقتنعون به فإن ذلك يعود بخسارة أكبر على موارد الدولة، وقد تضطر الدولة أن تنفق في بعض الجوانب أكثر مما تدخر من جوانب أخرى.

والحمد لله فليست الأزمة حادة قاهرة، إذ ما زال في قدرة الاقتصاد الكويتي أن يقف سنوات وسنوات، حتى تتهيأ الأذهان، ويتغير سلوك الناس، وحينذاك يكون لكل حادث حديث -كما يقولون-.