الشيخ د./ جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

الجماعات الإسلامية لا تعيش في جزر معزولة، ولا في حصون مغلقة، إنها تعيش وسط مجتمعات من البشر، لها متطلباتها واحتياجاتها، وقد تحتاج في كثير من الأحيان لمن يعينها على هذه المتطلبات، ويحقق لها بعض الاحتياجات، التي ليست بالضرورة مادية، والمفروض في الإنسان المسلم أنه غصن نامٍ في شجرة المجتمع، وعضو متفاعل من أعضائه، يدرك قبل غيره الأخطار التي تواجه الآخرين، ويعمل قبل غيره على مواجهتها وإبعادها عن طريقهم، فهو نصير المستضعفين ومعاون المحتاجين، وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهو أول الباذلين وآخر المنتفعين.

هذا هو المفترض في أي شخص يدين بالإسلام، ويفهم تعاليمه، وهذه الصفات أجدر بها الذين نصبوا أنفسهم لخدمة الإسلام ورفعوا راية جماعة من الجماعات، إذ عليهم أن يتفاعلوا مع بيئتهم، وأن يخدموا غيرهم من أبناء المجتمع كلهم، دون أن يقتصروا على خدمة أنفسهم أو خدمة إخوانهم ممن هم في جماعتهم وحدها، وبقية أبناء المجتمع لا نصيب لهم من خدمتهم، فالمسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي يعتزل الناس تجنبا لمطالبهم، واحترازا من تلبية بعض احتياجاتهم، والله جعل المسلمين شهداء على الناس “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” فبم نشهد على الناس إن اجتنبناهم وعشنا بعيدا عنهم في بروج مشيدة؟

ليست مهمة المسلم قاصرة على العبادات المتمثلة فقط في أركان الإسلام، وإنما مهمته أ، يقوم بالإسلام كله  وأن يحيط به من جميع جوانبه، التي منها خدمة الآخرين ومناصحتهم وإيثارهم، ودفع الأذى والضر عنهم، وذلك من أوجب واجبات الجماعات الإسلامية لأنها إن اختصرت نشاطها داخل أعضائها تفقد رؤية غاياتها، وتتخلى عن دورها الحقيقي وتصبح خادمة لنفسها فقط، ولا تزيد عما يقدمه أي حزب من الأحزاب أو توجه من التوجهات أو نقابة من النقابات من امتيازات يتمتع بها حامل بطاقة العضوية فقط، وغيره يحرم أو يمنع، ليس هذا دور الجماعات الإسلامية التي تعمل على إنقاذ مجتمعاتها، وتحاول أن تنير الطريق أمام الجماهير لدفع غائلة التخلف المزري، أو التقدم المظهري الشكلي بالمحافظة على الثوابت الدينية والقيم الأخلاقية ونشرها بين الناس مع الأخذ بالوسائل العصرية، التي تحقق التقدم، وبهذا نجمع عمل الدنيا وعمل الآخرة في آن واحد (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).

وليت الجماعات الإسلامية –وهي تقوم بهذا الدور ينبغي أن تبتعد عن تسفيه الآخرين وخاصة الجماعات الإسلامية الأخرى، فلكل جماعة مشروعها وليس من الإنصاف أن تعيب كل جماعة منها مشروع الجماعة الأخرى، ولا تنظر إلى ما فيه من إيجابيات وإنما تنظر –فقط- إلى سلبياته وتضخمها، وكأنها لا ترى غيرها، وهذه النظرة كفيلة بتعميق الهوة بين هذه الجماعات واتساع الفجوة بينها، ونسي أصحاب النظرة السلبية التي تبدي المساويا –كما يقول الشاعر- أن لكل جماعة مشروعها الإسلامي الذي تتبناه وتأخذ نفسها به، وتدعو إليه، وقد يرى غيرها في مشروعها وبرنامجها بعض السلبيات التي لا ينبغي أن تقف عائقا ولا مانعا من رؤية الإيجابيات، ولقد أحسن الأستاذ / محمد سرور في كتابه أزمة أخلاق حين قصر نظرته على ما لدى كل جماعة من إيجابيات ذكرها أو ذكر بعضا منها، لتكون هي مقياس النظرة الصحية، التي توفر القوى والجهود من أجل العمل وحده، بحيث لا يتسرب من هذه الجهود شيء وأصحابها يحاولون الرد على ما أثاره إخوانهم عليهم من سلبيات موجودة أو معدومة، وهذا –للأسف- هو ما يقدمه البعض حتى الآن، وكأنه جواز مرور للوصول إلى عامة الناس، لقد استضافت إحدى الفضائيات واحدا ممن يمثلون جماعة إسلامية، أطلق على نفسه كنية، فأخذ يكيل التهم شرقا وغربا للجماعات الأخرى، ويوجه سهامه الكلامية نحوها، وهذه السلبية التي وقع فيها لا تغطيها إيجابيته وجرأته في نقد الواقع العربي الإسلامي المتردي بسبب قياداته التي شغلت نفسها بالسفاسف، وأهملت واجبها نحو الشعوب، وسارع كثير منها يهرول نحو إسرائيل لينال رضا سادة الشرق الجدد (الصهاينة) الذين يتدللون ويتمنعون ويرفضون الجلوس إلى مائدة المفاوضات إلا بواسطة أمريكا وحلفائها. فلا نامت أعين الجبناء.

إيجابية (أبي         ) في نقد الواقع العربي لا تغطي على سلبيته في توجيه الطعنات لبرامج بعض الجماعات الإسلامية، لأن الجماعات الإسلامية تأخذ من الإسلام الأصول والثوابت، ثم تأخذ منه بعد ذلك من الفروع ما تستطيع بحسب طاقتها وقدرتها وظروف بيئتها ومجتمعها، وطبيعة القائمين على أمرها والحاملين لدعوتها، وهذا لاغضاضة فيه فالرسول صلى الله عليه وسلم  حدد لنا القاعدة: “ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم” وكل جماعة تأخذ من فروع الدين ما تستطيع، فلماذا نوجه لمشروعها الملامة والذم؟ ولماذا لا نتأسى بالأئمة الأقدمين الذين كانوا يختلفون في أمور ففقهية هامة ومع ذلك لا يحمل أحد منهم للآخرين إلا التقدير والاحترام؟

إن مثل هذه الاتهامات التي تستهلك الجهود والأوقات تعوق كثيرا من الاندماج في حركة المجتمع وتقديم العون والنصح كله، وهو أمر مطلوب من كل مسلم، لقد كفانا طعنا وخلافا وتفرقا، وينبغي أن تتسع صدورنا للخلاف وأن نقوم بواجباتنا نحو المجتمعات.