الشيخ / د. جاسم مهلهل الياسين

طالعتنا صحيفة الوطن صبيحة يوم 25/4/1998م بهذا الخبر: (وافق النواب الروس بأكثرية مريحة أمس على ترشيح الشاب سيرغي كيريينكو لرئاسة الحكومة ليتجنبوا في آخر لحظة سيف حل مجلس الدوما الذي سلطه عليهم الرئيس الروسي بوريس يلسن، وبعد أن رفض النواب في العاشر والسابع عشر من أبريل الجاري مرشح يلسن فضلوا التراجع في الدورة الثالثة ومنحوا كيريينكو 251 صوتا بينما لم يكن بحاجة سوى لتأييد 226 نائبا، ويبدو أن “حب البقاء” لدى النواب كان أقوى من المضي قدما في معارضة الشاب التكنوقراطي الليبرالي كيريينكو).

وبذلك أسدل النواب الروس الستار على الخلاف الذي نشب بينهم وبين الرئيس يلسن وأظهر أحد زعماء الأحزاب هناك سر التصويت لكيريينكو بعد المعارضة الشديدة بقول: (إن النواب سيصوتون اليوم انطلاقا من غريزة البقاء) أي البقاء في عضوية مجلس الدوما، مما يوحي بأن النواب قارنوا بين المصلحة العامة وبين مصالحهم الخاصة ومكتسباتهم من خلال العضوية في المجلس (الموقر) فآثروا المصلحة الخاصة بما فيها من وجاهة وظهور وأضواء ومكاسب مادية على مصلحة عامة الناس، التي وقف النواب في مبدأ الأمر يدافعون عنها ويرفضون تعيين “كيريينكو” رئيسا للوزراء، لأنه لا يستطيع أن يحقق المصلحة الجماهيرية العامة، فهو لم يأت إلى موسكو إلا منذ عام واحد، وخبرته السياسية معدومة، فهو لم يشغل منصبا سياسيا واحدا، ولأن تجربته في الحياة محدودة بحكم أنه لم يتجاوز الخامسة والثلاثين.

فهل تغير كيريينكو خلال أيام أو غير النواب موقفهم بعد أن رأوا جدية الرئيس الروسي في حل مجلسهم إذا لم يوافقوا على تعيين من اختاره؟

إن النواب هم الذين غيروا موقفهم خلال بضعة أيام، بعد أن وازنوا بين ما هم فيه الآن من المن والسلوى والعسل والحلوى، وبين ما سيكونون عليه بعد حل المجلس، حيث سيعودون مواطنين كبقية الناس، فاختاروا التضحية بأمانة المنصب وسلامة المبدأ وداسوا فوق المصلحة العامة بأقدامهم وهم في طريقهم للتصويت.

ولعل هذا الموقف يجعلنا نتساءل: لمن يعمل أمثال هؤلاء النواب في كل مجلس نيابي؟ أهم يعملون لخدمة الجماهير التي اختارتهم أم يعملون لخدمة أنفسهم؟

وقبل أن نجيب: نرى النائب قبل اختياره كثير النفقات كثير المصروفات، كثير الخدمات، شعلة من النشاط يعرض خدماته على هذا أو ذاك، ويساعد هذا وذلك، ويبذل من ماله وجهده ووقته الكثير، إنه يزرع ليحصد، ويقامر ليربح، ويضارب لتعود عليه مضاربته بالربح الوفير والمال الكثير، فإذا ما تمت الصفقة، ونجح في الاختيار ووصل إلى (البرلمان) فرك يديه واستعد لما هو آت من المكاسب إن هو عرف من أين تؤكل الكتف، وهذا النائب وأمثاله ليسوا قلة بين البرلمانيين، بل هم الكثرة الغالبة التي صوتت لصالح كيريينكو بفارق كبير عما كان يحتاج إليه.

المجلس الروسي ومجالس العالم الثالث:

وديمقراطية روسيا ليست عريقة بين الديمقراطيات الراسخة القدم في الدول الغربية، ولكنها أرقى حالا وأرحب مجالا من كثير من ديمقراطيات العالم الثالث، فهي لا يشوبها تزوير من مبتدئها إلى منتهاها، وهذا في حد ذاته فرق كبير بين الديمقراطية في روسيا وبين ديمقراطية عالمنا الثالث، غير أن هذه الديمقراطية حين تتعارض مع رغبات (يلسن) تصبح كأن لم تكن، فمنذ مدة عارضه النواب فقصف مبنى مجلسهم وحاصرهم، وفي هذه المرة وضع النواب أمام أمرين أحلاهما مر كما يقول أبو فراس الحمداني، إما أن يقبلوا ما يريد، وإما أن يحل مجلسهم ويلغى اختيار الشعب لهم، فاختاروا ما يريد ونزلوا على رغبته، وآثروا السلامة والرضا، فإذا كان هذا حال النواب في روسيا فما بال حالهم في كثير من دول العالم الثالث؟ وأي مصلحة عامة ترتجى من هؤلاء إن كانوا أمام كل تهديد بتقليم مكاسبهم يتخلون عن مصالح الجماهير التي وثقت بهم وحملتهم أمانتها وعهدت إليهم بحراسة المصالح والأعمال؟

وبمعنى آخر فإن هذا النائب جاءت به الجماهير وارتضت أن يأخذ راتبا معلوما من مال الدولة مقابل هذا العمل، فكأن هذا عهد وموثق بين الطرفين، يأخذ الأجر المعلوم الذي تحدده وتبيحه قوانين الدولة مقابل السهر على حماية مصالح الجماهير وخدمتهم، ومن الأمانة  أن يحافظ النائب على عهده غير المكتوب مع الناس، فإن فرط فقد خان وحاد وانحرف وسقط من أعين الجماهير ولعل هذا سر سقوط بعض النواب حين يعاد انتخابهم.

