بقلم الشيخ د. جاسم مهلهل الياسين
سمات نظام بغداد
قصور الوعي السياسي أو الجهل الدبلوماسي بالعلاقات الدولية ، أو العمالة الخائنة للأمة ، إلى جانب الغرور الكاذب، والتسلط الأعمى ، والتصرف الأحمق، هي سمات النظام الحاكم في بغداد ، الذي ألحق بأمة الإسلام أفدح الأضرار ، لما ارتكبه من تصرفات رعناء ، منذ أن مزق بيديه المعاهدة التي وقعها بنفسه بين بغداد وبين طهران ، تلك المعاهدة التي تضع حداً للخلاف الحدودي بين البلدين . وبدأت بذلك علائم القلق والاضطراب والنزاع تظهر على صفحة الخليج الذي كان من قبل آمنا ، فروعَّه صدام بحرب الخليج ، ثم بغزو الكويت فيما عرف بحرب الخليج الثانية … ثم استمرت الزوابع والعواصف تهب قوية حينا وخافتة حينا، حتى كان آخرها ما أطلق عليه اسم : ( ثعلب الصحراء ) حيث توقف ضرب العراق منذ أيام .
جدل عقيم
واشتعل – بعدها وأثناءها – الجدل العقيم من الجانب العربي ، إذ لم يرصد أحد من المجادلين الأسباب الحقيقية والنتائج الفعلية، في ضوء المتغيرات الدولية والمعطيات والإمكانات الواقعية ، التي أدت إلى هذه الكوارث والزوابع التي تستنزف أموال الأمة ، وتوقف تنميتها ، وتؤخر نهضتها وتأكل اقتصادها ، وتبذر بذور الخلاف والشقاق بين أبنائها ، وتغفل عن العدو الحقيقي (الصهاينة)الذين يفعلون ما يريدون دون أن يتصدى لهم صدام أو غير صدام ، إن صدام قد ارتكب أشنع الفعال يوم ترك الذين دمروا له المفاعل النووي ، واتجه إلى الكويت التي ساعدته من قبل في مرات عديدة ، ليشرد أبناءها ، ويغتصب أملاكها ويفتح بذلك الاعتداء الباب أمام تدخل الآخرين في الخليج بعد أن انهكت قوى الأمة ، وانشق أبناؤها على بعضهم ، وخسرت مليارات من الدولارات حتى تطمئن إلى أنه لن يعود إلى بغيه ، ولن يعاود على الكويت ظلمه وعدوانه ، بغير جناية جنتها الكويت ، فما ذنبها أمام أطماع مستبد جاهل مغرور، أو عميل مزعوم ؟ ولماذا لا ينظر المتجادلون والمتهمون إلى هذه الوقائع والحقائق ؟ ولماذا يزجون بالكويت في ضربات ( ثعلب الصحراء ) والكويت لا شأن لها بها ؟
مسبّة ومذمة
إن هذا النزاع قائم بين نظام بغداد وبين الولايات المتحدة وبريطانيا ، وإن القريب والبعيد يعرفان ذلك ويدركانه ، والأمر ليس في حاجة إلى بينة ولا دليل . فما دخل الكويت في هذا العداء بين الطرفين ؟ وما دخلها في هذا الصراع ؟ ولماذا يتجاوز المحللون والمتحدثون هذه الحقيقة ، فلا ناقة للكــويت في (ثعلب الصحراء) ولا جملا ، وكل دورنا ينحصر في أننا نود فقط أن نحافظ على بلدنا وأن نحمي أرضنا وألا يعتدي علينا جار الشمال – كما فعل من قبل – فهل نلام على ذلك ؟
إن الظلم محرم في كل شريعة ، وهو في شريعة الإسلام أشد تحريما حتى إن الله سبحانه حرمه على نفسه فقال :” ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظلموا ” فكيف لا ينصف الناس المظلوم ؟ فهل نحن غزونا العراق واستولينا على أرضهم وديارهم أم هم الذين فعلوا ذلك ؟ لقد قطعنا كل صلة لنا بنظام بغداد ، الذي يحتجز أبناءنا الأسرى بدون سبب جَنَوْه اللهم إلا ليدخل الأحزان والآلام على الزوجات في بيوتهن ، وعلى الأبناء الذي أسر أباؤهم وعلى الأمهات اللاتي ذقن مرارة الثكل مع أن أبناءهن أحياء يرزقون .
