بقلم الشيخ/ د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
انتهت بحمد الله -الأزمة الأخيرة- بعد أن أضافت ذخيرة جديدة إلى رصيد التجارب الكويتية في مسار الديمقراطية وأثبتت أن حصافة المسؤولين فها ضد الزيف والاستعلاء أقوى من كل أزمة، وأن المدافعين عن الحق فيها أثبت من الجبار الرواسي وأن الجميع يحتكمون إلى الحق ولا يحيدون من منهجه، أو يميلون عن طريقه، وأن غاية الجميع في السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية هو تحقيق مصلحة الكويت، والحفاظ على القيم والمبادئ الإسلامية التي تعمل دولة الكويت على إعلائها في كل مناسبة وفي كل منتدى دولي أو محلي.
لقد كانت الأزمة تمحيصا لأبناء الكويت جميعا، حيث عالج المسؤولون فيها الأزمة بالصبر والحكمة في معظم الأحوال،وجاء ختامها على يد سمو ولي العهد، ليزيل بحنكنته السياسية بعض بعض ما علق في نفوس أفراد داخلي السلطتين ويحل الوئام يبن الطرفين “الحكومة والمجلس” للعمل معا لصالح الكويت وشعبها، بعد أن تظهر في الأفق آثار الود، الذي لم يفسده اختلاف الرأي.
طبيعة الخلاف:
ولم يكن الاختلاف في الرأي بين أحد يؤيد التعرض للذات الإلهية بما لا يليق، والتعرض لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما لا يصح، ومحاولة نشر مساوئ الأخلاق وإشاعة الفاحشة بين هؤلاء وبين آخرين يدافعون عن ذات الله وشخص رسوله وأصحابه وعن القيم والفضائل، لم يكن الخلاف أبدا بين هذين الفريقين كما يصور بعض الكتاب، وكما يتخيل بعض الناس، لأن الجميع متفقون -إلا بعض من شذ من بين الكتاب- على توقير ذات الله، والاخبات له، وتوقير شخص الرسول صلى الله عليه وسلم واحترام أصحابه، والإعلاء من شأن الفضائل والقيم، وفي مقدمة الموقورين سمو أمير البلاد الذي خر ساجدا لله سبحانه على نعمه -بعد أن تحررت الكويت- ومست قدمه أرضها، وسمو ولي العهد الذي يؤكد في كل مناسبة حرصه على القيم الدينية والفضائل الأخلاقية، وحرصه على أن تكون دولة الكويت منارة دينية يشع منها الفكر الديني والقيم الإسلامية التي نكبرها ونحرص على أن نحققها في كل مسارات حياتنا، ولا نبالغ إن قلنا أن شعب الكويت كله إلا قلة قليلة يحرص على كل ما جاء في الدين ودعا إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
إذن ففيم كان الخلاف؟
إن الخلاف كان على طريقه إنكار المنكر وكيفية محمو آثاره، التي مست في الكويتيين عقيدتهم فأثارت بذلك حفيظتهم وأبوا إلا أن ينصروا الله لينصرهم مصداق قوله “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم” ونحن لا ننسى الله –سبحانه- سخر من بين خلقه من ينصر الكويت ويحرر أرضها، ويزيح عنها كابوس الاحتلال، ويرفع عن عاتقها وطأة الاستكبار، ولا تزال القوارع تمر بالقرب من ديارنا، والمعضلات لا تبتعد عن أراضينا كثيرا، لأن نظام صدام، الذي لا حيلة لنا في جواره ما ينفك يصنع المشكلات، ويختلق أسباب الصدمات، التي –إن لم تكن موجهة نحونا في أساسها- فلا نأمن أن يصيبنا رذاذها، وأن تتعثر منها بعض خطواتنا في تنمية بلدنا، والقضاء على بعض مشكلاتنا .. ولا عاصم لنا غير الله “قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا” إن العاصم من شرور الفتن التي تحدث في منطقتنا هو الله –وحده- فإذا تخلى عنا، لأننا نرضى أن تهان ذاته العلية –سبحانه- وأن يتجرأ البعض بإلحاق الأذى برسوله صلى الله عليه وسلم وبصحابته الأكرمين، ونسكت على ذلك ونقبل به، فمن ينصرنا من بعد الله؟ ولنذكر أن الذي عقر الناقة رجل واحد فلما جاء العذاب عم القوم “وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها..” وسئل صلى الله عليه وسلم: “أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث”.
