بقلم الشيخ / د. جاسم بن مهلهل بن الياسين

ليست تهديدات نظام بغداد للكويت والمملكة العربية السعودية بجديدة علينا، إنها تهديدات قديمة، سبقت الغزو الصدامي للكويت وعاصرته ولاحقته، وما تزال هذه التهديدات تتوالى حينا وراء حين، كلما استجد مثير لها، أو أيد أي طرف من أطرافها التنازع والتجادل حولها، أو حول نتائجها على الجبهة الداخلية وارتباطات الأمن الخارجية.
وليس معنى أن تهديدات نظام بغداد قديمة أن نستهين بها، وألا نتخذ كل الاحتياطات اللازمة لدرئها، ودفع شرها، لأننا جربنا نظام بغداد الذي صدقت تهديداته سنة 1990م، ثم لم يستطع بعد ذلك أن ينفذ تهديداته لنا، ولكنا -برغم ذلك- لا نأمن تهديده، بل ونحذر غدره، الذي اعتدنا عليه وعرفناه، فقد تنكر للجميل، الذي قدمته له دول الخليج أيام حربه مع إيران، واستدار عليها، ليرغم أنفها، ويحطم قدراتها، ويبتلعها إن استطاع.
لهذا فإننا ينبغي أن نتخذ العدة اللازمة لدحض افتراءاته، والوقوف في وجهه إن لزم

 ينبغي أن نتخذ نحن العدة اللازمة لدحض افتراءات نظام بغداد، ورفض تهديداته المليئة بالحقد والعدوان.

الأمر، فقد عرفنا من قبل خيانته، وذقنا -أثناء الغزو- جبروته وقسوته، وأدركنا أن الخير كله في الابتعاد عنه إن أمكن، وإلا فبالتصدي له والعمل على منازلته، فلا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يواجه أحد الحيوانات المفترسة بإعلانات الرحمة، وطروحات الحق والعدالة.

ومما عرفناه أن العدوان الصدامي على الكويت لا ينجح، بل لا يظهر، إلا إذا تفككت الجبهة الداخلية وتشرذم أبناؤها، وغاب عنها التماسك والتعاون، وأسرع بعضهم في طعن بعض بحجة وبرهان، أو بغير حجة وغير برهان، ونظر كل أحد أو كل مجموعة إلى مصلحته الخاصة، متناسيا مصلحة المجموع، بل ربما حقق مصلحته هو وحده على حساب مصلحة الآخرين، مما يوغر الصدور، ويفتح باب الأحقاد على مصراعيه، فتحدث في المجتمع تشققات وانشقاقات تساعد صدام على أن يحقق مراد نفسه، وأن يستغل الفرصة التي هيأناها له بخلافاتنا وتبعثر جهودنا وإثارة روح العداوة بيننا.
وقد كان هذا أحد أسباب النجاح التي مكنت صدام منا سنة 1990م، فهل نعمل على رأب الصدع ولمّ الشمل الكويتي، أم نعود إلى إثارة مثل هذه الهنات التي تجعل صدام ينجح في تهديدنا ويحاول أن يكرر ما فعله معنا من قبل؟
إن جراءة صدام حين اعتدى على الكويت قامت على عنصرين:
1- حبه للروح العدائية التي لا تعرف صديقا، ولا تشكر جميلا، ولا تريد معروفا، بل تود السيطرة، والمزيد من هذه السيطرة، وكأنها والعياذ به جهنم التي تقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد لأموال النفط؟ هل من مزيد للتحكم والسطوة؟ هل من مزيد لتوسيع السلطة دون رعاية لحقوق الآخرين في بلدهم؟
2- التفكك الداخلي الذي تحدثنا عنه من قبل، والذي تظهر آثاره ضعفا واستكانة لا

العدوان على الكويت لا ينجح ولا يؤثر إلا إذا غاب التماسك والتعاون بين الناس، وتكاسلت المؤسسات الرسمية والشعبية عن القيام بواجباتها.

يقوى على الوقوف في وجه عدوان ولا على محاربة صدام.
ونظرة سريعة على أحوالنا قبل الغزو الصدامي تبين ما كنا عليه من تفرق وتشرذم تمثل في المواقف المختلفة من المجلس الوطني، ومن لقاءات يوم الاثنين التي كانت تتم دون أن يحسب القائمون بها أنها تقوم على حساب الكويت وحرية شعبها، بل على بقاء وجودها، وكيانها نفسه.
وهذا ما جعل صدام يتجرأ في عدوانه، ويتبجح بادعاءاته أن الفرع قد عاد إلى الأصل، إلى آخر الدعاوى الشاذة التي تمثل بها، وحاول تكرارها وتردادها.

