بقلم الشيخ / د. جاسم مهلهل الياسين

فرحة يوم الخميس:

في الساعة السادسة من مساء الخميس 28/5/1998م كانت الأخبار المذاعة تزف إلينا خبرا ملأ أفئدتنا بالسرور، وقلوبنا بالحبور، وعقولنا بالتأمل والتفكر والأمل في إمكان أن تقوم لأمة الإسلام قائمة، وأن تقف على قدميها الثابتتين في الأرض دون أن تخشى الأقوياء الباغين، أو الجيران الظالمين، ودون أن تتلقى صفعات المتجبرين، الذين يتجرؤون على كل ضعيف، ولا يتجاسرون على أي قوي، إنه خبر إجراء باكستان لخمس تجارب نووية في صورة غير بدائية ردا على الهند التي أجرت يومي 11، 13/5/1998م خمس تجارب نووية، دفعت بها جارتها باكستان إلى ضرورة تدخل نفس الميدان، حتى لا تعيش تحت وطأة التهديد، الذي كان قد ظهرت بوادره، مما جعل وزارة الخارجية الباكستانية تستدعي سفير الهند المعتمد في باكستان -بعد أن وصلتها معلومات تفيد أن هجوما سيقع على المنشئات النووية الباكستانية- لإبلاغه بأن حكومة إسلام آباد تنتظر من الحكومة الهندية الامتناع عن القيام بأي عمل غير

 القوة تجعل من يفكر في الاعتداء يتراجع عن تفكيره ويحجم قبل أن يقدم.

مسئول، وإزاء هذا التهديد الممكن الوقوع كان لا مفر من حسم الموقف وجعل أي معتدٍ يفكر قبل أن يقدم على اقتحام لجة قد يغرق فيها ولا ينجو منها، وكانت هذه التفجيرات الخمسة، التي سيتبعها تفجيران آخران، هي الحاجز أمام الذين يفكرون في العدوان، والواقي الذي يمنع الذي يحبون اختراق بلاد الآخرين، والمانع من حدة وبطش الظالمين، وصدق الله: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم”.

لا نركع ولا نخضع لغير الله وحده:

لقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم العنصر الفعال في القوة التي نواجه بها الأعداء بقوله: “ألا إن القوة الرمي” وحين مرّ على جماعة يرمون حثهم وشجعهم بقوله: “ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا” وقال صلى الله عليه وسلم محذرا من الانشغال عن الرمي: “من تعلم الرمي ثم تركه فليس منّا أو قد عصى” أخرجه مسلم.

وليست القوة قاصرة على الرمي وحده، لأن السلام في اليد المرتعشة لا يصيب العدو وقد يضر بصاحبه، ولأن السلاح لا تحمله يد هزيلة ولا أمة مريضة، ولذا لا بد من قوة الإيمان التي تدفع إلى الثبات وإلى الشجاعة وإلى الجرأة على اقتحام الصعاب، ولا بد من قوة الساعد، التي تجعل المقاتلين أبطالا عند اللقاء، رجالا يصدقون ما عاهوا الله عليه، فمنهم من يقضي نحبه ومنهم المنتظرون للتضحية في سبيل الله بنفوسهم من غير أن يبدلوا أو يتحولوا عمّا يدعون إليه وما يؤمنون به، وما يقاتلون في سبيله: “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا”.

إنه الاستعداد الكامل من جانب المسلمين لأن يعيشوا أعزاء في أوطانهم أو يموتوا شهداء في سبيل الله إذا ما اعتدى

 العنصر الفعّال في القوة هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “ألا إن القوة الرمي”.

عليهم “فمن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون بيته فهو شهيد”.

وهل تكون عزة بغير قوة؟ فكيف يكون الضعيف عزيزا في مجتمع الأقوياء، الذين لا يرعون الضعيف حرمة، ولا يحفظون لعاجز حقا، ولا ينصرون مظلوما؟

وفي هذا يقول الشيهد سيد قطب يرحمه الله:

إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في “الأرض” لتحرير “الإنسان” .. وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة: أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها؛ فلا يصدوا عنها، ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها .. والأمر الثاني: أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على “دار الإسلام” التي تحميها تلك القوة .. والأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي، وهو ينطلق لتحرير “الإنسان” كله في “الأرض” كلها .. والأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية، فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها؛ ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده؛ ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه..

إن الإسلام ليس نظاما لاهوتيا يتحقق بمجرد استراره عقيدة في القلوب، وتنظيما للشعائر، ثم تنتهي مهمته! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية. فلا مفر للإسلام -لإقرار منهجه الرباني- من تحطيم تلك القوى المادية، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى، وتقاوم المنهج الرباني..

وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة .. ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني. ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية .. إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير؛ ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير “الإنسان” في “الأرض” من العبودية للعبيد..

هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي! والجهاد الإسلامي (1).

(1) في ظلال القرآن ج:3 ص:1543،1544

ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة. فالنص يقول:

وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”..

فهي حدود الطاقة إلى أقصاها. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها.

كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة:

ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم”..

فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض. الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم. وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم. والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونا مرهوبين في الأرض؛ ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله.

وقد استشعر رئيس وزراء باكستان هذه العزة الناشئة عن القوة التي ترهب الأعداء، استشعرها في غير استعلاء ولا

السلاح الرادع لا تحمله يد هزيلة ولا أمة مريضة وإنما تحمله أمة حيّة، تتفاعل مع العصر.

استكبار، ولا امتهان لحقوق الآخرين، ولا استهزاء بالضعفاء المستكينين حين أكد أن باكستان ترفض “نزعة السيطرة والاستعباد والإرهاب الهندية” وأنه “ليس بمقدور أحد تهديد باكستان بالقوة الذرية بعد الآن” ثم قال: “إننا كمسلمين لا نركع ولا نخضع إلا لله وحده”، إن سمة المسلمين إذا ما عزوا أن يتواضعوا وإذا ما انتصروا أن يشكروا الله، وإذا ما قدروا أن يعفوا عن المسيئين بعد أن يتمكنوا منهم، ورائدهم وقائدهم في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، الذي دخل مكة منتصرا فما أباح فيها الفساد -حاشا لله- ولكنه كان مطأطئ الرأس، تكاد رأسه تمس عنق راحلته تواضعا لله رب العالمين.

مبعث الفرحة:

لم يكن مبعث فرحتنا حب الاعتداء، ولا هضم حقوق الضعفاء، فذلك لا يرضاه مسلم -وإن قدر عليه- لأنه يتنافى مع هدي السماء “ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” بل إنه مسموح لنا أن نرد عدوان المعتدين بمثله بدون زيادة “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين”

ولكن مبعث الفرحة أن باكستان أثبتت أنها إحدى الدول الحيّة المتفاعلة مع العصر رغم مشاكلها العديدة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولم تستنم القوى التخدير الدولية التي تجعل مستقبل بعض الدول مليئا بالأحلام اللذيذة، يفيض منه العسل والسلوى، ليملأ الناس بطونهم فيناموا ثم لا يستيقظوا إلا حين يعيث المعتدون ويجوسون خلال الديار فلا يجد أصحابها في أيديهم شيئا يدافعون به عن أنفسهم، ولا شيئا يستغنون به في طعامهم فيصيبهم الداءان الوبيلان: الجوع والخوف.

وقد سلمت باكستان بحمد الله من داء الخوف، وسوف تسلم إن شاء الله من داء الفقر والجوع، ولذا فلا معنى لقول

 الأمة المسلمة لا تعتدي على الآخرين، ولا تجعل الآخرين يعتدون عليها، لأن القوة عندها، تملك بها الرد على أعدائها.

الرئيس الأمريكي كلينتون: إن باكستان أضاعت بصدها واشنطن فرصة لا تقدر بثمن فعلا، لتلقى مساعدة أمنية واقتصادية أمريكية، يقول هذا في نفس الوقت الذي يعلن فيه الخبراء المعنيّون أن واشنطن ستجمد مبلغ 650 مليون دولار أمريكي، كانت باكستان دفعتها ثمنا لعدد من الطائرات الأمريكية، ولكن الساسة الأمريكيين الذين يعلنون -الآن- أن فرصة مساعدة أمنية واقتصادية قد ضاعت على باكستان، هم الذين جمدوا هذه الأموال الباكستانية فلا هم سلموا لباكستان الطائرات، ولا هم ردوا ثمنها، فما الفرصة التي ضاعت من أيديهم بعد هذه الموقف؟

الموقف الدولي:

ولا عجب في هذا الموقف الأمريكي ولا في أمثاله من مواقف الدول الكبرى، التي لم تفرض عقوبات حقيقية على الهند بعد إجراء تجاربها النووية، ولكنها قد تفرض عقوبات حقيقية على باكستان، لأن المجتمع الدولي يكيل بكيلين، ويزن بميزانين، فإن وافقت الدولة هواه حماها وأعانها، وجعل تهديده لها دعاية إعلامية وفرقعة صوتي، وإن لم توافق هذه الدولة هواه، جاءها الويل والثبور وعظائم الأمور، وساق عليها دواهي الدهور .. ونظن أن هذا ما ستتعرض له باكستان إن عاجلا وإن آجلا بعد أن تخف آثار هذه التفجيرات، وتتدخل الدول بأجهزة الاستخبارات، والضغط من وراء الكواليس، في الحجرات المغلقة، والترهيب بالعصا، والترغيب بالجزرة، ومحاولة العسكر أن يتدخلوا في الشئون السياسية، أو القيام بالانقلابات العسكرية.

