بقلم الشيخ د. جاسم المهلهل الياسين

 

ظلال قاتمة:

“أرهب فلانا”: خوّفه وفزعه و “الارهابيون”: وصف يطلق على الذين يسلكون سبيل العنف والإرهاب؛ لتحقيق أهدافهم السياسية. (المعجم الوسيط)

وقد وردت الكلمة في التنزيل مرادا بها إخافة الأعداء من تجاوز الحد، حتى لا ينزل بهم العقاب، “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ورباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” فهي هنا مستخدمة في الحفاظ على الحق وصيانته من اعتداء المعتدين، مخافة أن يلحق بهم العذاب الأليم، فالإرهاب هنا يحمل معنى الردع والزجر للأعداء حتى يكفوا عن التفكير في الاعتداء.

والكلمة في الاستخدام الحديث تحمل معاني وظلالا قاتمة جعلت النفوس تنفر منها، وتضيق بسماعها، وتنظر بعين الريبة للمتصفين بها، فهي تحمل معاني الرعب والفزع، والتخريب والدمار والقتل وسفك الدماء وتناثر الأشلاء، وامتلاء المستشفيات بالضحايا، ووقوع أبرياء في مصيدة العنف، وظهور قوة غاشمة متجبرة، لا تخضع لقانون ولا تراعي إنسانية، ولا تنظر إلا لمصلحتها الشخصية، وفي سبيل تحقيق هذه المصلحة تنتهك القيم والأعراف والقانون، وتزهق الأنفس والأرواح، ويكاد ينادي كل إنسان غيره بالمثل العربي القديم: انج سعد فقد هلك سعيد.

ويستوي هذا المعنى السائد للإرهاب إن قام به فرد أو جماعة أو حركة أو دولة، إذ لا يختلف المعنى باختلاف القائم بالعمل إلا في أن إرهاب الدولة قد يتم إخراجه مغلفا بحركة إعلامية قوية، وببعض المبررات التي تخفف من اشمئزاز الناس منه ونفورهم عنه، ولو إلى حين حتى تنكشف الأمور ويظهر المستور.

وفي الفترة الأخيرة ظهر إرهاب الأفراد واضحا جليّا حين فجرت سفارتا أمريكا في كينيا وتنزانيا.

وظهر إرهاب الدولة واضحا جليّا كذلك حين ضربت أمريكا مصنع الدواء في الخرطوم وبعض المواقع في أفغانستان.

إننا في الحالين أمام عمل إرهابي ندينه ونرفضه، ولا نقبله لأنفسنا ولا لغيرنا.

إن تفجير السفارتين عمل وحشي إرهابي قام به أفراد خربّوا وقتلوا وجرحوا وأثاروا الرعب والفزع، واستنفروا الآمنين.

وإن ضرب السودان وأفغانستان بدعوى الرد على تفجير السفارتين عمل وحشي إرهابي قامت به دولة تعد العظمى بين الدول، فخربت وقتلت وجرحت، وأثارت الرعب والفزع، وجاهرت بعملها مفتخرة به، فنالت سخط الشعوب وكثير من الحكام في عالمنا العربي والإسلامي، خاصة وأن عملها يفتقر إلى الدليل، واتهامها لا يثبت تورط السودان وأفغانستان في جريمة التفجير، التي ستبقى أسابيع أمام المحققين حتى يصلوا فيها إلى قرار.

إن إرهاب الأفراد مرفوض شكلا وموضوعا، وإن إرهاب الدولة مرفوض كذلك شكلا وموضوعا، فلا مفاضلة بين إرهاب وإرهاب، ولا إضفاء لشرعية نوع من الإرهاب لأن فلانا يقوم به، وإدانة نوع آخر لأن فلانا يقوم به.

وإذا قيس الإرهاب في إدانته بحجمه وأثره، فإن إرهاب الدولة يحظى بالنصيب الأوفى من الإدانة نظرا لقدرات الدولة وإمكانات سيطرتها وكيفية الوصول إلى أغراضها، فإذا كانت الدولة هي أمريكا فإن الإدانة أشد، والنفور من عملها أقوى، فالاعتداء اعتداء والظلم ظلم سواء قام به فرد أو جماعة أو دولة.

