بقلم الشيخ / د. جاسم مهلهل الياسين
صار الاقتصاد لدى كثير من الدول هو المعبود الأول في هذا العصر، الذي يقوى فتقوى به الدولة، ويضعف فتهتز أركانها، ويصيب الخلل بعض أجزائها، وترتبك حركة الحياة والأحياء فيها، وها هي ذي روسيا يخرج فيها أكثر من مليون نفس في مظاهرة صاخبة، تطالب بعزل الرئيس “يلسن” نظرا لأنه لم يستطع أن ينعش الاقتصاد، وأن يوفر كثيرا من المواد المعيشية التي يحتاج إليها الناس بالأسعار المعقولة، وفي اليابان طالب كثير من السياسيين هناك بإقالة الحكومة الجديدة التي لم يمض على تشكيلها غير بضعة أشهر، لا لأن الناس لا تجد ما تأكله، ولكن لأن مؤشر المعدل الاقتصادي منذ مجيئها لم يرتفع.
وقد كانت عدة آلاف من فرص العمل حققها الرئيس كلينتون كفيلة بأن يتغاضى كثير من الشعب الأمريكي عن سقطاته الأخلاقية وملذاته الجنسية، وأن تزداد شعبيته عما كانت عليه من قبل.
اهتزاز الاقتصاد يهز الجماهير ويحرك الناس والقادة، لأنهم يظنون أن المادة وحدها تحقق لهم السعادة، إذا بها يستطيعون أن يحققوا ما يرغبون وأن يشتروا ما يريدون، فصار المال معبودهم وغايتهم مع أنه في الحقيقة وسيلة توظف للوصول إلى غاية يحقق بها الإنسان بعض مطالب بدنه، لكنه لا يستطيع أن يحقق به كل مطالب نفسه وأشواقها في الحياة، فقد يكثر المال وتقل السعادة وقد يقل المال وتوجد السعادة، ولكن غير المسلمين في هذه الأرض اعتبر كثير منهم المال غاية، واتبع في تحقيقها الطريقة الميكافيللية المبنية على قاعدتهم المشهورة “الغاية تبرر الوسيلة” وبذلك صارت كل وسيلة لجلب مزيد من المال، سواء أكانت مقبولة أم مرفوضة، ما دامت ستؤدي في النهاية إلى السعادة أو إلى المال في رأيهم، وفي سبيل هذه الطريقة الميكافيللية تخلص أرباب الأموال وأصحاب الأعمال من الأخلاق باعتبارها قيودا أمام حركة التجارة اللهم إلا ما كان منها يساعد على مزيد من التنمية ومزيد من الدخل بالعناية بالعمل وإتقان الجودة والصدق في المواعيد وغير ذلك مما به تزيد الأرباح ويزداد الطلب على السلع فتتراكم الأموال.
أمام هذه النظرة المادية التي تدثر بها رجال المال في الغرب سقطت القيمة الإنسانية للبشر، في بقية أجزاء الأرض، وكرس الإنسان الغربي منذ بدء عصر النهضة جهده كله، لتحقيق مزيد من الأموال على حساب الآخرين، ولو داس في طريقه لتحقيق هذه الغاية على كل القيم والفضائل الإنسانية، فكان جنون الذهب عنده من أكبر أسباب القضاء على الهنود في أمريكا، وكانت الرغبة في استغلال أمريكا يعد اكتشافها سببا في استرقاق كثير من الأفارقة وإهلال كثيرين منهم، وقد صارت النخاسة بذلك تجارة من أكبر التجارات الأوربية، لها الأساطيل القوية والشركات الضخمة ولها الصيادون والأسواق ومرافئ التصدير في ليفربول، وبردو، ولشبونه ونزفت القارة الأفريقية حتى الموت. من أجل ماذا؟ من أجل حب الرجل الغربي للمال وجمعه من أي طريق، ثم أعقب ذلك مرحلة الاستعمار التي كان يمشي فيها الثالوث: المبشر الذي يتعرف على الأرض والبيئة والسكان، والجندي الذي يدمر كل مقاومة، ثم التاجر الذي يمثل الشركات الكبرى التي بدأت تضخ الخيرات إلى أوربا، غير عابئة إلا بالاقتصاد الخام الذي يقدم المواد الأولية للمصانع الغربية، وإلا باستغلال الأيدي العاملة المسخرة والتي تلهبها السياط من أجل تدليل الرجل الأبيض، ولم يتورع أهل الغرب من استعمال كل وسيلة رخيصة من أجل استغلال الآخرين، فكان الأفيون أحد وسائلهم، ونتج عن ذلك ما سمي بحرب الأفيون، وما عرف بالاستهلاك الإجباري للنبيذ في الهند الصينية وسخرت البلاد المستعمرة لصالح المستعمرين، فاستغلت السنغال لتنتج 85% من جملة إنتاجها من الفستق لصالح “شركات الزيت” الأجنبية، وكانت الكروم والخمور هي المورد الأول للجزائر (قبل ظهور النفط) وكان القطن في مصر والهند تدار به مصانع مانشستير بينما كان أهل هذه البلاد يستوردون الطعام أو يتساقطون على دروب الجوع (على جناح طائر، د. شاكر مصطفى بتصرف)