لقد رجعنا إلى الخلف قليلا لنضع كل هذه الحقائق أمام الذين يتناولون الكويت بالمسبة والمذمة دون ذنب منها فيما حدث في الخليج كله من أول حرب الخليج الأولى حتى ثعلب الصحراء . فلماذا اللوم والسبب والتوبيخ والتهديد والوعيد ؟
ولماذا تشن قناة الجزيرة هجومها على الكويت بمناسبة أو بغير مناسبة ؟ ولماذا لا يضع المتحدثون فيها الحقائق أمامهم وهي حقائق في غير حاجة إلى بيان لأنها واضحة وضوح الشمس ؟
حقائق مستجدة
وأولى بالمجادلين الذين يوجهون التهم للكويت ، وأولى بالإعلاميين الذين يغلغون الحقائق بالإعراض عن الأسباب والوسائل أولى بهؤلاء واولئك أن يدعوا الأمة كلها لتتبصر حالها في ضوء الحقائق الآتية :-
- أن الحروب – الآن – تتم على أبعاد ومسافات كبيرة كبيرة ، بصواريخ متقدمة ومتطورة ، تتبع أشعة الليزر ويمكن توجيها من خارج المجال الجوي أو البحري لأي دولة ، مع استحداث أجهزة لمنع الرادارات القديمة من تأدية مهمتها كليا أو جزئيا، بحيث يصعب معرفة مصدر الضربة الموجهة ومن أين جاءت. فماذا تفعل الأمم الضعيفة – وأمتنا من بينها – كي تؤمن نفسها أولا من مثل هذه الضربات ، ثم كي ترد عليها إذا لزم الأمر؟
2- أن عملية ( ثعلب الصحراء ) لم يقصد بها إزاحة النظام العراقي – كما صرح الزعماء القائمون بها ، وهذا يضعف صدام عسكريا ويدعمه ويقويه سياسيا ، ( وثمة إجماع على أن الضربة العسكرية ألحقت أضرارا بالبنية العسكرية للنظام لكنها لم تنجح في فرض أي التزام سياسي جديد على صدام في مقابل حصول تراجع – ربما يكون تكتيكيا – في موقف الولايات المتحدة من مستقبل اللجنة الخاصة )( الوطن 22/12/98 ) .
والعمل على إضعاف البنية العسكرية في العراق مع بقاء النظام يؤدي إلى قوة سياسية لهذا النظام ، ويؤدي إلى نشوب مشكلات عميقة في العالم العربي على حد قول روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ،
إذ يقول : ستنشأ مشكلة عميقة في العالم العربي إذا ما انتهت حملتنا دون معاقبة نظام الحكم في بغداد (الشرق الأوسط 21/12/98 ) وهذا ما حدث بالفعل، فلم يعاقب نظام الحكم في بغداد ، بل بقى جاثما على صدر الشعب العراقي ، وعلى صدر الشعوب المجاورة التي ضاقت به ومنه ، وتراه يتمكن سياسيا، ويقوى – بالتدريج – عسكريا حتى تأتيه ضربة تجهضه من جديد، ويستمر المسرح السياسي في تقديم هذا الهزل غير المحتمل ، مما يؤدي إلى التشكيك في دوافع الحملة وأهدافها ، ويدفع الكثيرين في العالم العربي إلى معارضة أي توجه للسياسة الأمريكية في المنطقة .
ويؤكد أحد كبار المسئولين الفرنسيين أن النتائج الأولى لهذا العمل لا تبدو إيجابية لأن الهدف المعلن لم يكن ضرب البنية التحتية للعراق ، بل إجباره على تنفيذ تعهداته التي يرى الأمريكيون والبريطانيون أنها لم تنفذ ( الوطن في 22/12/1998م) .
ولأن النظام في بغداد باق لم يمس ، ولأن الضربة وجدت من الخبراء من يشكك في أهدافها ، فإنها كانت دعما سياسيا قويا لنظام بغداد وعلى حد تعبير أمين عام الحزب الاشتراكي الفرنسي الحاكم ” لقد تعزز موقع الرئيس العراقي ” ( الوطن 22/12/1998 م ) .
