بقلم الشيخ/ د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
التدافع : تنافس واستثارة للعمل على إحقاق الحق ، ورفض الظلم ورد البغي ومنع التعدي على حدود الله الوسائل المشروعة في رد المنكرات ، فغاية التدافع إصلاح النفوس أو الجماعات او الدول والأمم ، ومطاردة وملاحقة الفساد بجميع صوره ، وإزالة أسبابه ، ليسلم الناس من العذاب والبلاء ، وقد أخير الله سبحانه بأن الفساد يظهر في الأرض نتيجة الانحراف ، وإن الناس يتجرعون غصص العذاب ليذوقوا بعض ما صنعته أيديهم لعلهم يرجعون عن البغي والضلال فقال : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } ” الروم 41 “
ولا يتم القضاء على الفساد وتحقيق الصلاح والإصلاح بغير التدافع الذي أراده الله ، وجعله سنة من سننه في كونه فقال : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } ” البقرة 251″
فالتدافع فضل من الله ومنة منه على العالمين ، لتظل في الأرض بقية من صلاح تمنع انتشار الفساد الذي يهلك العباد ويصيبهم بالعنت والمشقة والعسر ، وتخلو أماكن العبادة من روادها ، وتصير الأرض مرتعا للشياطين والمفسدين من الجن والإنس ، وهذا ما يستشف من قوله سبحانه : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز } ” الحج 40 “
( لقد كانت الحياة تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض .. لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع ، فتنفض عنها الكسل والخمول ، وتستجيس ما فيها من مكنونات مذخورة ، وتظل أبدا يقظة عاملة ، مستنبطة لذخائر الارض، مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة .. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء ) ” في ظلال القرآن مجلد ص 397,396 “
وفي الحياة أنواع ومستويات من التدافع : تدافع على مستوى الفرد النفسي بين التقوى والفجور وبين النزعات الروحية والشهوات المادية ، وتدافع على مستوى الفرد النفسي بين التقوى والفجور وبين النزعات الروحية والشهوات المادية ، وتدافع على مستوى الأمة او المجتمع بين العدل والظلم وبين أهل الحق والبغي وبين الانحلال والفساد ، وتدافع على مستوى الدنيا كلها بين الأيمان والإلحاد (سنن القرآن في قيام الحضارات وسقطوها ص50)
وفرق بين التدافع بوسائله وغاياته الذي نلمح فيه التأييد والعون والنصرة من الله {ولينصرن الله من ينصره } وبين التنازع الذي يرتبط به الفشل وقد جاء في كتاب الله { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } ( 15 آل عمران ) .
فالتنازع خلاف وفرقة وذهاب للشوكة ، وقد بين الله ذلك في قوله : { .. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } فالفشل والوهن والفرقة ملازمات للتنازع الذي يخلو فيه أي فريق من هوى يميل إليه ، فليس التنازع قائما على الحق والعدل ، ولكنه في الأغلب الأعم قائم على الميل والرغبة التي لا يمكن أن يكون عليها توحد أو التقاء ، ولذا فان القرآن الكريم يرد المؤمنين ـ حين تنازعهم ـ إلى الأمر الجامع الذي لا خلاف حوله { فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } .
وقد يصل التدافع في بعض مراحله إلى حد الصراع الذي لا يكون إلا بين الحق والباطل { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } ( الأنبياء 18 ) (فلا صراع بين الطبقات ولا صراع بين العمال والملاك ، ولا بين الرجال والنساء ، ولا بين الفرد والمجتمع ، ولا بين الرجال والنساء ، لا بين الفرد والمجتمع ، ولا بين الإنسان والطبيعة ، بل تكامل واستثمار لمختلف القوى … وكيف يكون الصراع ولا غنى للمالك عن العامل ، ولا للفقير عن الغني ، ولا للغني عن الفقير ، ولا للرجل عن المرأة ، ولا للمرأة عن الرجل ، وقد اقتضت سنة الله تركيب الحياة على هذا المنهج .. ولا يمكن أن تستمر الحياة بدون هذه الثنائيات فالصيف والشتاء والليل والنهار والرجل والمرأة كلها متقابلة متعاونة وليست متقاتلة متصارعة لأنه لا يستغني أي منها عن الأخر أما ما تراه الماركسية من صراع مع الطبيعة فهو تسخير لا صراع، لأنها مخلوقة من اجل الإنسان ، وان جمالها وأهميتها وعطاءها لن يتجلى إلا إذا سخرت للإنسان ، واعمل فيها عقله ويده ) (سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها ص51)
والفكر الماركسي الذي قام على نظرية الصراع اثبت فشله ، وحفر قبره بيديه وماتت تجربته بالسكتة القلبية على غير توقع من كثيرين لأنه حاول أن يبني واقع الناس على التنازع والصراع لا على التدافع والتنافس في الإبداع .
