بقلم الشيخ/ د. جاسم مهلهل الياسين
استثمار الكسب الصغير:
في فبراير سنة 1998م أحدث النظام العراقي أزمة مع الأمم المتحدة، ارتفع بسببها الاستعداد العسكري في المنطقة، وجاءت بعض حاملات الطائرات إلى الخليج، وكثر الحديث عن ضربة عسكرية موجهة نحو نظام بغداد، تعيد للعراق رشده، وتجعله يفكر مرات قبل أن يثير من جديد بعض الأزمات، وترددت بعض دول المنطقة في تأييد الضربة العسكرية، وتباطأت الدول القادرة على توجيه ضربة إلى العراق في تنفيذها، وكان للإعلام دوره في إشعار الناس أن الضربة العسكرية قادمة لا محالة، وظهرت في بعض البلاد النشرات التي تبين للناس كيف يتصرفون عند الخطر، مما يوحي بأن بعض الدول اعتقدت أن ضرب العراق أمر مفروغ منه، وأن المسألة مسألة التوقيت المناسب، ثم ظهر كوفي عنان سكرتير عام الأمم المتحدة راكبا موجة الأحداث، وأتى إلى بغداد وخرج منها باتفاقه مع طارق عزيز على
كل أزمة يفتعلها نظام بغداد يتكلف الحشد العسكري لها مليارا ونصف المليار من الدولارات الأمريكية. |
إنهاء الأزمة دون إراقة دماء، أو قعقعة سلاح، وهبطت حدة الغليان التي كانت تجتاح المنطقة والتي ترى فيها الأطراف المختلفة مصالح متباينة، يسعى كل منهم لتحقيق مصلحته وحده، وإن أغرق الطوفان –من بعده- غيره من الناس، وهذا ما عبر عنه أحد المسئولين الأمريكيين بقول: “انظروا ما حصل الآن، لقد حصل ذلك مرارا: صدام يشعل أزمة حول التفتيش وحول اللجنة الخاصة، وينجح في شق صفوف الأمم المتحدة، ونقوم نحن بالتصعيد العسكري بكلفة مليار ونصف المليار دولا في كل تصعيد، أما الفرنسيون والروس والأمم المتحدة فيستثمرون قوتنا ونفوذنا لإبرام صفقة، ويحقق صدام كسبا صغيرا وينتظر الفرصة القادمة، إن ذلك لأمر غبى حقا” (الشرق الأوسط 9/11/1998م).
الأزمات جرعات دواء:
ومرت أزمة فبراير سنة 1998م التي افتعلها النظام في بغداد، كما مرت من قبلها أزمات مفتعلة تحشد لها الحشود العسكرية التي يتكلف كل حشد منها مليارا ونصفا من الدولارات -بحسب قول المسئول الأمريكي- تتحملها خزائن الدول الخليجية وتسدد (فاتورتها) على حساب تأخير التنمية الحاضرة، ومستقبل الأجيال القادمة، وتضطر إلى عقد صفقات قد لا تكون في حاجة ماسّة إليها، مما يؤثر –سلبا- على اقتصادياتها، في الوقت الذي تترسخ فيه أقدام نظام بغداد فوق أرض العراق، وتعطيه كل أزمة تمر ثقة في قدرته على البقاء. ولذا فقد ألف افتعال الأزمات، التي هي
الدول الخليجية التي تسدد (فاتورة) الحساب تؤخر التنمية الحاضرة، وتأخذ من مستقبل الأجيال القادمة، وقد تتورط في عقد صفقات لا لزوم لها. |
بالنسبة له جرعات من الدواء، يشد بها أزره، ويلفت بها الأنظار إليه.