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كانت الضربة ؟ وهل هي فصل جديد في مسلسل سياسة الإفقار المتبعة منذ حين في الدول الخليجية ؟ ثم يستمر بعدها نظام بغداد في عبثه القديم يهدد الآمنين ويؤذي جيرانه كل حين . فمن يضمن ألا يعود هذا الدكتاتور إلى سابق عهده ؟
3-أن على الحكومات في البلاد العربية والمؤسسات الرسمية أن تتخذ لنفسها سياسة واضحة تعتمد على رؤية لا تغيب عنها الحقائق الواقعية، وعلى قرارات شجاعة تملك بها زمام الأمور الاقتصادية والسياسية الخارجية والداخلية على السواء .
تجربة تاريخية
ولعلنا ونحن نطالب بتحقيق هذين الأمرين ( الرؤية الواضحة ، واتخاذ القرارات المصيرية اللازمة ) لا نغفل إحدى التجارب الكبرى في تاريخنا الإسلامي ، تجربة المسلمين في المدينة في السنوات الأولى من الهجرة ، فقد كان مجتمع المدينة ( وهو لا يزيد عن حجم وسكان أصغر دولة في عالمنا الإسلامي أو العربي الآن) يحوطه الأعداء المدججون بالسلاح ، ويعملون على إفنائه وتمزيقه والقضاء عليه ، يدفعهم إلى ذلك مخالفات عقدية ، وأفكار جاهلية فكان العداء ماديا ومعنويا في آن واحد معا ، ومع هذا العداء المستحكم ثبت المسلمون ، لأن قيادتهم الحكيمة الواعية تميزت بالرؤية الواضحة للحاضر والمستقبل ، وباتخاذ القرار المناسب في حينه .
والرؤية الواضحة للحاضر والمستقبل كانت موجودة عند الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في مجتمع مكة يوم كان المسلمون قلة ، يسامون العذاب ، فقد أخبرهم أن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد ، وأخبرهم أن هذا الدين سيمتد في الأرض ، وسيأمن الناس في ظلاله ” والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون” وقد كبر يوم الخندق وهو يكسر الأحجار بمعوله، ويبشر المسلمين بفتح فارس والروم ، وبشر أثناء هجرته سراقة بأن له سواري كسري ، إلى غير ذلك من الأقوال التي تحققت، فدلت على وضوح الرؤية عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعند أصحابه من بعده . وصحب وضوح الرؤية قرارات مصيرية ذات أهمية في الحياة الإسلامية فماذا نقول عن قرار الهجرة إلى المدينة ، أو عن غزوة بدر أو عن فتح مكة أو غزوة حنين ؟ وماذا نقول في قرار الصديق الذي به حارب المرتدين رغم كثرتهم ؟ وفي قرار جمع القرآن ؟ وماذا نقول في عديد من القرارات التي اتخذها عمر رضى الله عنه ، والتي دلت على أنه رجل دولة من الطراز الأول .
غياب الرؤية الواضحة وفقدان القرارات الحازمة
والتجارب التاريخية كثيرة نكتفي منها بهذه التجربة التي لا تغيب عن بال مسلم . وننتقل من تأملها إلى واقعنا الذي نعيشه الآن ونتساءل : أين وضوح الرؤية ؟ وأين القرارات المصيرية التي تحدد مصيرنا نحن وسط هذا الخصم الهائج من الأحداث ؟
إن الرؤية غير واضحة – على الأقل – أمام عامة الناس في كثير من القضايا ، ولعل للإعلام دخلا كبيرا في ذلك ، حيث صورت بعض أجهزة الإعلام الخارجية وبعض الأجهزة الإعلامية الداخلية حادث ” ثعلب الصحراء ” على أن الشعب الكويتي مناصر له، ومؤيد للضربات التي نزلت بالشعب العراقي ، وهذا تصوير غير دقيق لرؤية غائمة ، لأن موقف القيادة الكويتية كان وما يزال ضد إلحاق أي ضرر بالشعب العراقي ، لأن العداء – فقط – بين نظام بغداد وبين الكويت ، وليس بين الشعب العراقي والشعب الكويتي . وقد استثمرت هذه الصورة الخاطئة للرؤية الغائمة، بعض أجهزة الإعلام وكبرتها وأضافت إليها ما تود أن تضيف، مما جعل رئيس حزب مغمور في بلد عربي ينادي بطرد السفير الكويتي من بلده ، وقد يكون هذا الرجل مأجوراً أو غير مأجور ، ولكن الذي لا شك فيه أن الجهاز الإعلامي عندنا لم تكن لديه الرؤية الواضحة التي تمتعت بها القيادة السياسية الكويتية ، والتي أعلنت انها ضد النظام العراقي وليست ضد الشعب العراقي ، بل ورحبت في بعض بياناتها بايقاف الضربات العسكرية على الرغم من أنها لم تصب نظام بغداد بأي خسائر تذكر في أركان ذلك النظام أو فلنقل : إن الجهاز الإعلامي لم ينقل هذه الصورة في الوقت المناسب على النحو المطلوب .