ونحن نحمد الله أن جعل من بين المسؤولين فينا حكماء يقضون على الفتنة قبل أن تستفحل ويخمدون نيرانها قبل أن تتأجج ولا يقبلون أو يرتضون أن يتعرض أحد لذات الله بما لا يليق، ومن هنا فإن ما حدث هو نصر للكويت كلها، إنه نصر للمسؤولين حيث اثبتوا أنهم جنود الله، وأنهم قادرون على مخالفة الهوى، وقادرون على ضبط النفس، وقادرون على أن يقبلوا نتائج النهج الديمقراطي الذي ارتضوه وقادرون على أن لا تضعف حكمتهم أما الشدائد، ولا يفقدوا صبرهم على الملمات، وألا تضعف من عزيمتهم سهولة بعض الحلول الأخرى للأزمة، وذلك كله نصر للكويت يجب أن تهنأ به، وتستريح له. هو نصر للكويت كلها لأنه نصرة لعامة الشعب المؤمن بالله وبرسوله، وذلك كله من دلائل عمق الإيمان وحسن الصلة بالله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ويخطئ من يرى أن الذي حدث نصر لجماعة بعينها أو فئة بذاتها –كما يرى ذلك بعض الكتاب- لأن قلوب عامة الناس كانت مجتمعة على إنكار المنكر، وكان هذا الإجماع منها هو الحق الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”.
وهذا الإجماع من عامة الناس لا يتم ولا يتحقق إلا في قضية عامة تهم الناس أجمعين دون أن تجد بينهم من يختلف حولها، ولا يتم ذلك في كثير من القضايا السياسية ولكنه يتم بصورة كبيرة في القضايا التي تقوم على العقيدة. والقضية التي نحن بصددها هي قضية عقيدة ولذا لاقت اهتمام عامة الناس، ولاقت قبول عامة الناس، ووقفوا من ورائها مؤيدين، لأنه لا ينصرون أشخاصا بذاتهم، بل يعملون على حفظ عقيدتهم وإرضاء ربهم، فأنكروا المنكر، لأن إنكاره جزء من العقيدة، ووقاية وأمن للأمة من أن يحل الله عليها غضبه أو ينزل بها سخطه، .. وما كان أشخاص مقدمي الاستجواب إلا بعضا من الناس، وقدرا من أقداره يعملون على إرضاء الله، ويحملون عن الشعب رأيه، وينادون بتحقيق طلبه، والله سبحانه قد جعلهم صمام أمان، حين تنادوا إلى إزالة المنكر، وإظهار الحق “فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم” وقد أيدهم عدد كبير من النواب ومن المسؤولين لأنهم ابتعدوا بمطلبهم عن دائرة المساومات السياسية، فظلت قضيتهم محافظة على بعدها العقدي، وخرجت من الدائرة السياسية البحتة، فلاقت التأييد، ولاقت النجاح.
أعباء ومسؤوليات الحكومة القادمة:
وحين نكتب هذه الكلمات صباح الأربعاء 18/3/1998 قبل ظهور أي بادرة عن شكل الحكومة القادمة، ولا ندري ما سيكون عليه الحال حينما ينشر هذا الكلام يوم السبت 21/3/1998 إن شاء الله، ولكننا ندرك أن الحنكة السياسية لسمو ولي العهد تمكنه من أن يختار رجالا يؤثرون رضا الله أولا، ويحافظون على الكويت وشعبها، ويعملون على تحقيق أمنها ورخائها، وللكويت في هذه المرحلة من تاريخها متطلبات في التنمية تنمية القدرات الإنسانية، ليتمكن الإنسان الكويتي من أن يخطو إلى القرن القادم، وهو راسخ القدم، يواجه الأحداث بما يناسبها ويوائمها.
وتنمية الموارد المالية بحيث تغطي احتياجات الكويت في الفترة الراهنة ويبقى منها مدخر لقادم الأيام، وقابل الأجيال.