سر تكرر الأزمات والتباطؤ في حسمها:
والأزمة الحالية هي جزء من مسلسل الأزمات، التي ينبغي أن تتكرر كل شهور حتى يألفها العالم وتألفها شعوب المنطقة، وتضيق بها وتتمنى أن تقبل نتائجها التي تتمثل في إعادة رسم خريطة المنطقة على نحو جديد، فإذا ما حدث ذلك تنفست شعوب المنطقة الصعداء، وظنوا أنهم تخلصوا من البأساء والضراء فقبلوا الواقع المفروض، ولم يمانعوا فيه، وبإعادة رسم خريطة المنطقة وظهور دول جديدة يقضي على نظام بغداد بشكل أو بآخر، وهذا سر الأزمات المتكررة التي تقبل الدول الكبرى تكريرها، وتتباحث أسابيع حولها (ولا يستبعد المسئولين الأمريكيون والبريطانيون حلا دبلوماسيا للأزمة الحالية، ورغم أن الحسابات قد تتغير فإن كبار المسئولين يؤكدون أن ترجيح استخدام القوة لن يأتي قبل بضعة أسابيع) (الشرق الأوسط 9/11/1998م) لن يأتي ترجيح استخدام القوة تجاه العراق المشاكس قبل مضي بضعة أسابيع، أما تجاه السودان وأفغانستان فإن استخدام القوة ضدهما يأتي قبل مضي 48 ساعة على تفجير سفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا. فلماذا كانت العجلة عند ضرب السودان وأفغانستان؟ ولماذا يتم الإبطاء المتعمد (عدة أسابيع) عند ضرب العراق، إن كان سيضرب؟!!!
مبررات فاترة:
ومبررات التأجيل في كل مرة تحدث فيها أزمة موجودة، وأبرزها الإعلان عن نقل حاملات الطائرات من البحر
الأزمات التي يثيرها النظام في بغداد تطول المحادثات والمباحثات حولها عدة أسابيع حتى تنطفئ جذوة حماس الناس ضدها، أما ضرب السودان وأفغانستان فيتم قبل مرور 48 ساعة على تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا. |
الأبيض إلى الخليج، وأنها اليوم تقترب من قبرص، ثم في الغد في بور سعيد، ثم بعد ذلك تعبر قناة السويس إلخ، هذه السلسلة التي صارت لكثرة تكرارها محفوظة، ومثلها سلسلة سير حاملات الطائرات التي تأتي من المحيط الهندي، والتي تحمل كذا وكذا .. وكأن أمريكا ليس لها قوات ثابتة متمركزة في شرق أفريقيا!! وليس لها قوات ثابتة متمركزة في الخليج، وليس لها تواجد بحري واضح في الخليج، والبحر الأبيض والبحر الأحمر، وليس لها قاعدة كبيرة في شرق تركيا، وكلها تستطيع –لو لم يكن الموضوع كله للاستهلاك المحلي وتهيئة الأرض لجنين أو أجنة جديدة تولد بعد رسم الخريطة الجديدة- تستطيع بسهولة أن تصيب الأهداف القريبة أو البعيدة في العراق. فلماذا الأسابيع العديدة إن لم يكن إطالة أمد الأزمة متعمدا وشغل الناس بها –أطول مدة ممكنة- مقررا؟!!
رسالة إلى سوريا ولبنان:
ويبدو أن الأزمة الحالية المفتعلة مقصود بها أن تمس سوريا ولبنان بشكل من الأشكال لم يتبلور بعد، لإرغامهما على السير في نفس الطريق الذي سار عليه عرفات حتى وصل إلى “واي بلانتيشن) ثم عاد (صارما يحمل سوطا –على حد تعبير فهمي هويدي- ويشن حملة اعتقالات وملاحقات واسعة النطاق لم تتوقف حتى الآن، على حين أن نتنياهو عاد فاتحا تتقدم موكبة الجرارات لبناء مستعمرة جديدة في كريات عربة بمنطقة الخليل) (الشرق الأوسط 9/11/1998م) عاد عرفات يحمل القهر والتضييق للفلسطينيين، وعاد نتنياهو يحمل العمران والبناء والتوسع للإسرائيليين، والمطلوب آن تفعل سوريا ولبنان نفس الشيء مع الإسرائيليين، تتنازلان عن كثير من