تعاطف ونفور:

وبعد هذه المقدمة الضرورية نقول:

لقد سقط مبنى السفارة الأمريكية في كينيا وتنزانيا مخلفا وراءه عشرات من القتلى وآلافا من الجرحى، ومئات من المقالات والتحليلات والرسائل المذاعة في مختلف وسائل الإعلام في جميع البلدان بغير استثناء، وكلها -تقريبا- تدين هذا العمل الإرهابي، وتقف في وجهه وتدعو إلى مناوأته والقضاء عليه، ولم تمض غير أيام حتى جاء الرد الأمريكي في غير موضعه وفي غير أوانه، حيث ضربت الطائرات الأمريكية مصنعا للأدوية في السودان، وضربت في أفغانستان بعض المواقع التي تظن أنها تحوي مناوئين لسياستها، ومواجهين لسطوتها.

وإذا كان تفجير السفارتين قد اكتسب عطف الشعوب لسقوط أبرياء من جنسيات مختلفة لا ذنب لها، ولم تجن يداها شيئا، فإن الضربات الأمريكية قد اكتسبت حنق الشعوب الإسلامية وغضبها، ومعارضة كثيرين من مؤيدي الحق والعدل لها، حيث جاءت هذه الضربات موجهة لدولتين إسلاميتين، دون أن تقدم الولايات المتحدة أي دليل مادي على أنهما وراء ما تمَّ من تفجير لسفارتيها. فالتحقيق ما يزال جاريا، وقد يستغرق أشهرا حتى يستقر على قرار، فلماذا تعجلت أمريكا ضرب هاتين الدولتين؟ وأتبعت هذه الضربة بحركة إعلامية واسعة تكافئ وتساوى الحركة الإعلامية بعد تفجير السفارتين؟

تحليلات إعلامية:

وهنا تعددت الاجتهادات، وتضاربت الأقوال ولكنها كلها تصب في مسارين اثنين في النهاية:

1- أولهما: تحقيق تأييد شعبي أمريكي قوي لهذا التوجه يدعم موقف الرئيس الضعيف في محنته الجنسية ونزوته الشهوانية مع ذات الرداء الأزرق (مونيكا) المتدربة في البيت الأبيض.

2- ثانيهما: تحقيق هيبة أمريكا (الدولة العظمى في العالم) بحيث تغطي هذه الهيبة المصنوعة من أزيز الطائرات ودوى القنابل، على ما حدث من تفجيرات.

وكلا الأمرين في ظني بعيد عن الصواب، وعن الحسابات الدقيقة التي تقيم عليها الدول الكبرى سياستها وترسم خططها، اللهم إلا إذا كان هناك خطأ في التقدير وغلط في الحساب، وهو أمر وارد.

ونحن في العالم العربي رجحنا أن هذه الضربات تغطية للفضائح الجنسية التي تلاحق الرئيس الأمريكي منذ سنوات، وما يكاد يخفت صوتها وضوؤها حتى تظهر من جديد وكأن هناك جهازا معينا يتلاعب بالرئيس من حين لآخر، ويهدده ويتوعده، ويخضعه لما يريد، والرئيس لا يملك إلا أن ينفذ ما يريده منه هذا الجهاز، الذي تقف وراءه الصهيونية العالمية بكل هيمنتها على أجهزة الحكم في الدولة العظمى، وتحاول أن تكشف سطوتها في كل أنحاء العالم من خلال (المهانة) الموجهة للرئيس، حيث يلوك الناس سيرته كل صباح حين تطالعهم الصحف بكل جديد في قضية الجنس التي سقط الرئيس في هوتها، دون أن يجد معاونة أو مساعدة من أحد، حتى جاءته الأقدار بالفرصة التي انتهزها ليثبت لشعبه شيئا من جرأة نفسه، وقوة قراره بضرب دولتي السودان وأفغانستان. فهل هذا حق؟

سياسة تصنعها المؤسسات:

أما أن هناك جهازا تحركه الصهيونية لإلحاق (المهانة) بالرئيس الأمريكي من أجل نزوة جنسية في مجتمع إباحي فهذا حق، وأما أن الضربة بمثابة رد اعتبار لقوة الرئيس المفقودة فهذا باطل، لأن الدول الكبرى لا تقوم سياستها على الأهواء العابرة، ولا على التصرفات الطائشة، ولا على ردود الأفعال الارتجالية.