ولا خلاف بين أحد يعيش فوق أرض الكويت على أن جميع الحكومات السابقة واللاحقة عملت وتعمل لصالح الكويت وشعبها في كل الظروف، ولكن الحكومة القادمة نصيبها من العمل في هذا الجانب أكبر، وعبئها أضخم وأعظم لأنها تواجه مستجدات ربما لم تكن بارزة في عهد الحكومات السابقة، إنها مستجدات تطرأ على الصراع الدائر في المنطقة حيث أثبتت الأزمة الأخيرة التي مازلنا نعيش أعقابها ومخلفاتها إن هناك شقا في الصف الخليجي، لم يصل إلى درجة الصدع، ولكنه ظاهر بين، وتمثل في اختلفا التوجهات السياسية لدى البعض، مما جعل النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد يصرخ بقوله: “إنني أعفي الخليجي من الارتباط بساستنا تجاه العراق” وقد كان ذلك منه إيمانا بأن السياسة الكويتية تمليها على متخذي القرار فيها ظروف الكويت، المستمدة من موقعها الجغرافي ومسيرتها التاريخية وعلاقاتها بالعالم من حولها، وما فيه من ارتباطات وتكتلات قد يثقل وزنها عند اتخاذ القرار الدولي في شأن من الشؤون، أو يخف وزنها في هذا الشأن.
هي أذن سياسة تنبع وتصب في مصلحة الكويت أولا وأخيرا، ولذا فإن مصلحة الكويت قد لا تتوفق ولا تتطابق مع مصلحة غيرها من الدول الصديقة والشقيقة، لأن الدول الأخرى هي بدورها تصنع سياستها في ضوء مصالحا التي تفرضها ملابسات المكان والزمان، وتفاعلات الأحداث وتشابك الروابط والعلاقات.
وإذا كانت سياسة دولة الكويت لا تتوافق تمام التوافق مع السياسة العامة للدول الصديقة والشقيقة، فإنها لا تتناقض معها كذلك، لأن هناك اشتراكا في التمسك بالمبادئ العامة التي تصون لكل دولة حقوقها في حفظ حدودها، وتأمين أرضها، وحركة اقتصادها، وتماسك البناء الاجتماعي لسكانها .. إلى آخر تلك المبادئ التي لها صفة الثبات، والتي هي بمثابة إطار عام مشترك، يحيط بالدول التي تتقارب في سياستها وإن لم تتطابق، وفي مقدمة الدول الشقيقة أو الصديقة التي لا تتناقض سياستها مع سياسة دولة الكويت منظومة دول مجلس التعاون الخليجي بالاتفاق في المبادئ والمسلمات مفروغ منه، وتأييدها كلها لدولة من بين دوله وقضاياها العادة في غير حاجة إلى دليل ولا إلى برهان، فوقوفها جميعها مع الكويت سنة 1990 خير دليل وخير برهان على وحدة رؤيتها لقضايا المنطقة، وإن اختلفت وسيلة التعبير عن هذه الرؤية أو اختلفت وسيلة حل قضية من القضايا. ولهذا فإن من الحنكة السياسية إلا نحجر واسعا.
وقد ظهرت في الأزمة الأخيرة بين العراق وبين الأمم المتحدة، أو إن شئت فقل الولايات المتحدة بعض الآراء المخالفة للتوجهات العامة الكويتية من بعض دول مجلس التعاون الخليجي، ولذا فإن من مهام الحكومة القادمة مهمة ألا يزداد هذا الشق، حتى يظل التماسك في الصف الخليجي قويا غير متخلخل، وإن اختلفت الآراء حول بعض التوجهات، وقد أبانت الأزمة الأخيرة كذلك -ولو عن طريق التلميح والإشارة التي بها يفهم اللبيب- أن هناك علاقة ما بين نظام بغداد وبين أمريكا، وهذا ما أظهره بعض المحللين الاستراتيجيين مما يستدعي تعاملا يناسب المرحلة ويتوقع ما قد يستجد مع الأيام حتى لا نفاجأ بما لم يكن في الحسبان ومن المستجدات على الساحة ذلك الاعتدال في السياسة بعد انتخاب الرئيس محمد خاتمي، ومحاولته التقرب من أمريكا عن طريق الرسائل المذاعة منه إلى الشعب الأمريكي واختفاء ألفاظ الشيطان الأكبر وما إليها .. ثم التحالف التركي الإسرائيلي في المجال العسكري، والتوسع في اتفاق النفط مقابل الغذاء -بإجماع آراء مجلس الأمن- الخاص بالعراق، وكل ذلك غيره من مستجدات تفرض كلها على الحكومة القادمة واجبات غير تقليدية مما يستوجب أن تكون حكومة قادرة على العمل وسط هذه الأعباء المستجدة التي تفرضها وقد تفرض غيرها الظروف الراهنة.