لا تشبه الليلة البارحة:
واليوم يتوهم صدام أنه قادر على تهديد الكويت بغزوها من جديد أو تهديدها ببعض أسلحته، ويكبر معه هذا الوهم خاصة حين تخرج بعض مجموعات من الناس في بعض عواصم الدول العربية متظاهرة ضد ضرب الشعب العراقي، فيظن حكامه أن هذه المظاهرات تأييد لهم، ومناصرة لمواقفهم وادعاءاتهم، فيوالون تهديدهم لجيرانهم في الكويت والسعودية.
ويزيد من هذا الوهم المريض في خيالهم بعض القنوات الإعلامية مثل قناة الجزيرة التي تبث إرسالها من قطر، وتنطق بألسنة أناس أشكالهم قطرية، وقلوبهم بعثية عراقية، وولاؤهم إنما هو للبعث قبل أن يكون للوطن أو للأمة العربية أو الإسلامية. ومع أن ملابسهم عربية فإن أدمغتهم وأفكارهم مستوردة لحساب صدام وزبانيته، وهم يزينون له الشر والغدر، فيهدد بالانتقام، وربما يحاول أن يكرر ما فعله من قبل في غفلة من الشعب الكويتي، الذي لدغ من جحر صدام مرة ولن يلدغ -إن شاء الله- مرة ثانية، ومن هنا فإن التماسك والتعاون أساس من أسس القضاء على التفرق الذي يستغله صدام.

طريق الأمان:
إننا لن نواجه تهديدات صدام بتخزين (الأرز) وبعض السلع في البيوت، فقد أثبت الغزو الذي استمر سبعة أشهر أن الناس لم يجوعوا من الطعام، لأن الطعام كان كثيرا يفيض عن حاجة الناس ويزيد، والشعب العراقي -تحت حكم صدام- أكثر جوعا وأشد احتياجا إلى الطعام والشراب، بشكل لا مجال فيه للمقارنة بين ما هو عليه اليوم، وما كان عليه الكويتيون تحت الاحتلال. لأن الجوع وإن نال من العراقيين في ظل الحكم الصدامي. فإن الكويتيين -بفضل الله- ما شعروا بجوع يوما من الأيام، ولذا فهم غير حريصين اليوم على تخزين السلع في البيوت، فذلك لا يقيهم شر الغزو ولا يحميهم من التهديد.
وإنما الذي يحميهم ويقيهم هو إيمانهم بالله أولا، وتخلصهم من المعاصي بالتوبة ثانيا، والحرص على إيجابيتهم، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة، والتمسك بوحدة الصَّف، وأن تشعر المؤسسات الرسمية أنها ما لم تقم بالتكامل بينها والتعاون أضرت بنفسها وأضرت بوطنها.

دور المؤسسات الرسمية:
وفي مقدمة المؤسسات الرسمية التي ينبغي أن تراجع عملها الحكومة والمجلس، إذ لا مفر من التخلي عن المعالجات السطحية للمشاكل القائمة، ولا بد من أن نأخذ في اعتبارنا جدية القرارات الصادرة، وأن نعمل على متابعتها وتنفيذها، وأن نجعلها تصب في النهاية في صالح الأمة كلها، وأن نبادر إلى مواجهة الأحداث بحيث لا تفرض نفسها على المجلس، ولكن الملاحظة التي يأخذها كثير من المراقبين على أداء المجلس النيابي في دوراته المنعقدة منذ التحرير إلى الآن أن الأحداث هي التي تفرض نفسها عليه، وأن الخطة التي تعد مرتبة حسب الأولويات، لا تنفذ إن كانت موجودة، وربما لا تكون موجودة أصلا، مما يؤدي إلى إهدار الوقت، وإضاعة الجلسات بين شد وجذب، ولذا فإن وضع خطة مرتبة بحسب الأولوية التي يتطلع إليها الشعب، والعمل على تنفيذها، أمر يتمناه الناس جميعا، ويرحبون به عند تنفيذه، ولا تتوقف ألسنتهم عن الثناء عمن فعل ذلك، ويظلون يذكرون ذلك دورات بعد دورات، كما حدث ذلك من قبل مرات عديدة. ولا بد أن نراعي وضع الرجل

 قناة الجزيرة يقودها أناس أشكالهم ومظاهرهم قطرية، وقلوبهم وأفكارهم بعثية عراقية.

