بقلم الشيخ/ د. جاسم مهلهل الياسين
الامتداد والظهور:
الصحوة الإسلامية ظاهرة برزت على الساحة في العقود الأخيرة فملأت أخبارها الدنيا وشغلت الناس، فمنهم الناصح المؤيد، ومنهم الكاره المهاجم، ومنهم المنتظر المهادن، الذي ينتظر أن تأتيه أخبارها والمعلومات المرصودة عنها من مراكز الأبحاث الاجتماعية والاستراتيجية في الشرق والغرب، ولا تظن -أخي القارئ- أننا نبالغ في التعبير، ونعطي ظاهرة الصحوة أكثر مما تستحق، فالدراسات التي تحدثت عنها في الغرب أكثر من الدراسات التي كتبت في الشرق الإسلامي، وهي دراسات رصدت الصحوة من جوانب شتى، وبعضها دراسات واقعية تحليلية لوسائلها وأهدافها، وامتداد أثرها، وسعة انتشارها في عديد من البلاد .. ولسنا نتعرض هنا لأهداف هذه الدراسات، ولا لمن يقومون بتمويلها .. وإنما نتعرض للظاهرة ذاتها، التي نبتت جذورها حين غيبت السجون والمعتقلات دعاة المشروع الإسلامي في جوانبها المظلمة، وحين ظن البعض أن الدعوة إلى الله لم يعد لها صوت يسمع ولا لسان ينطق .. كانت جذور الصحوة الإسلامية في هذه الأثناء تمتد وتمتد في هدوء وثقة في الجامعات والمعاهد، وبعض المدارس الثانوية، وكان التوجه إلى دين الله هو الملاذ التي يلتجئ إليه الذين رأوا بأعينهم فشل القوميين وتجني العلمانيين، وغطرسة الديكتاتوريين، الذين كانوا يتبعون طريقة زعيمهم الأول فرعون، الذي قال: “ما أريكم إلا ما أرى” .. لم يكن أمام الشباب غير الدين يلتجئون إلى رحابه، ويعيشون في جنابه، حيث يمكن -بالعودة إلى الدين- تحقيق عزة المؤمنين، وإقامة العدالة بين الناس، ورفع إصر التخلف عن الأمة، والمحافظة على كيانها ومقوماتها، وتربية الشباب على عدم التفريط في أرض ولا عرض ولا حق، مهما توالت التهديدات أو كثرت الإغراءات .. وأدرك الشباب أن الحركة الإسلامية مقيدة، وأن التحديات أمامها كبيرة، وأنها في حاجة إلى جهود متواصلة، فكانت الصحوة الإسلامية مدداً جديداً، وشرياناً يصب في الحركة الإسلامية ويمدها بقوة الشباب، ويسترشد بخبرتها في العمل، ويحاول مزج حكمة الشيوخ بقدرة الشباب لتأدية عمل نافع يظهر أثره على الساحة الإسلامية.
وقد بلغت الصحوة أوجها في السبعينات والثمانينات، وكان لها بعض الأثر في بعض الأمور السياسية أو الاجتماعية، ولعل الأحداث التي مرت بها الأمة بعد هزيمة سنة 1967م ومعركة أكتوبر سنة 1973م إلى جانب بعض السياسات الداخلية، والضغوط الخارجية ساعدت على انطلاق الصحوة وانتشارها في عديد من البلاد، وساعدت على أن يكون لها دور في الأحداث، وصوت يسمع في قضايا الأمة.
تراجع غير مقصود:
وما يزال للصحوة الإسلامية بريقها، وسيظل لها أثرها الفاعل -إن شاء الله- غير أننا نظن أنها في التسعينات قد تراجعت قليلا عما كانت عليه قبل ذلك، ولعل الإحباطات التي توالت على العالم العربي والإسلامي منذ التسعينات والتي كان من أبرزها الغزو العراقي للكويت .. وتوقيع ما سمى باتفاقات السلام في أوسلو ومدريد
.. ولن نتكلم عن أثر هذين العاملين على الصحوة، لأن كثيرين تكلموا من قبل. ولكنا لن نترك السبب الثالث وهو انشغال الدعاة -في جزء كبير من نشاطهم- بالعمل السياسي وحده، واعتباره هو الأساس الأول للعمل الإسلامي مع إغفال جوانب أخرى لا تقل أهمية عن هذا الجانب من بعض الوجوه.