فهل تصدق الجهود في صد الهجمة الخفية، كما صدقت في صد الهجمة المعلنة؟

إننا نأمل ذلك خاصة وأن بعض الدول الكبرى رفضت فرض العقوبات، وإن لم ترض عن التفجيرات.

القوة في يد المسلمين:

إن القوة في يد المسلمين ليست للتهديد ولا للاعتداء على الآخرين أو اغتصاب حقوقهم ومقدراتهم والاستيلاء على خيرات بلادهم طوعا أو كرها، ولكنها لمنع أن يفعل الآخرون ذلك ببلاد المسلمين، فهل يضير الآخرين في شيء أن يحافظ المسلمون على أرضهم وديارهم وأموالهم كما يحافظون؟ أم أن محافظة الآخرين ضرورة ومحافظة المسلمين ضرر؟ نعم إنها تضر الغصبين، وتحرمهم من ثمرة شهية يأكلونها بدون تعب، ولذا فلا يطيب لهم ولا يحلو لأهوائهم أن تقوى دولة بحيث تكون قادرة على الرد على أسلحتهم بمثلها، فلا تقبل منهم تهديدا، ولا يُرهبها وعيدٌ، ولا يزحزحها عن موقفها تحذير أو تنديد.

 الدول التي تستنيم لقوى التخدير الدولية بترك التسلح، تجد نفسها -بعد حين- واقعة بين الجوع والخوف.

إن الاغتصاب الجائر لا يمتد في عالمنا إلا إلى أراضي المسلمين في القديم والحديث (الأندلس وفلسطين) وما ذلك إلا لضعف المسلمين وتقاعسهم عن أن يعملوا بمبادئ دينهم، الذي فرض عليهم أن يحافظوا -على الأقل- على ما تحت أيديهم من مقدرات وأن يكونوا قادرين في كل وقت، مستعدين في كل حين لمواجهة المعتدين الآثمين.

احرص على الموت توهب لك الحياة:

ومن هنا كان من مات في سبيل الدفاع عن الدين وما يقتضيه حيّا يرزق عند الله “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون” والأمة الإسلامية لا تخشى الموت لأنه بداية الحياة الحقة في رحاب الله سبحانه، فالمؤمن يفرح بلقاء الله، ويسأل الله الشهادة بصدق، ويحب لقاء الله؛ لأنه يعلم أن الله -حينئذ- يحب لقاءه، فكيف ينكل أو يجبن عن هذا اللقاء، هذه عقيدة المؤمن في الموت، فما عقيدة غير المؤمنين؟ إنها اعتبار الموت قطعا للذائذ الحياة ومحوا لمسراتها، وجسدا يوارى في التراب حتى يصير ترابا، أو يحرق في الفضاء حتى يصير رمادا ثم لا شيء غير ذلك، فماذا يحرصون على القوة ونحن أولى منهم بذلك؟

ولماذا يموتون في سبيل منفعة دنيوية تزول، ونحن لا نموت في سبيل جنة عرضها السموات والأرض؟ مع أنهم

 الموت عند غير المسلمين نهاية الحياة، وعند المسلمين هو البداية الحقة للحياة.

يموتون وهم معتدون، ونحن نموت مدافعين عن أرضنا وديارنا وأموالنا. وأخيرا نقول:

هنيئا لباكستان فقد وضعت قدمها على الطريق. فهل تلحق بها دول في عالمنا الإسلامي؟

وفي النهاية:

لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر والتقدير للرجال العاملين في جريدة “الوطن” على جهودهم وسعيهم في تقديم كل جدي مواكب للأحداث، ولو كلفهم ذلك جهدا وتعبا.. فلم يكن مقالنا هذا هو المعدُّ من أول الأمر، بل كان هناك مقال آخر تمَّ صفه وتجهيزه للطباعة قبل أن تفاجئنا الأخبار بالتفجيرات النووية الباكستانية، مما استدعى تغيير المقال، وشجعني على ذلك استعداد رجال “الوطن” للعمل من جديد، دون أن يلحقهم كلل أو ملل. ولذا لا يسعني إلا أن أتقدم إليهم بالشكر والتقدير، داعيا الله أن يجزيهم خير الجزاء.