وبعض الناس في الخارج نتيجة زج بعض الإعلاميين للكويت بين الولايات المتحدة وبين العراق تصور خطأ أن للكويت يدا في ( ثعلب الصحراء ) وكان واجب الأجهزة الإعلامية أن تبذل جهدها في الداخل والخارج لتصحيح هذه الصورة ، حتى لا تترك فرصة لبعض المتظاهرين باستغلال هذا الموقف .. ومع يقيننا بأن تأييد كل الناس لنا في مواقفنا قد لا يكون متاحا دائما ، إلا أننا ندرك أن كثيرا من الذين وقفوا ضدنا في الأزمة الأخيرة كان من الممكن أن يتعاطفوا معنا إن استطعنا أن ننقل إليهم الصورة الصحيحة لقضيتنا ولموقفنا .
رحلات وزيارات مجدبة
ومما يؤسف له أننا بعد ثماني سنوات من التحرير نتحدث عن غياب الرؤية الواضحة ونتحدث عن غياب الدور الإعلامي . وكأننا لم نستفد من درس الغزو شيئا يذكر ، لقد قبلنا وقوف بعض الشعوب العربية ضدنا سنة 1990م – لأننا لم نكن تتعامل مع الأحداث– قبل الغزو – من داخلها، لكننا في سنة 1990 م كنا في بؤرة الأحداث ومن صناعها وكان هذا مسارا جديدا في حياة الكويت ، فرض عليها ، وكان لابد أن تتحمله رغم ما فيه من مشقة وعناء ، وأن تصبر فيه على الايذاء بالقول وبالفعل حتى شاء الله وتحررت الكويت ، ثم نحن – الآن – نسمع أصوات المعارضين للكويت ولمواقفها ، مما يعني أن ثماني سنوات مرت ، كانت مليئة بالرحلات البرلمانية إلى الخارج وبالعلاقات والزيارات بين الوفود الرسمية وغير الرسمية ، لكنها لم تستطع أن تغير من الصورة القائمة عند الشعوب الأخرى شيئا ، وهذه شهادة بينة الوضوح على تقصير الأجهزة الإعلامية وعلى ضياع الآثار النافعة للرحلات البرلمانية التي تكلف ميزانية الدولة الملايين وهذا نموذج واحد لغياب الرؤية الواضحة في مسألة واحدة هي المسألة الإعلامية فما بالك بكثير من المسائل الأخرى التي تتصل بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها ؟
ثم تبحث عن القرارات الحاسمة فلا تجد لها أثرا . فكثير من القضايا تشغل نواب المجلس أياماً أو أسابيع ثم لا تجد قرارا شافيا بعد المناقشات والمداولات . وتمر بنا أحداث خطيرة في حياتنا فلا تجد فيها قرارا ، وهل بعد انخفاض أسعار النفط –وهو عماد الاقتصاد الكويتي – شيئا آخر يستحق قرارا حازما في وقت عاجل ؟ فأين هذا القرار ؟ وأين القرارات في مسائل الإسكان والصحة والتعليم والبطالة ومستقبل الأجيال القادمة وغير ذلك ؟
إننا بحاجة ماسة أمام التحديات التي تحيط بنا إلى رؤية واضحة للأحداث والمستجدات وإلى محاولة جادة لاستطلاع ومعرفة كل ما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب ، وأن نعد لكل شئ عدته ولكل أمرأ هبته حتى لا يضيع من أيدينا قرارنا ولا يستغل على نحو غير مرضىّ لنا .