الشيخ / د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

الإحساس بآلام الآخرين:

الإنسان اجتماعي بالطبع. هكذا قال العلامة ابن خلدون، والمقصود أن الإنسان بطبعه لا يستطيع أن ينعزل عن الآخرين كل الوقت. إنه يعيش في جماعة تجري عليها سنن الله في خلقه ففيهم الضعيف والقوي، والفقير والغني. وهذه الجماعة كالجسم الإنساني، تعمل الأعضاء القوية فيه على حماية الأعضاء الضعيفة، ويمد كل جهاز في الجسم بقية الأعضاء بما تحتاجه منه من عناصر، بل ويتألم الجسم كله إن جرح أحد أعضائه أو أصابه مرض أو تلف، وقد بيّن ذلك رسول الله r في قوله “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى” ومثل هذا الترابط القوي لا يتحقق لو فقد الناس الإحساس بالآخرين والتفاعل معهم، ومحاولة مدّ يد العون إليهم، والتخفيف من آلامهم ولو كان ذلك بأن تعود مريضا، أو تدعو لمكروب، فما بالك بمن ينفسّون كرب الناس وينزلون في قلوبهم الفرحة والبهجة حين ينقذونهم من البلاءات التي وقعوا فيها، وكادت تأخذ بخناقهم، فيلمسونها بيدٍ حانية، وكلمة طيبة “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه” الحديث.

إن هذا الإحساس بالآخرين يدفع الإنسان إلى التفاعل الإيجابي لحمل بعض المسئولية عمن أرهقتهم، فينسد الخلل ويلتئم الصف، ويستمر السير، الناهض في طريق الحياة.

تعلم حب الغير:

الناس لهم أفضال لا تحصى، ففضل الوالدين والأقارب والجيران والأصحاب غير منكور في حياة الناس، ولكنهم قد ينسون معلما أنار لهم العقول، فقد ينسون طبيبا شخص لهم الداء وأعطى الدواء، وقد ينسون خادما أعد لهم الطعام ونظّف المكان، وقد ينسون كثيرا من الناس قدموا لهم بعض الخير في بعض مراحل الحياة، ولو أن الإنسان حاول أن يتذكر بعض من قدموا له خدمات في حياته لتذكر كثيرين، ولو أنه حاول أن يرد إليهم بعض جميلهم لعاش لحظات سعيدة .. إن تذكر الأفعال الحسنة من الآخرين كفيل بأن يقيم رابطة معنوية بينك وبينهم، وكفى بالحب بين الناس رابطة، وأسمى أنواع الحب وأبقاها وأدومها الحب في الله، الذي هو علامة كمال الإيمان: “من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان” وكثيرا ما كان الصالحون المصلحون يتذكرون إخوانهم على البعد فيسعدون ويسرون: “اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك وتعاهدت على نصرة شريعتك، فوثق اللهم رابطتها وأدم ودها واهدها سبلها واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك، وجميل التوكل، وأحيها بمعرفتك..” ولعل هذا التذكر لما فعله الخيّرون معك من معروف مدعاة لتذكر آلاء الله عليك ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، أرأيت شيئا حولك مما خلق الله في السموات والأرض لا نفع فيه للمخلوقات جميعها فضلا عن الإنسان “وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” وقد كان بعض المشهود لهم بالصلاح والتقوى إذا أصابته ضراء أو بأساء نظر إلى بعض ما يدرك من نعم الله حوله فعدد منها ما يستطيع دلالة على رضاه بقضاء الله، فيتجه بالشكر لله، ويعيش أسعد لحظات الحياة، غير ناظر في بليّة ابتلى بها وإنما متفكر متدبر في نِعَمٍ عظيمة أحاطت به وسُبِغت عليه، وعليه أن يشكر ربه عليها ليستبقيها ويسعد بدوامها.

والذي عرف نعم الله، لا بد أن يعرف فضل كل من أسدى إليه يدا، ولو عاش الإنسان متذكرا لهؤلاء محاولا أن يشكر لهم فضلهم لاستصحب السعادة، وعاش في سكينة. لأن نفسه امتلأت بالحب والشكر والعرفان فسلمت وصحت ففاضت على الجسم سلامة وصحة.

إن رسالة صغير تكتبها لشخص له عليك منّة من أي نوع ولو لم تعدْ لَكَ به صلة الآن كفيلة بأن تخرجك من عالمك الصغير المحدود إلى مجال أرحب وأوسع فتنسى بعض همومك، ولعل هذا كذلك يكون بعض السر في قول رسول الله r “وجُعلَتْ قرة عيني في الصلاة”، إنها مناجاة لله يخرج الإنسان بها من عالم الأرض والسماء إلى عالم لا يعلمه إلا الله، فيرضى ويسعد وتقر عينه بعد أن سبح لله وكبر الله وتلا آياته، وغاب بتفكيره عما حوله من الدنيا، لأنه يفكر في خالق السموات، رب العالمين وفي كتابه المبين، يقدم على الله في صدق فيقدم الله عليه، “إذا تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشى أتيته هرولة” “إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه” وكفى بهذا سعادة وكفى به حبورا.

إن إدراك نِعَمِ المنعمين وتذكرها، وإسداء الشكر عليها بطريقة أو بأخرى ترياق من هموم الحياة وقضاء على الخلل النفسي وباب واسع من أبواب السعادة لا يدخله إلا الأقلون.