وبناء المجتمعات وتقدمها لا يخلو من اختلاف في الآراء والتوجهات ولا يخلو من حاجة لإقامة الحجة والبرهان ، ولا يخلو من تنافس واستثارة للنفوس ، لتقدم ما عندها من الخير، وتطلب العدل وتقاوم الجر ، وتحاول الإصلاح ، وتدرا الفساد ومن اجل ذلك يحدث التدافع بين أبناء المجتمع الواحد للحفاظ على هذا المجتمع من العبث الذي يؤدي إلى الخراب والهلاك .
والمجتمعات الحية ـ مؤمنة أو كافرة ـ ترى حركة التدافع فيها قوية نشيطة لا تتوقف لأنها مستمرة في بناء النفوس وبناء الحياة بتنمية وسائلها ، وتقوية دعائمها وإبراز مظاهرها النافعة ، والوقوف في وجه السلبيات المصطنعة من قبل الذين ينظرون فقط لمصلحتهم ولأشخاصهم ولتحقيق منافعهم ، ولو كانت على حساب المجتمع ، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا كيف نتصرف مع أمثال هؤلاء وحثنا على الأخذ على أيديهم حتى يسلم المجتمع من الشرور والمهلكات فقال صلى الله عليه وسلم (مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وأصاب بعضه أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقال الذين في أعلاها : لا ندعكم تصعدون فتؤذونا ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فان يتركوهم
وما أرادوا هلكوا جميعا ، وان اخذوا على أيدهم نجوا نجوا جميعا) (صحيح الجامع الصغير حديث رقم5832)
وهذا الحديث يمثل جزءا من منهج الإسلام في دفع المنكرات والتصدي للمفسدين المخربين الذين لا ينظرون إلا لذواتهم ، ويجب على كل قادر أن يمنع الانحراف والشر ، حتى ولو كان بعيدا عنه ، لان الأضرار تعود على المجتمع الذي يشترك في العيش فيه الجميع .. من هنا كانت سنة التدافع ذات أهمية كبرى في حياة المجتمعات وعمرانها وبناء نهضتها ورقيها، ودفع الأذى الذي قد يأتي إليها من بعض أبنائها أو من أعدائها على أن الفصل الحازم بين التنازع والتدافع قد يوجد في بعض الحالات ، وقد يتحول التنازع حيانا ـ إلى تدافع ، وقد يصل التدافع في بعض حالاته إلى صراع مع الفساد لا يهدأ إلا باجتثاثه واقتلاعه ، وقد يكون الموضوع الواحد قابلا من جهة إلى التنازع ومن جهة أخرى إلى التدافع بحسب الأحوال وطرق العلاج وخبرة المعالجين المصلحين .
وفي ضوء ما قدمنا نتساءل :
وهل ما يحدث بين الحركات الإسلامية على ارض المسلمين تنازع أو تدافع ؟
وهل ما حدث ويحث بين الحكومة ومجلس الأمة تنازع أو تدافع ؟
وهل ما يحدث الآن بين حماس والسلطة الفلسطينية تنازع أو تدافع ؟
ومن خلال الإجابة تتحدد الغابة والوسيلة ، ويستبين الطريق أمام البناة المصلحين أو ينكشف الستار عن العتاة المفسدين .