الامتيازات القانونية والمكتسبات الخفية:

ونحن لا نتحدث عن أن النائب الذي تفرغ لهذا العمل يأخذ أجرا معلوما، فهذا أمر لا غبار عليه ولا نقاش حوله، فله الحق في أن يأخذ الأجر المعلوم، والامتيازات المقررة لمنصبه دون تجاوز لذلك بالبحث عن مكتسبات أخرى هنا أو هناك بطرق ملتوية لا يقرها القانون، لأنها تجري من وراء ستار، وعند هذه النقطة يختلف النواب فمنهم من يلتزم ومنهم من يتجاوز ضاربا بمصلحة الجماهير عرض الحائط.

وقد يبيع مصلحة الناس بدراهم من هنا وآلاف أو ملايين من هناك، ولتفقد الجماهير ثقتها فيه فذلك لم يعد يعنيه، إنما يعنيه أن يحقق أكبر المكاسب في هذه المدة الزمنية المحدودة التي أتيحت له (فترة العضوية في المجلس)، وأمثال هؤلاء لا ترقى بهم أمة ولا تقوى بهم دولة، لأنهم إن وجدوا غنيمة أخذوها، وإن ذهبت إلى غيرهم سلبوها، ومصالحهم قبل مصالح الآخرين فإن اتفقت المصلحتان فبها ونعمت، وإن اختلفت المصلحتان فإما مصلحتهم وإما لا شيء لغيرهم.

مهمة النائب:

وليست هذه مهمة هؤلاء في الحقيقة، لأنهم عرضوا أنفسهم للخدمة العامة فليحملوا تبعاتها بصدق، وليعملوا على تقديمها على كل شيء آخر، إن النائب أصبح وكيلا عن الأمة في رعاية المصالح وتحقيق المطامح وصد المظالم ودفع المفاسد، ولو تحمل في سبيل ذلك المشقة والعنت والمضرة، وقد كان هذا دأب المسلمين الأولين الذين حملوا أمانة المناصب العامة فضربوا أروع الأمثلة في التجرد والوفاء وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، بل كان منهم من قدم عمله للأمة بغير أجر، فهذا أبو بكر -الخليفة الأول في الإسلام- يراه الناس ذاهبا إلى السوق -بعد اختياره خليفة- فيقولون له: إن هذا الأمر لا يصلح مع التجارة، فسأل -كأنما لا يعلم طريقا آخر للقوت- ومم أعيش؟ فترووا في الأمر، ثم جعلوا له من بيت المال كفايته لقوته وقوت عياله جزاء قعوده عن التجارة  واحتباسه للوظيفة .. ومع هذا فقد أوصى عندما حضرته الوفاة أن يحصى ما أخذ من بيت المال فيرد من ماله وأرضه تورعا وتعففا عن مال المسلمين.

ومضى عمر على هذا النهج كذلك في خاصة نفسه، وحاول أن يأخذ ولاته بنفس الأسلوب فكان يقاسمهم أموالهم لا لمصلحة شخصه، بل لمصلحة المسلمين، وكان يعارض من يحتج منهم بأعماله التجارية بقوله: “إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارا”، وخطب في الناس يوما فقال: “إني لم استعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، وليشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم..”

وكانت شريعة الإسلام هي المرجع وهي الرادع، بحيث لا يستطيع الخليفة ذاته أن يتجاوزها في شيء قليل ولو أغضب في سبيل رد الحق إلى نصابه بعض أقاربه، فحين ولى عمر بن عبدالعزيز بدأ برد المظالم إلى أهلها، وقد أغضب بتصرفه هذا كثيرا من أقاربه، ولكن غضب الناس أهون من غضب الله.

ولسنا ندعي أن كل ذوي المناصب العامة ساروا هذه السيرة، ولكنا نقول إن هذه السيرة هي الموافقة لروح الإسلام، وإن مخالفة هذه السياسة الإسلامية في هذا الجانب استمرت طويلا حتى وصل بعضها إلى العصر الحديث، الذي لم يتورع فيه بعض ذوي المناصب عن أن تمتد أيديهم وينشغل تفكيرهم بتحقيق مصالحهم على حساب غيرهم.

وقد كشف مجلس الدوما -كنموذج للمجالس النيابية الأرقى نسبيا من مجالس العالم الثالث -بتصرفه في هذا الحادث الأخير- مدى التصادم بين المبادئ والمصالح، وأن للمصالح الغلبة على المبادئ حين تتصادم المصلحتان أو تتعارضان، فهل النواب في العالم الثالث يتبعون المبادئ أم يغلبون المصالح؟ وإن كانوا يغلبون المبادئ فأين أثرهم؟ وما هو نتاجهم؟