المناسب في المكان المناسب، وألا نسمح للجادين بالتخلي عن مسئولياتهم أمام ضغوط من هنا أو من هناك، مثلما حدث مع بعض الأشخاص، وأن نراعي مشاعر الناس التي تحن حنينا حارا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، فنعمل على تطبيقها، خاصة بعد الجهود الحثيثة التي بذلتها لجنة العمل على استكمال تطبيق الشريعة، وإخراج كنوزها إلى عالم النور، مما يجعل التأخير في التنفيذ مرفوضا شعبيا وغير مقبول دينيا أو قانونيا.
وإلى جانب هذا فإننا ما زلنا نرى أن الولاءات للدولة غير تامة، فهناك ولاءات مقدمة عليها، منها ولاء الغنى والثروة والمصلحة، وولاء التجارة، وولاء الأشخاص وولاء القبائل والعشائر. وهذه كلها طعنات للقوة الذاتية لدولة الكويت، مما يستدعي مراجعة شاملة لحياتنا في كثير من جوانبها. بحيث تقوم على:
1- الحفاظ على تماسك هذا الشعب بالابتعاد عن كل ما يخلخل البنية الاجتماعية، أو يمزق وحدة الصف، أو يقل من قيمة البناء الداخلي، الذي يؤدي إلى التلاحم وترك الخلاف والشقاق، بوضع المصلحة العليا للبلاد فوق مصالح الأفراد أو الطوائف أو المذاهب أو التوجهات، وقد تتغير مصلحة البلاد اليوم عما رأيناه بالأمس، وقد تتغير غدا عما نراه اليوم، فلا يمنعنا رفضنا أو قبولنا لها بالأمس من الأخذ بها اليوم، أو التخلي عنها كذلك إن وجدنا غيرها أفضل لبلادنا وأحسن لمسارنا وأقوى حفاظا على مستقبل بلادنا.
2- الحفاظ على المؤسسات القائمة وتنمية مكتسباتها وتطوير أدائها وإبراز دورها.
3- الحرص على ضبط العلاقة بين جميع المؤسسات وخاصة ما يتصل منها بالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وهذا يحتاج إلى شيء من الحكمة والكياسة والفطنة والحمد لله فإن في السلطتين حكماء لهم فطانة، يعرفون مصلحة الكويت ويحرصون عليها.
4- الحفاظ على المكتسبات الشعبية القائمة، والوحدة التي تجمع كل أبناء الشعب في بوتقة واحدة.
5- الحفاظ على الأمن النفسي: بتعميم التربية الدينية الصحيحة، والحرص على القيم والمبادئ السامية، والبعد عن الانحرافات والآثام. وإحسان الصلة بالله سبحانه، والأخذ بالأسباب الممكنة وبهذا كله تعود المشاكل المتضخمة إلى حجمها ولا تزيد على قدرها، بل قد تزول من حياتنا كلها. وما ذلك على الله بعزيز ولنذكر قول الله: “لئن شكرتم لأزيدنكم”.
وهذه كلها أسس ينبغي الأخذ بها قبل المعاهدات الأمنية وبعدها.

المعاهدات الأمنية:
لا يخفى علينا وجود معاهدات أمنية بين الكويت وعدد من الدول ذات القوة التي يعتد بها، ويعمل لها حساب عند التفكير في أي اعتداء يمكن أن يحدث من جار الشمال الذي ما فتئ يهدد ويتوعد، ولسنا نتحدث هنا عن أهمية هذه المعاهدات الأمنية أو عدم أهميتها، ولا عن ضرورتها أو عدم ضرورتها، فقد تجاوزت هذه المعاهدات تلك المرحلة، وأصبحت حقيقة قائمة، سواء رضينا بها أم لم نرض، وافقنا عليها أم لم نوافق.
وإنما حديثنا اليوم ينصبّ على أن هذه المعاهدات تحكمها من جهة الدول الكبرى

 لا بد من مراعاة وضع الرجل المناسب في مكانه الصحيح، وألا نسمح للعاملين الجادين بالتخلي عن مهامهم، تحت أي ضغط من الضغوط.

