بقلم الشيخ/ د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

لم يأت الإسلام لجماعة خاصة ولا لطائفة معينة ولا لفئة من الناس وحدها، ولا لدولة بذاتها ولا لأمة بعينها وإنما جاء للناس كافة في كل بقعة من الأرض، وفي كل زمن من الأزمان

وأرسلناك للناس رسولا، وكفى بالله شهيدا” النساء

قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا..” الأعراف

وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا

جاء الإسلام للناس جميعا، والناس يتفاوتون في مداركهم وعقولهم وأفهامهم وبيئاتهم، والله الذي خلقهم ويعلم أحوالهم هو الذي أنزل على عبده الكتاب تبيانا لكل شيء “وأنزلنا إليك الكتاب تبيانا لكل شيء” النحل، وهو الذي أمر باتباع ما أوحى به لعبده “واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا” الأحزاب.

ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون” الجاثية

شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه

ولما كان من العنت إلزام الناس كل الناس بفهم واحد لنصوص الكتاب والسنة، وهم المختلفون في نصيبهم من العلم، المتفاوتون في الأفهام والعقول والقدرات والمدارك والبيئات والعصور لما كان الأمر كذلك جاءت بعض النصوص قطعية الثبوت والدلالة كالأعداد والمقدرات وهذه لا خلاف فيها بين أحد من المسلمين، قديما أو حديثا، وجاءت نصوص  كثيرة أخرى ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة، وهذه تتعدد آراء المجتهدين في فهمها، وتتنوع وقد تتضارب أحيانا أو تتعارض، ولا حجر فيها على رأي دون رأي، لأنه ليس فيها رأي أولي بالتقديم من الآخر، لأن كل رأي له أدلته التي تؤيده وتقويه من الكتاب أو من السنة التي تدعمه وتسانده اللغة العربية في استعمالاتها الفسيحة.

وقد أدى ذلك إلى تعدد الآراء، وإلى تمسك بعض الناس برأي دون آخر، مما أفسح المجال لظهور تيارات الخلاف بين العلماء، خاصة بعد الأحداث السياسية، والتطورات الاجتماعية والتفاعلات الثقافية المختلفة، التي واجهت المسلمين بعد الصدر الأول، الذي كان الاتفاق طابعه العام في أغلب الأحوال، لأن المرجعية فيه كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ولأن المسلمين شغلتهم الفتوحات في فارس والروم –بعد وفاته-   eفظلوا على طابع الوفاق، لأن همَّ أحدهم أن ينال الشهادة التي تحقق له الفوز عند رب العالمين.

ثم تعددت الآراء واختلفت بعد الأحداث السياسية والتطورات الاجتماعية، والتفاعلات الثقافية، ومناصرة بعض الخلفاء لرأي دون غيره، فظهرت الخلافات وظهرت الفرق التي كانت خلافاتها فكرية، وإن المذاهب الفقهية التي يسير على هديها معظم المسلمين اليوم تعتبر مدارس فكرية في الفقه الإسلامي، ورغم اختلاف الآراء في كثير من الأمور الفقهية التي تناولوها إلا أن تقدير بعضهم لبعض واحترام أحدهم للآخر يعتبر نموذجا في التعامل بين المختلفين.

على أننا نقرر أن المسلك العام بين المختلفين لم يكن هو مسلك أئمة المذاهب الفقهية الذين طبقوا آداب الخلاف أعظم تطبيق، بل كان سلوك أئمة الفرق الذين لم يتحرج بعضهم من الاستعانة بالحكام للقضاء على خصومه الفكريين.

وهنا نجد النموذجين: نموذج الفقهاء الذين يختلفون وهم متوادون متحابون يبنون ولا يهدمون، ونموذج بعض أئمة الفرق الذين لا يطيقون من أحد مخالفة ولو قامت على أساس من الفهم السليم بناء على قواعد اللغة العربية، وهؤلاء أعاقوا الأمة وشغلوها عصورا عن التقدم الحقيقي، حتى اجتاحها التتار وأسقط عاصمتها بغداد سنة 656 هـ.