لأن السياسة في هذه الدول ترسمها عدة مؤسسات، من غير أن تنفرد مؤسسة الرئاسة بقرار من القرارات، اللهم إلا في حالات نادرة ليس من بينها هذا الرد، وليس من المقبول أن تقبل كل المؤسسات قرار الضرب من أجل أن يرفع الرئيس الأمريكي رأسه الذي يكاد أن يتهاوى في الحفرة التي صنعتها له الصهيونية، ووضعت له فيها الصيد اليهودي في صورة الفتاة (مونيكا).

ولا أظن أن هذا التحليل الإعلامي العربي لهذه الضربات تحليل واقعي، لأنه بنى الأقوال على المصادفات وحدها، ولم يبنَ تحليله على المعلومات المستمدة من الواقع الذي تعيشه الدول الكبرى، ذات المؤسسات السياسية الراسخة، التي لا تأبه لما يلحق شخص الرئيس فيها من مهانات، تأتيه من الداخل، ويتم التحقيق فيها بناء على القانون السائد في تلك البلاد، سواء اهتزت صورة الرئيس لدى مواطنيه، أم بقيت كما هي من غير اهتزاز، وأظن أن هذا التحليل مبني على صورة الرئيس في كثير من بلدان العالم الثالث، الذي يتحرك فيه كل شيء بأمر الرئيس، حتى وإن خالف الدستور والقانون، وجار على حقوق المؤسسات، وتعدى ما له من صلاحيات. وليس الأمر كذلك في دول العالم (الأول) الذي يقوم الأمر السياسي فيه على ما بيناه من قبل، من حيث قيام مؤسسات سياسية بصنع القرارات المؤثرة في الأحداث الداخلية والخارجية بناء على معلومات دقيقة مستقاة من الواقع الملموس ومن المعلومات التي تقوم على الإحصاء والرصد لكل حدث، يقوم بها مختصون ويحللها محللون، ويستخرج المبررات التي تبنى عليها القرارات متدربون.

على أنه يبدو أن هذه المؤسسات الدستورية كثيرا ما تؤخر قراراتها ولا تؤخذ آراؤها إن اتصل الأمر ببعض النواحي العسكرية، حيث يكون لجهاز الاستخبارات الدور الأكبر في اتخاذ القرار وتنفيذه، دون التفات إلى آراء المؤسسات الأخرى، فلا ينظر أحد إلى الآراء الدبلوماسية ولا يعترف أحد بحكمة الخبراء والسياسيين ومعرفتهم بالشعوب ومشاعرها، وإنما يعتمدون على تقارير الـ (سي.أي.أيه.) وتحاليل الآلات والأدمغة الإلكترونية، وتجاوزت السياسة الأمريكية كل رغبات الشعوب وآمالها وآلامها، وصارت تتعامل مع غيرها بناء على رصد العقول الالكترونية التي لا تعرف عاطفة ولا تدرك إحساسا، ولا تبالي برضاء الناس وسخطهم، ولا يعنيها في شيء إرضاء شعب من الشعوب ما دامت مصالح أمريكا متحققة وأهدافها غير مضيعة، ومن هنا يحدث الخلل في التوازن بين المؤسسات، وقد يؤدي هذا الخلل إلى تفتت النظام وانتهائه.

