إحسان العمل:
من قديم قال الشاعر العربي:
” .. وحاجة من عاش لا تنقضي” أي أن الإنسان تظل أمامه مطالب يريد إنجازها حتى لحظاته الأخيرة فوق الأرض، بل إنه بعد أن يفارق الحياة يكون قد ترك خلفه بعض الأعمال التي تحتاج إلى من يقوم بها نيابة عنه، فالأعمال أكبر من الأوقات، ومهمة الإنسان أن يختار من الأعمال أعمها نفعا، وأدومها بقاء، وأبعدها عن الفساد والشر، وأن يجعل من هذه الأعمال غاية في ذاتها، بحيث تخرج من بين يديه في غاية من الإحسان والإتقان، وفي الأثر: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”
وهل يتحقق إتقان بدون معرفة جزئيات هذا العمل التي يتألف منها؟ وهل يتحقق إتقان عمل بدون الاستغراق فيه وإعطائه الوقت المناسب؟ وخير للإنسان وللمجتمع أن ينجز عملا جيدا يفيد ويغني عن غيره في مجاله من أن ينجز أعمالا عديدة، سمتها التشويه، وهي تأخذ جهودا عديدة، وقد يكون نفعها غير مواز لما بذل فيها من جهود.
إتقان العمل ضرورة حياتية لكل إنسان يبتغي النجاح في الحياة، فإذا استصحب هذا المتقن لعمله الأمانة في المحافظة عليه، والحرص في وصول نتائجه وثمراته إلى المستحقين، كان هذا قمة في الأداء، تحقق لصاحبها سعادة كبيرة.
أرأيت الطبيب الذي يتقن عمله كم يحبه الناس ويثقون به؟ أرأيت المعلم الذي يتقن عمله كم يحترمه طلابه ويثني عليه أولياء أمورهم ويقدره زملاؤه ورؤساؤه؟
أرأيت إلى السياسي الذي يرعى مصلحة شعبه، ويعمل على تحقيقها، ويحول بينهم وبين المشقات والمصاعب كم يحبه الشعب؟
وهكذا في كل عمل يسند إلى شخص من الأشخاص، فاحرص على إتقان عملك ولو لم يشكرك عليه أحد، ولسوف ترى –حين يصبح ذلك عادة لك- أنك حققت لنفسك ما لا يمكن تحقيقه لو أنك اشتغلت بأعمال كثيرة لم تتقنها، لأنها لن تخرج عن حد التشويه والنقصان، فاسع نحو الجمال والكمال، واترك الإهمال والنقصان تسعد في الحياة وتنل احترام الآخرين في كل حين.
أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام
المصالح بين الناس متشابكة، والأعمال التي بينهم –في كثير من الأحيان- متداخلة. ولو نظرت إلى أي شيء مما يغطي بعض حاجات الإنسان لوجدت أن أيادي كثيرة قد شاركت في إعداده حتى يتم الانتفاع به على النحو المطلوب. وهذا ما جعل شاعرا قديما يرى أن الناس في خدمة بعضهم بعضا وإن لم يشعروا بذلك فقال:
الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
والناس جميعا ليسوا على مستوى واحد من الفهم والعمل والإتقان والإجادة، وقد تجد بينهم المقصرين وقد تجد المهملين الكسالى، وقد تجد من لا يحسنون عملا، ولا يفقهون قولا، وبدلا من أن تضيق بصنيعهم، فإن عليك أن ترشدهم إلى الخير، وأن تقدم لهم النموذج والقدوة، فلا تعرض عنهم، ولا تهمل رعايتهم، ولا تتأخر في نصحهم وتعليمهم ومعاونتهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا. إن القرآن يقص علينا قصة رجل آتاه الله الملك فشرّق في البلاد وغرّب، وآتاه الله العلم والحكمة فعمل بها وسط قوم لا يعلمون ولا يبينون، ولا يجيدون عملا، لقد قام بواجبه نحوهم فساعد وأعان وعمل وعلم، وحمى وقوى إنه ذو القرنين الذي قص القرآن قصته ومنها “قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا، قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا، وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا” ومنها وهو شاهدنا قول الله “حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا، قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خَرْجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدا، قال ما مكنى فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما، آتوني زُبَر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا. قال هذا رحمة ربي”
إنه –وهو القوي- لم يتخل عن هؤلاء المستضعفين، بل أعانهم –بغير أجر- وأخذ بهم إلى العمل، حتى يتركوا ما هم فيه من سلبية.
إن هذا النموذج الرفيع في دنيا الناس الذي يقصه القرآن الكريم هو ما ينبغي أن تتخذه لنفسك أسوة، وأن تتخذ من عمله لك مسلكا، ومن إقباله على غير القادرين ومعاونته لهم مجالا تبرز فيه همتك، وتظهر فيه شكرك لله على نعمه، فلا تمن على أحد بما عملت، ولا تؤذي أحدا بما صنعته له، لأنك تعلم أن هذا الذي تقوم به من نعم الله عليك، وأنت مأمور بإظهار نعمة الله، وإشاعتها بين الناس “وأما بنعمة ربك فحدث..” إنك إن فعلت فإن سعادتك حينئذ تكون عظيمة وراحتك من متاعب الحياة اليومية تغنيك عن شكر الآخرين وثناء المادحين، وذم المغرضين.