واستمرت عجلة الإنتاج الأرضي تمد الرجل الغربي بالمزيد والمزيد من الأموال ليرفع معدل الأداء الاقتصادي، وليهبط مؤشر الأخلاق إلى أدنى مستوياته في الغرب، حتى ليقع تحت وطأة الرذيلة كبار السن من المسئولين ابتداء من فضيحة “لوتروكيه” رئيس مجلس النواب الفرنسي سنة 1956 وانتهاء بالرئيس الأمريكي سنة 1998 في فضائحه الجنسية، مرورا بوزير خارجية بريطانيا بروفوميو سنة 1963 وفضيحته مع كريستين التي هزت بريطانيا يومئذ (أحجار على رقعة الشطرنج ص10) وقد ظن الغربيون أن تحقيق المزيد من المال والانغماس في كثير من الشهوات هما جناحا السعادة، فكان حرصهم على الاثنين كبيرا، أصبحت هناك نقابات معترف بها رسميا تهتم بشئون الشواذ من الجنسين، وأقرت الكنيسة في بريطانيا (زواج) رجلين وباركهما أحد القساوسة، ويقام احتفال سنوي علني في سان فرانسيسكو للشاذين، الذين يملؤون الساحات تحيط بهم الورود والزهور في مأتم للفضيلة، التي يذبحها الشاذون بمساعدة غير الشاذين، الذين لا ينكرون منكرا ولا يأمرون بمعروف، بل إنهم يساعدون على المنكر بإقراره ومعاونة أصحابه، من أجل أصواتهم الانتخابية وما أحقره من ثمن!! حتى أن الرئيس الأمريكي الغارق في وحل الرذيلة يدين بشدة الاعتداء الذي حدث على طالب متلي الجنس (شاذ) اعتدى عليه بالضرب زميلان بعد أن تظاهرا أنهما مثله في الشذوذ (الوطن 12/10/1998م)
ولم تتورع القوى الفاعلة في الساحة الدولية من إجراء التجارب التي قد تخدم اقتصادياتها وتثبت نفوذها في بعض المناطق فعمدت إلى تقسيم (يوغسلافيا) السابقة، وأثارت فيها التعصبات الدينية والعرقية التي جعلت الصرب يعملون عملهم في المسلمين قتلا وتذبيحا في البوسنة طيلة سنوات، فكان سيول الدماء التي سالت، وأرواح الآلاف التي أزهقت هي عربون التدخل الفعلي الأمريكي لوقف هذه المجازر العلنية والتفرض ما تشاء واليوم تحدث نفس المعارك ونفس التكتيك في كوسوفا تذبيح وقتل لمئات الناس حتى يستكين الإقليم للقوة الصربية، ثم تملي أمريكا إرادتها في غير مراعاة لإنسانية الإنسان، ولا لمصلحة أصحاب الإقليم، وهذا يؤكد أن الأخلاق لا وجود لها في التعامل، وأن هبوط مؤشرها مستمر في سقوطه لا يرتفع أبدا.
وهذا الارتفاع الاقتصادي والهبوط الأخلاقي أثمر في الغرب عديدا من الأخطار التي تتطلب معالجتها واتقاء شرورها أموالا عديدة تستهلك كثيرا من الدخل دون أن تحقق الشفاء والأمان، ومن هذه الأخطار:
1- انتشار عديد من الأمراض التي تحصد كل عام مئات الألوف من الأرواح وتستهلك مئات الملايين من الدولارات دون أمل قريب في الحصول على نتائج ملموسة تمنع الشر والخطر أو تخففه، وفي مقدمة هذه الأمراض الإيدز الذي يصاب به نحو 30 مليون شخص بينهم 1ر1 مليون تحت سن الخامسة عشرة (المجتمع العدد 1286)، وبلغ عدد المصابين بالأمراض المنقولة جنسيا 333 مليون حالة سنويا كما جاء في تقرير منظمة الصحة العالمية، وعدد المصابين بهذه الأمراض في الشرق الأوسط 10 ملايين إصابة سنويا (الوطن 12/10/1998).