 

أثر القرارات التي تصنعها أجهزة المخابرات:

وقد حدث هذا لبعض الأنظمة والحكام في العالم الثالث حين اعتمدوا على أنظمة الاستخبارات وحدها في جمع المعلومات واتخاذ القرارات، فوقع الظلم، وشاع القهر، وساد البغي والفساد حتى طغى طوفانه فأغرق الحاكم والنظام، والأمثلة أكثر من العد والحصر.

والظاهر أن النظام الأمريكي قد وقع في شيء من ذلك حين اعتمد على أجهزة الاستخبارات التي قدمت له معلومات عن السودان أخذتها من جون قرنق وأمثاله الذين لا يحبون الاستقرار للسودان، ولا الأمان لأهله .. ومثل هذه المعلومات المضللة لا يمكن الاعتماد عليها في اتخاذ قرار عسكري لدولة عظمى، تؤثر في الأحداث أكثر من غيرها؟

أيكون في مثل هذه المواقف التي تعتمد فيها الرئاسة الأمريكية على جهاز الاستخبارات بداية النهاية لدولة عظمى تمتلك زمام النظام العالمي الجديد؟

ولعل إيجاد هيبة لأمريكا في الخارج، وإظهار مقدرتها العسكرية التي تمتد إلى أي بقعة في العالم كان هو التحليل الذي يحاول أن يكون واقعيا، لأن الهيبة الأمريكية منذ فيتنام تمرغت في الرغام  ثم كان حادث المارينز في لبنان، وما حدث للأمريكان في الصومال وغيرها من الأماكن، تأكيدا لفقدان الهيبة، فجاءت هذه الضربات لترد شيئا من الهيبة للقوة الأمريكية فأحدثت العكس، وزادت السخط، لأن هذه الضربات مثلت رد فعل أهوج خال من الملابسات التي تجعل الناس تتقبله ولا ترفضه، ولذا لم يلق عند كثير من الناس في الشرق أو الغرب قبولا وتأييدا، بل ناله الرفض والتنديد، لأنه يمثل القرصنة التي تجعل القوة وحدها أساس كل التصرفات دون خضوع لقوانين دولية أو هيئات عالمية، أو أعراف دولية، وإذا تصرف كل قوي بهذا المنطق وهذا المفهوم فقد أصبحت الحياة الإنسانية أسوأ من الغابة التي تحتكم فيها الحيوانات إلى قوة الظفر والناب، لأن الإنسان القوي ما لم يحتكم للعدل ضل وأضل، والدول في ذلك كالأفراد سواء بسواء، ومنذ سنوات قريبة وقفت الولايات المتحدة في وجه القوة الباغية التي تجاوزت العدل وركنت إلى الظلم، وجارت عن الحق، إنها قوة صدام العراق الذي جاوز كل القوانين الدولية واحتكم إلى شريعة الغاب وحدها، حين غزا الكويت فجاءه الرد العالمي في صورة ضربات متلاحقة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، لترده عن ظلمه وجوره، وتقيم ميزان العدل باستخلاص الكويت وتحريرها، هذا ما فعلته الولايات المتحدة بالأمس القريب، فكيف تحول ميزان العدل في يدها إلى سيف القرصان، فصارت هي الباغية على غيرها لأنها الأقوى؟ وضربت السودان وأفغانستان بغير دليل أو برهان. فهل حققت هيبتها؟ كلا. لأنها اكتسبت السخط الشعبي في عالمنا الإسلامي، فتدمير مصنع الأدوية السوداني (الذي لا تملك الحكومة السودانية فيه سهما واحدا وإنما يملكه مستثمرون سودانيون وغير سودانيين هو عمل إرهابي جائر وظالم (بحسب تعبير البيان الصحفي الذي أصدرته مؤسسة الصحة العالمية) استهدف شل مقدرة دولة من دول العالم الثالث في تقديم الدواء للأطفال).