وللعمل السياسي من جانب الإسلاميين أهميته لأنه مشاركة لها وزنها ولها اعتبارها في محاولة تسيير وضع الأمة بحسب ما يقتضيه الدين، وفي بيان الأحكام الشرعية التي يمكن أن تبنى عليها القوانين ومناقشتها داخل أروقة البرلمانات، والعمل على الخضوع للشريعة والالتزام بها، وبيان الروح الإسلامية المتسامحة التي تتعايش مع كثير من التوجهات التي لا تناقض الإسلام ولا تخالف مفاهيمه، إذ “العمل السياسي يؤدي إلى تحديد لمشاكل الجماهير وتشخيص سليم للآلام التي تعاني منها، وقدرة عملية على إيجاد الحلول الصحيحة لها، وقدرة حركية على تنظيم الجماهير وتعبئة قواها وتحريكها لتنفيذ الحلول” (مستقبل الصحوة الإسلامية: د. عبدالله النفيسي) وهذا كله يتم على يد النواب المنتمين للحركة الإسلامية في ضوء تعاليم الإسلام وهو شي غير قليل، ولكنه -وحده- غير كافٍ، لأن العمل الجماهيري أوسع من العمل السياسي؛ إذ يشكل العمل السياسي بعض جوانبه، وتبقى هنالك جوانب أخرى اجتماعية وتربوية واقتصادية تتصل بالجمهور مباشرة، ويود أن يدخلها أصحاب المشروع الإسلامي بقوة، لمعرفتهم أن الناس قد لا يهتم بعضهم بالعمل السياسي إلا بمقدار، ولكن بقية الأعمال الأخرى التي تقوم عليها أركان أي دولة قد تجد من الناس كثيرا من الاهتمام والالتفات دون أن تجد ذلك من النواب الإسلاميين، وإذا وجدته فإنه يكون أقل من الآمال المعقودة عليهم عند الناس.
الصحوة جزء من جمهور المسلمين:
والصحوة الإسلامية جزء من جماهير المسلمين، فإن لم تعبر عن مشاعرهم وتتبنى آمالهم، وتندمج معهم في كل ما لا يتعارض مع التوجه الديني الصحيح، إن لم تفعل ذلك تركتها الجماهير وابتعدت عنها ووقفت منها موقف المتفرج .. وهذا ما عبر عنه الدكتور عبدالله النفيسي حين قال: “وإذا أرادت الصحوة الإسلامية أن تحتضنها الجماهير فيجب على الصحوة الإسلامية أن تبادر هي باحتضان الجماهير من خلال الانحياز الدائم لها وضبط العلاقة بها وفق نظرية موضوعية في العلاقات الشعبية. يجب أن ينعكس هذا الأمر على طبيعة لغة التخاطب مع الناس، لا بد من الرفق معهم وحسن التأتي والابتعاد عن مخاطبة الناس بلغة القضاة الأوصياء لأننا في الأساس دعاة لا قضاة. كما أنه يجب أن ينعكس على طبيعة التعامل مع الناس واستعدادنا التام للتآلف معهم في إطار المباح من الأمور وعدم الاعتزال لما في العزلة من ضرر على الصحوة الإسلامية. لابد كذلك من بلورة موقف محدد وموضوعي من كافة القطاعات الاجتماعية والسياسية في المجتمع السياسي والحذر من خلط الأوراق، وضبابية الرؤية، وحروب الوكالة، والاستدراج لمعارك جانبية تكسر التقيد بقوانين الاقتصاد في القوى وتؤدي إلى الهدر والتبديد”، فهل وقعت الصحوة في بعض هذه المحذرات؟
فهل هذه بعض أسباب تراجع الصحوة الإسلامية؟ وهل التركيز في توجيه جهود النواب وبعض الدعاة والعاملين إلى بعض الجوانب أدى إلى هذا التراجع؟ وهل للأحداث التي تلاحق المسلمين مثلما حدث في أفغانستان والبوسنة والهرسك، وكوسوفا وجنوب السودان والمشكلات القائمة داخل الجزائر وكشمير والمعاناة الفلسطينية داخل الضفة، وعدم اتخاذ موقف حازم تجاه القدس، وغير ذلك من المشكلات التي يسمع بها المسلمون ويرونها في أجهزة الإعلام، هل لهذا أثر ولو من بعيد -مع تراجع الصحوة؟
كل ذلك لا نستبعده، لأن الإنسان في عصرنا تتنازعه أفكار شتى وتتكالب عليه نوازع عديدة، تغذيها توجهات متعددة، وتأتيه في مكانه الذي هو فيه الأخبار والأفكار والآراء من كل صوب، ومن كل اتجاه .. وما لم يكن دعاة الإسلام أقوياء الحجة، داعين بالحكمة، عارفين بتيارات العصر، آخذين أهبتهم دائما لتوعية الجماهير، وتبصيرهم بالنافع في شئون دنياهم ودينهم انصرفت الجماهير عنهم وتركتهم إلى غيرهم..
ومن هنا وجب مراجعة الأمر حتى نزن الأشياء بميزانها الصحيح، وحتى نعرف سبب الداء فنقدم له الدواء.