2- تجارة المخدرات، وهي تجارة ممنوعة قانونا، رائجة في الواقع بلغت جملة تجارتها 500 مليار دولار سنويا، منها 70 مليارا في العالم العربي، وقد تضاعف إنتاج الأفيون ثلاث مرات من خلال العشر سنوات الأخيرة حتى بلغ 4300 طن سنويا، كما تضاعف إنتاج أوراق الكوكا ثلاث مرات ليصل إلى 304 آلاف طن وقفز الإنتاج العالمي من الماريجوانا بنسبة 50% وتقدر قيمة تكلفة علاج ووقاية الفرد الواحد في المجتمع الأمريكي بـ 300 دولار سنويا. (الأنباء العدد 7924)
3- الجريمة المنظمة التي أقلقت المجتمعات الغربية وهزت بناءها الاجتماعي من الأساس وأشاعت في جوانبها الرعب والخوف، وأحدثت نزيفا مستمرا في ميزانية تلك الدول، فقد بلغ حجم “أعمال الجريمة” هناك نحو 20 بليون دولار، (القبس العدد 9000)
وبلغ مجموع النساء اللائي تعرض لعمليات التحرش الجنسي في إيطاليا وحدها 9 ملايين امرأة، وتعرضت 4% على الأقل من النساء إلى عمليات اغتصاب، وتعرضت كثيرات إلى الابتزاز الجنسي في مقار وظائفهن، ويلجأ أكثر من 60 ألف شخص إلى تغيير محل سكناهم كل عام خوفا من التهديد أو الابتزاز (الشرق الأوسط العدد 7241) نقلا عن تقرير معهد الإحصاء الإيطالي. وأما عن أمريكا أو كثير من دول الاتحاد السوفيتي سابقا فحدث عن الجريمة بأنواعها ولا حرج.
4- الضعف الجنسي الذي يشكو منه 150 مليون شخص على مستوى العالم منهم نحو 30 مليونا في أمريكا وحدها.
وكل هذه الأخطار وغيرها أصبحت تشكل مصدرا دائما للقلق والأرض الذي لا يترك مجالا أمام السعادة، حتى وإن كثر المال وحقق كثيرا من المطالب، لأن السعادة لا تتحقق إلا حيث يتمسك الناس بالقيم والفضائل وتسود بينهم العفة، وتشيع العدالة، ويبتعدون عن المناكر كلها، هذا هون ما يحقق للناس السعادة وإن قل مالهم ولم يحققوا -أحيانا- كل متطلباتهم. أما السير وراء الغربيين واعتبار ارتفاع المؤشر الاقتصادي وحده عنوان الرقي، فهذا ليس محققا للسعادة … ومن أسف أن دولا كثيرة في العالم الإسلامي، تأخذ بالنهج الغربي في الاهتمام بالاقتصاد -وحده- وإن كانت لم تنجرف إلى الانغماس في تيار التحلل الخلقي إلا أنها تأخذ من هنا ومن هناك بعض الأمور التي تدخل في باب المحرمات، وأقرب الأمثلة على ذلك ما سمحت به السلطة الفلسطينية حين سمحت بإقامة “كازينو” للقمار في أريحا تكلف 150 مليون دولار، وجلبت إليه فتيات من اليونان إلى جانب بعض الشباب الفلسطيني من الجنسين للعمل في هذا المجال، بحجة أن هذا ينعش الاقتصاد. وبعض البلاد تسمح ببيع الخمور، بل وتصنعها من أجل زيادة الدخول، فهل هذه الزيادة تحقق السعادة؟
لو كان الأمر كذلك لكانت الدول الغربية في مقدمة السعداء، ولكن الأمر غير ذلك، حتى إن الولايات المتحدة الأمريكية خصصت يوم 8 أكتوبر من كل عام يوما وطنيا لمحاربة الاكتئاب، تفتح فيه المستشفيات أبوابها لكل من يعاني من الاكتئاب لمساعدته مجانا على التخلص من هذا المرض الذي يفتك لمساعدته مجانا على التخلص من هذا المرض الذي يفتك كل عام بـ 17 مليون دولار أمريكي، ومن أعراضه القلق والحزن والشعور بالفراغ، وهذا المرض ثمرة من ثمار الاهتمام بالجانب الاقتصادي وحده. فهل نود أن نكون مثل هذا هؤلاء ولو على المدى البعيد؟
وإننا لنجد فيما يثار الآن دعوات إن تحققت فإنها في النهاية ستصل بنا إلى هذه النهاية المفزعة، وعلى سبيل المثال فإن هناك دعوة لانفتاح الكويت انفتاحا واسعا من غير ضوابط أمنية وأخلاقية يحقق ازدهارا اقتصاديا كما حدث في دبي.
وأصحاب هذه الدعوة لا ينظرون إلا إلى وجه واحد من الانفتاح، أما الوجه الآخر الذي تداس فيه القيم وتنتشر الأمراض الخطيرة والجرائم الكبيرة، وتتكلف الدولة الملايين من أجل معالجة هذه الأخطار فإنه يغيب عن أصحاب هذه الدعوة إن تحسين الاقتصاد عن طريق زيادة الإنتاج وترشيد الاستهلاك خير للكويت من هذا الانفتاح الذي يدعون إليه، إن هذا الانفتاح –الغير منضبط- الذي لا يراعي حراما ولا قيما سيكون نتاجه ما سبق وذكرناه عن الغرب، فالحذر من الانفتاح أن تندفع نحو الانفتاح الغير مأمون العاقبة الذي تزيد به الهموم والآلام وتكثر به الجرائم والانحرافات.