وتدمير هذا المصنع وضرب عدة مواقع في أفغانستان أدى إلى قتل عدد غير قليل من الأبرياء، فتصرفت الدولة العظمى في ردها على الإرهاب كما يتصرف الإرهابيون الذين لا يراعون عدالة ولا يعرفون رحمة، ولا يحترمون إنسانية، ولعلها تريد بذلك أن تجعل بعض الأنظمة التي لا تلين عريكتها في يد الكاوبوي الأمريكي سهلة القياد، بدليل أنها بعد تلك الضربة عرضت التعاون الأمني مع السودان كما جاء في المؤتمر الصحفي للرئيس السوداني، وطلبت إعادة السفير السوداني إلى واشنطن.

التعامل الأمريكي مع العالم الثالث:

إن أمريكا ما زالت تتعامل مع العالم الثالث بأسلوب العصا والجزرة فمن لم يلقم الجزرة أدبته العصا، خاصة حين يكون من المسلمين، الذين لا يكن لهم النظام العالمي الجديد أي وزن أو اعتبار، والبوسنة والهرسك وكوسوفا شواهد حيّة على أن الضربات التي يتلقاها المسلمون لا تفزع أحدا ولا تثير أحدا، فقد يقتل الألوف ويشرد مئات الألوف وتغتصب نساء، وترمل آخريات وييتم أطفال دون أن يقلق ذلك هيئة الأمم أو حلف الناتو، أو إحدى الدول الكبرى في النظام العالمي الجديد، مما يوجب على المسلمين أن يأخذوا حذرهم، ويعاونوا إخوانهم ويقفوا معهم في السراء والضراء، إن أرادوا أن يظلوا بين الأحياء، وإلا فإن الهلال البعيد عنا اليوم هو قريب منا غدا إن لم نصده وندفعه.

ردّ صائب:

وقد جاء رد الرئيس السوداني على هذه الضربات داعيا الناس إلى أن يتجهوا إلى الله بالدعاء والضراعة على الظالمين، وأن يصوموا يوما تطوعا لله، وأن يتوبوا إلى الله من ذنوبهم ويقلعوا عن سيئاتهم لعل الله أن يذهب عنهم كيد الأعداء.

وهذا أسلوب جربته الكويت من قبل حين غزاها الطاغوت صدام، فلجأت إلى ربها وتوجهت إليه بالدعاء والضراعة والخضوع والتوبة فهيأ الله لها من يدفع عنها ويزحزح الطاغوت عن أرضها ويعيدها إلى أهلها.

نعم. إنها دعوة إلى الله وإن غضب الساخرون.. وماذا يملك الإنسان الضعيف حين يظلم أو يضرب ويغلب إلا أن يلتجئ إلى الله ذي القوة المتين؟

إنها وجهة مجربة والجديد فيها أنها وصلت إلى الواقفين في مواقع السلطة، وهي –بإذن الله- دافعة للضر، مزيلة للقهر، جالبة للعزة والكرامة، إذا تحقق العمل الذي تتوحد به الأمة، وتتعاون على أن تتمسك بالعدل في كل أمورها، وبين شتى دولها، وإلا فإن هذا الدعاء –وحده- لا يكفي في توقي الضربات التي توجهها القوى الخارجية لبعض أركان الأمة الإسلامية.

إن أمريكا طلبت من أفغانستان أن يظل ابن لادن رهينا بها وألا تكون له معسكرات أو أنصار مقابل اعترافها بحركة طالبان، ولم تطالب أمريكا بتسليمه لها أو محاكمته، لأنه -هو شخصيا- ليس الهدف الأساسي للضربة، وإنما الهدف الأساسي أن يقوم حوار بين أمريكا وحركة طالبان يكون بداية لتحقيق قوة موالية أو غير معادية -على الأقل- لأمريكا في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وإن حققت الضربة ذلك لأمريكا فقد تمَّ لها ما أرادت.