مصالحها الاستراتيجية ومواقفها التكتيكية، ومن المعلوم في عالم السياسة أن جوها يتغير كل يوم، ويتقلب كل حين، بل إنه يكاد ينافس تقلب حالة الطقس في بعض الأزمنة التي تمر بها الكويت حتى ليقال: إن الفصول الأربعة تكاد تجتمع -أحيانا- في يوم واحد. وهكذا تتقلب مصالح الدول وتتبدل، لأنها لا تنظر إلى القضايا نظرة إقليمية محدودة، بل -إنها في عصر العولمة- تنظر إلى القضايا نظرة عالمية واسعة، وقد تفاضل بين مصلحتين، أو تختار أخف الضررين، من وجهة نظرها فتضحي بمصلحة هنا من أجل بقاء مصلحة أكبر هناك، أو تتغاضى عن ضرر يحدث هنا من أجل ألا يحدث مثله أو أكثر منه هناك .. وإننا نكون غير منصفين مع أنفسنا ومع غيرنا إن ظننا أن الحرب الباردة أو الساخنة قد وضعت أوزارها، وألقت بأسلحتها من أجل عيون النظام العالمي الجديد، لأن هذه الحرب -وإن خفت حدتها، وبهت منظرها- لم تنته -تماما- من الساحة الدولية، وموقف فرنسا وروسيا والصين من ضربة (ثعلب صحراء) التي تمت في أواخر سنة 1998م دليل واضح على ذلك، وإن لم يؤد موقف هذه الدول إلى الدور المطلوب من ورائه في هذه المرة فإنه قادر على أن يؤدي ذلك الدور في مرة أو في مرات قادمة.
مصالح الدول تتغير -إذن- وتتبدل، وقد تصبح المصلحة الضرورية اليوم غير ذات جدوى غدا، وبما أن المعاهدات الأمنية قائمة على مصالح الدول القوية، فإن هذه المعاهدات قابلة للتجاهل في يوم ما، أو على الأقل قابلة للتباطؤ الكفيل بتحقيق أغراض النظام الصدامي، فتباطؤ ساعة في ملاقاة جيشه كفيل بتحقيق كل غرض يبتغيه. ولأجل ذلك فإن من واجبنا ألا نعوّل على المعاهدات الأمنية كثيرا، وألا نعتمد عليها كل الاعتماد.
والحق الذي ينبغي ألا نحيد عنه أبدا أن القوة الذاتية لأهل الكويت هي الأساس الذي

 المعاهدات الأمنية مع بعض الدول القوية تحكمها المصالح الاستراتيجية والمواقف التكتيكية لهذه الدول. وقد يكون من مصلحة الدول توقف المعاهدات في أي لحظة

يستخدم لصد أي عدوان أو اعتداء، ولا نقصد بالقوة الذاتية قوة السلاح وحده، لأن قوة السلاح قد توجد عند قوم، لكنها لا تغني عنهم من العدو شيئا، فليست العبرة بالسلاح بقدر ما هي بالساعد الذي يستعمل هذا السلاح ويمسكه ويدافع به. وأصحاب السواعد القوية محتاجون إلى إعداد تربوي جيد، يجعل القلوب متصلة بربها، متمسكة بأرضها، تبذل أرواحها في سبيل الوطن، وهذا الإعداد التربوي للأفراد يقوم على أسس قوية تتمثل في الإيمان بالله، والإيمان بحق الإنسان في وطنه، والتعاون والتناصر من أجل حماية هذا الوطن، واستخدام القوة المادية -عند اللزوم- لحماية مقدرات هذا الوطن من أي اعتداء إقليمي أو خارجي، معلن أو خفي، مع الثبات فوق هذه الأرض -أرض الكويت-، وإغلاق باب التفكير في مغادرتها لأي سبب من الأسباب، خاصة حين يظهر التهديد، ويعلو صوت الوعيد. وبعد هذا كله يأتي عون الأصدقاء، وننتظر منهم أن يعملوا معنا على وقف أي اعتداء.
إن هذا العمل الداخلي أساس لكسب التعاطف الدولي، وأساس لكل تصرف صحيح، وأساس لأن نكتسب ثقة الأصدقاء، وأن يدركوا أننا بالفعل نستحق منهم أن يقفوا معنا وأن يعملوا لصالحنا، حتى وإن أدى تعاونهم ذاك إلى تأجيل أو تأخير بعض مصالحهم ومكتسباتهم، لأنهم علموا من أعمالنا أننا جادون في الحفاظ على بلدنا ومقدراتنا.
فهل يقوم الأفراد بواجبهم؟ وهل تؤدي المؤسسات في بلدنا دورها المطلوب؟