والخلاف القائم على التعصب لرأي من الآراء ونبذ ما سواه، وتسفيه أصحابه والسخرية منهم يؤدي إلى الخراب والدمار وزوال البلاد والعباد.

وأما الخلاف الذي يقوم على الحرية الفكرية المبنية على الأصول المعروفة، والذي يحترم أصحابه بعضهم بعضا فإنه الخلاف المقبول، الذي لا ضرر فيه، بل إنه يؤدي إلى سعة فكرية وتيسير للناس. والمهم في هذا الخلاف المقبول أن يقوم على قاعدتين في أي مسألة تُبحث، وهما:

  • أن يكون الخلاف في فهم دليل ظني يحتمل الاجتهاد، ومعنى قول العلماء “لا اجتهاد في موضع النص” أي مع النص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، لأن إقحام الاجتهاد فيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله، وقد نُهى المؤمنون عن ذلك، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم” وأما النصوص ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة، فإنها تقبل الاجتهاد
  • أن يكون الخلاف صادرا عن أهل العلم والاجتهاد، فلا يجوز لغير العالم والمجتهد، الاجتهاد في النصوص، واستنباط الأحكام الفقهية منها عملا بقول الله تعالى “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” وقوله “ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسئولا

فإذا لم يكن المخالف في مسألة من المسائل من أهل الاجتهاد، أو كان مرتكبا محرما أو تاركا واجبا كان آثما مذنبا لتجاوزه حدود الله.

وأما إن كان المخالف في المسألة من أهل الاجتهاد ولم يكن مرتكبا حراما أو تاركا واجبا لم يكن –في هذه الحالة- آثما، بل يجب إعذاره، وحسن الظن به، وعدم الحكم عليه بالخروج أو الفسوق وما إلى ذلك مما اعتدنا سماعه بين المختلفين، الذين يدفعهم الإعجاب برأيهم لرمي غيرهم بكثير من التهم مما يغلق الأبواب بين الأطراف المتخلفة ويُقيم حاجزا دون النظر في آرائهم ومعرفة أدلتهم مما قد يكون سببا في استحسانها والأخذ بها، وبذلك نتلاشى التلاحي والتطاول أولا، وقد نتنازل عن رأينا إلى رأي الآخرين ثانيا، إذا ظهر بطلان رأينا أو ظهر ضعف دليله، أو كان لا يترتب على خلافه في قضية عامة أثر سلبي، حينئذ يمكننا أن نترك آراءنا ونأخذ برأي الآخرين.

فإذا لم يكن الأمر كذلك، فقد وجب قبول الاختلاف في الرأي، ما دام أحدهما ليس أولى بالتقديم على الآخر، ووجب بقاء الود بين المختلفين.

ومن الواجب –في هذه الحالة- أن ننصرف في صف مؤمن قوي موحد إلى معالجة مشاكل عصرنا ودعوة الناس إلى محاسن هذا الدين وجلاله، وتقوية معسكرنا معشر المنادين بالإسلام فوق كل المعسكرات حتى يكون للإسلام نفوذه الفكري والعملي فيعود له مجده وهيمنته على الأرواح والأعمال.

من واجبنا أن نتجه جميعا إلى المشاكل التي تحيط بنا ونقف صفا مسلما واحدا في مواجهتها حتى نتغلب عليها، وهي مشاكل عديدة:

فمشكلة تغريب المجتمع التي تبدو في بلدنا، وتأخذ لها مظاهر متعددة تحتاج إلى الصف الواحد القوي لمواجهتها

 ومشكلة محاولات إذابة اللغة العربية  – تحتاج إلى مواجهة قوية حتى نقضي على هذه المحاولات التي تستهدف لغة القرآن، وتتجه موجاتها نحو الشباب أولا لسلخهم عن هذه اللغة أو إضعافها على ألسنتهم

ومشكلة توظيف الخريجين وإغلاق كثير من أبواب العمل في وجوههم في حاجة كذلك إلى تكاتف الجهود وتوحدها.

ومشكلة قصور إمكانات الجامعة في استيعاب عدد أكبر من الطلاب.