المصلحة القومية الأمريكية:

لقد كان للضربة إذن ما وراءها وما يترتب عليها، وكانت لها أغراضها المحددة التي تكشف عنها أمريكا حينا بعد حين، وهي تنظر إلى المصلحة القومية الأمريكية قبل أي شيء آخر. هذه المصلحة التي في سبيلها يستهان بكل شيء حتى بالإنسان والإنسانية، ففي الحرب العالمية الثانية كانت المصلحة القومية الأمريكية مقدمة على الإنسانية كلها، حتى إن أمريكا ألفت بقنبلتين ذريتين على اليابان غير عابئة بهلاك البشرية كلها في سبيل مصلحتها. ولولا أن اليابان استخدمت صوت العقل، وأوقفت الحرب من جانبها لضاعت البشرية في سبيل المصلحة القومية الأمريكية.

وما زالت هذه النظرة للمصلحة القومية الأمريكية هي المسيطرة على صناع القرار في أمريكا، وهي التي تلقت السودان وأفغانستان في سبيلها الضربات حتى تلين قناتهم.

وما لم يحتكم المسلمون لصوت العقل فإنهم يعرضون بلادهم لخطر أهوج.

الاحتكام لصوت العقل ودور الملك فهد:

والحمد لله فإن من بين المسلمين عقلاء يستخدمون عقولهم في مواقف تضل في العقول، وها هو ذا خادم الحرمين الشريفين -الذي أدعو الله أن يمتعه بالصحة والعافية- بموقفه المتعقل إزاء أزمة الخليج الثانية وأمام قوة صدام الغاشمة التي استولت على الكويت في زمن محدود يرى ببصيرته العواقب ويحتكم إلى العقل والمنطق ويعمل على إيقاف هذه القوة الصدامية عند حدها وإرجاعها إلى حجمها، فيتحقق له هذا الهدف، والأمة اليوم بحاجة لمثل هذه الأدوار في محنتها ومبادرة الكبار في الأمة لكي تجتاز محنتها التي تعيشها.

وما زال صوت العقل مطلوبا في مواجهة كثير من الأحداث التي تمر بنا لأن فيه الحكمة الموجهة، وفيه القيمة المكملة لحماس الشباب الذي ينفذ ما يقره العقل ويؤيده الحكماء.

العداء للإسلام:

إن النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، لا يكن للإسلام وللمسلمين خيرا ولا يضيرنا ذلك في شيء ما بقى أمر الكراهية في الصدور، ولكن إن اتخذت صورة من صور الإيذاء للمسلمين فهنا يكون الضرر الذي ينبغي أن يدفع وأن يقاوم.

إن محاولة ضرب الإسلام المتمثل في حركة أو في دولة أو في شعب من الشعوب سيثير كثيرا من القضايا وسيغرس خصومات وحزازات، وسوف يبذر بذور الشر والكراهية لمن يتصدون لهذا العمل، فيجنون مرّ الثمار لغرسهم، وأظن أن أمريكا وغيرها من الدول يسيرون مع الإسلام والمسلمين سير بعض الأنظمة الحاكمة مع الحركات الإسلامية فهم إما أن يسجنوها ويحاربوها في أرزاقها وأعمالها، وإما أن توافق على آرائهم وتقبل توجهاتهم، والأنظمة لا تقبل من الحركات الإسلامية غير ذلك. أما أن تجعلهم يتعاونون معها فهذا غير معروض من جانب الأنظمة. وهو نفس ما تتبعه الدول الأخرى تجاه المسلمين فإما أن يكونوا في ركاب تلك الدول وإلا اعتبروا خارجين عن نظامها، تلحقهم تهمة الإرهاب وإيواء الإرهابيين وتنالهم الضربات، وتوجه لهم الاتهامات، وتخرب بعض ديارهم ويقتل بعض أفرادهم، ثم بعد ذلك يعرض عليهم التعاون الأمني، لعلهم يكفون عن ركوب رؤوسهم، ويسيرون في الركب خاضعين للدولة العظمى التي لا يعنيها إلا أن تحقق فقط مصلحتها، وتمتص من الشعوب خيراتها، فإن تحقق هذا بالسلم فقد تمّ المراد، وإن تحقق بالحرب فلا بأس بذلك، وهذا هو السر وراء الضربات الأخيرة، ومن يدري ماذا تحدث هذه الضربات، فقد توقظ النائمين وتوحد المتفرقين؟