بقلم : د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

دع عنك الأَثـَرة:

إن راحة الإنسان وسروره ولذته لا يعد لها شيء ولا يتحقق به ذلك إلا إذا استطاع أن يتخلى عن الأنانية، وأن يحب للآخرين ما يحبه لنفسه وألا يستأثر دونهم بشيء.

وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بيان ذلك للناس حتى يتمسكوا به، وجعل ذلك من سمات المؤمنين فقال: “وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا” والأَثَرة داء بغيض، تجعل الإنسان يقسو قلبه، بل إنه ليشتد في قسوته على الآخرين، وربما انتزع بعض حقوقهم، فكرهته القلوب، والإنسان العاقل جدير بالتخلص من هذه الأوهام، لو أنه نظر للآخرين نظرته لنفسه، ولو أنه ارتقى خطوة في سبيل التسامي، فتنازل لغيره عن بعض حقه، لكسب بذلك محبة الآخرين.

والناس يحبون أنفسهم من غير شك –تلك فطرة أوجدها الله فيهم- ولا نطلب منهم أن يغيروا طبيعتهم وأن يتخلوا عن حبهم لذواتهم ولكنا نطلب منهم ألا يبالغوا في حب أنفسهم بحيث لا يرون شيئا غير ذلك، نطلب منهم أن يجعلوا للآخرين مكانا معهم، نطلب منهم أن يعملوا على إسعاد أنفسهم بحب الآخرين وخدمتهم، والعمل على التخلي لهم عن بعض حظوظ النفس، فذلك باب فسيح ومدخل واسع لسعادة عظيمة في الحياة.

حساب النفس:

كان من دأب الصالحين -وما يزال- أن يحاسبوا أنفسهم كل ليلة قبل أن يستسلموا للنوم، ليروا أأحسنوا في يومهم أم أساءوا؟ وليصححوا ما قد يكونون وقعوا فيه من أخطاء، ويستغفروا مما قد يكونون اقترفوه من سيئات، وليصلحوا ما بينهم وبين الناس إن كانوا قد أساءوا إليهم، وليستمروا على نهجهم إن كان الله قد حفظهم من الوقوع في شيء من ذلك.

إن هذا الحساب اليومي -إن واظب الإنسان عليه- وجعله أداة إصلاح كفيل بمنع الندم عند الكبر، وكفيل بألا تتطرق إلى لسان الإنسان كلمة “لو” التي تفتح عمل الشيطان، وجدير بأن يحمى الإنسان من الندم الطويل على ما فرط في جنب الله أو ما فرط في جنب نفسه في مراحل عمره المتقدمة حين يكون استدراك ما مضى أمرا عسيرا أو على الأقل أمرا صعب التحقيق، بعيد المنال.

والأمر يحتاج إلى يقظة وهمة، وترك للغفلة وأول هذه المراحل المحاسبة الواعية التي تصلح الأخطاء إن وجدت وتستمر في المحاسن ما بقيت لها حياة.

الإنسان بين المدح والقدح:

“حب الثناء طبيعة الإنسان” والإنسان أي إنسان لا يستطيع أبدا أن يكتسب رضا الناس جميعا، ولا ينبغي للإنسان أن يغره الثناء، فلا يتبصر أمره، ولا أن تأخذه العزة بالإثم فيعرض جملة عن الناقدين متهما إياهم بسوء القصد، ولذا كان ابن الخطاب رضي الله عنه يقول “رحم الله امرءا أهدى إليّ عيوبي”

وليس في مقدور الإنسان ألا يشعر بالغضب إزاء رفض الآخرين لآرائه، وبدلا من الدخول معهم في جدال وخصام فإن تعوده على قبول هذا الأمر مع افتراض صدقهم، ومحاولة التثبت والمراجعة لما صدر عنه خير من التمادي فيما لا تحمد عقباه، ولا يجلب على النفس غير الشر والمكيدة.

ومن الطبيعي في الحياة أن يلقى الفرد من الناس الخير والشر والمدح والقدح، وأن يتردد عملهم معه وقولهم عنه بين الحق والباطل، فشأن كثير من الناس إنكار الخير، وجحود المعروف، والتغافل عن شكر صاحبهما وإعطائه حقه من التقدير والتكريم، وخير جائزة لمحب الخير هي فعل الخير.

ولم يكن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خيرا استقى منه الصحابة فساروا على نهجه، يرشدون الضال، ويفكون الأسير، ويعطون العائل الفقير، ويرحمون الصغير، ويحترمون الكبير، وينصرون المستغيث، ويدافعون عن الحق والعدل، ويواجهون الجور والشر، ويتعاونون في البأساء والضراء ولا يتعاونون في إثم أو عدوان. سار بينهم الحق فكانوا جنوده، وكرهت نفوسهم الشر فصاروا أعداءه يحاربون ناشريه، ويواجهون مروِّجيه.

وسار على نهج هؤلاء الأصحاب ثلة من الناس لا يخلو منهم عصر من العصور، ليظل وهج شعلة الحق مضيئا، ونورها وضيئا، يجتمع حوله أصحاب الهمم الصادقة، والفضائل الناطقة بسمو المقصد، ونبل الغاية.

ولا يعنينا أن نعدد وجوه الخير في عصرنا لأن الناس يعرفونها، لأن في مقدور كل أحد أن يفعل شيئا من الخير قلَّ أو كثر، وأن يجعل من نفسه ركيزة لمن حوله ومنارة تشع الضوء والخير للآخرين.

إن كثيرا مما يشكو منه الناس ويضيقون هو من صنع أنفسهم، أكثر مما هو مفروض عليهم وبقليل من التروي والتأمل والقناعة بنعم الله تزول هذه الآلام وتخف هذه الأحزان.

إنك حين تملك القليل من المتاع خير لك من العدم، وطالما أن الكثير ليس في مقدورك فليكن رضاك بالقليل الذي تملكه مستمرا، وتذكر دائما قول الله تعالى: “ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض“.