ومشكلة .. ومشكلة .. مشاكل كثيرة تهمنا جميعا، ولا يسعنا أن نواجهها وأن نقلل من آثارها أو نقضي عليها إلا إذا كنا صفا واحدا، وبرغم اختلاف آرائنا فإن صفنا لا يتشعب، وتشابك الأيدي بيننا لا ينقطع

وهل يحدث ذلك مع وجود تطاول من هنا أو هناك يبيح به فريق لنفسه أن يسفه آراء الآخرين أو يتطاول على بعض العلماء، الموتى أو الأحياء، الذين أدوا ويؤدون واجبهم، وبعضهم أفضى إلى ما قدم، وأجره على الله.

إن التجاوز في التعامل بين الفريقين أو بين الفرقاء ليس في صالح أحد على الإطلاق، وخاصة إن ابتعد الناس في حالة اختلافهم عن مرحلة الاعتدال، وطففوا القول في الآخرين، واعتبروهم خصوما، لا إخوانا، ومعيقين لا معينين، ومتعادين لا متحابين ، وهو ما نربأ بالجميع عنه، وأن يرتفعوا عن هذا المستوى الهابط ولنا في السلف الصالح قدوة وأسوة  فكان أحدهم يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. فهل نصل في تعاملنا إلى هذا المستوى، بحيث تبقى بيننا المودة والأخوة والصفاء؟

إنا لنرجو ذلك وندعو الله أن يوفقنا لتحقيقه خاصة وأن المسلمين لو سلكوا هذا السبيل ولم يشتغلوا بهذا الجدل ولم يصبغوا فطرة دينهم بصبغة منافية ودرجوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكان لهم في ذلك الخير كل الخير ولنجوا من انقسامات وفتن كانت من أهم الأسباب لزوال عظمتهم وتوزيع ملكهم ومجدهم ولا شك أن كل عاقل يهمه أن يعود للإسلام مجده وعظمته؟ الآن ندعو المسلمين إلى الأخذ بهذا الرأي وهو ما نعمل عليه وندعو إليه ونسأل الله المعونة فيه وفتح مغاليق القلوب لفهمه وفقهه.

لقد كان الأخذ والرد والجذب والشد قويا عنيفا بين المختلفين من قبل، لقد تنابزوا بالألقاب واشتد بينهما التخاصم حتى وصل إلى التكفير والزندقة ورمي بعضهم بعضا بأعظم ما يتصور من التهم، واستخدمت في ذلك الألفاظ المثيرة.

ويجب أن ننأى بأنفسنا عن أن نتقاذف بالتهم على صفحات الجرائد السيارة وأن تذاع خلافاتنا على العامة فذلك ما لا ينبغي ولا نقره، وفي لين القول وحسن الخطاب مندوحة

فإن كان ولا بد من الكلام في هذه الخلافات فليكن ذلك في قول لين وفي بحث هادئ حتى لا تسري عدوى الخلاف والتهاتر من الخاصة إلى العامة وفي ذلك فساد كبير كما هو مشاهد في البلاد التي تشتد فيها العصبية لبعض الآراء.

وسبب هذا الضياع هو عدم التفريق بين الخصومة والغضب للدين، وخلق هذه الخصومة وإثارة الفتنة بها ولم لا يكون هذا من الجدل المنهي عنه ومن المراء الذي أغضب رسول الله أشد الغضب على المتمارين حتى جعله يقول:

  • “ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل” ثم قرأ: “ما ضربوه لك إلا جدلا” (الزخرف: 58) رواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: حسن صحيح.
  • ويقول: “من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة ومن تركه وهو محق بني له في وسطها ومن حسن خلقه بني له في أعلاها” رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وغيرهم وحسنه الترمذي.
  • وروى الطبراني في “الكبير عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما تفقأ في وجهه حب الرمان فقال: “ما هؤلاء، بهذا بعثتم أم بهذا أمرتم، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”.

إخواننا الطلاب. لعل قائلا يقول: إن المراء شيء وما نحن فيه شئ آخر فنقول: إن لم يكنه فهو نوع منه ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه واتقاء الشبهات استبراء للدين،س والورع أن تدع ما لا بأس به مخافة الوقوع فيما فيه بأس فهل بعد ذلك مذهب لذاهب أيها الأحباب؟