حقوقهما في الجولان وجنوب لبنان مقابل لا شيء، وإذا لم تستطع التحرشات التركية أن تسوق سوريا إلى هذه الغاية، فقد نبهتها –على الأقل- إلى خطورة موقفها، وإلى الثمن الذي ينبغي أن تدفعه إن لم تتقدم خطوة نحو السلام مع إسرائيل ولو على حساب حقها في الجولان، وهو ما قد تؤدي إليه الأزمة الحالية التي يمكن أن تحول مسارها لتأخذ سوريا في طريقها، وتعمل على أن تصيب بعض أهداف فيها وكأنما هي رسالة بلغة الصواريخ البعيدة تقول للمسئولين في سوريا: لينوا كما لان إخوانكم في واي بلانتيشن حيث تحولوا إلى جلادين لشعبهم رحماء مع عدوهم. فلماذا أنتم تتشددون
لم تحقق الرسالة التي أرسلت إلى سوريا عبر تركيا في الأسابيع الماضية الأثر المطلوب، فهل الأزمة الحالية تتضمن رسالة جديدة؟ |
وتتمسكون؟ ولو وجهت ضربة عسكرية للعراق فسوف يصل مضمونها إلى سوريا، التي ينبغي أن تقرأ الرسائل المعاصرة وأن ترد عليها بالتنازلات المناسبة، ولقد وجهت الرسالة لسوريا من قبل حين حشدت تركيا على حدودها حشودها، وساقت إلى هناك جيشها للضغط على سوريا، ولكن سوريا بمؤازرة عربية شبه كاملة رفضت الانصياع لهذه الرسالة، وعولجت المشكلة بحنكة سياسية شارك في صنعها تحرك عربي مصري سعودي خليجي.
رفض الابتزاز والمساومة:
وبقيت سوريا على موقفها القوي تجاه إسرائيل، ترفض المساومة وتأبى الابتزاز بالتهديد والوعيد، وتعلن بتصرفها أن حقها في أرضها كاملة لا تنازل عنه، وأن ما يطلق عليه السلام مقابل الأرض يمكن أن تنقضه إسرائيل في غمضة عين، فيصبح لا وجود له، فلا تبقى الأرض ولا يكون السلام.
إن سوريا التي خبرت ألاعيب السياسة وخباياها لا يخفى عليها مضمون هذه الرسائل، ولكنها لا تهز ثباتها أمام العدو وصلابتها في وجهه.
الحرص على بقاء نظام بغداد:
ولو وجهت ضربة عسكرية للعراق فلن تهدف إلى إزالة النظام حتى ولو أزالت صدام، لأن نظام بغداد -بشكله الحالي- جزء من المسرحية التي تمثَّل على المسرح العربي، ليس دور صدام فيها إلا دور الشرير الذي يستمطر عليه لعنات الناس وسخطهم لتصرفاته الحمقاء، وأفعاله الطائشة، دون أن يستغني عنه، اللهم إلا إذا وجد البديل الذي يؤدي نفس الدور، ويقوم بنفس الغرض، ووجود النظام بهيئته الحالية هو الذي ينبثق منه هذا الدور سواء مثله صدام أم مثله غير صدام.
وجود النظام الحالي في بغداد ضروري للذين يخرجون الأحداث في هذا الجزء من العالم –على الأقل- في الفترة الحالية، ولذا فإن ضربة عسكرية –إن حدثت- تؤدي إلى الضعف العسكري للعراق وإلى تقوية النظام سياسيا؛ بحيث يتمكن من إكمال المخطط الموضوع لهذا الجزء من الشرق الأوسط مع بداية القرن الحادي والعشرين، الذي من المقرر أن تدخله المنطقة خلف دولة قوية غنية تفرض على غيرها ما تشاء، وتفعل مع جيرانها ما تريد هي دولة إسرائيل، ومن بين العرب من يساعد على ذلك وفي مقدمتهم نظام بغداد، الذي أهدى في حرب الخليج الثانية عشرة مليارات من الدولارات عجلت بها أمريكا لإسرائيل حتى لا ترد على بضعة صواريخ سكود أطلقها النظام لتسقط في صحراء النقب دون أن تخيف فأرا، أو تزعج طيرا.
تكتيك افتعال الأزمات ضروري في المنطقة:
إن الذين يظنون أن هذه الأزمات التي يفتعلها نظام بغداد تحدث بعيدا عما يراد للمنطقة واهمون، لقد أعلن (ريتر) الذي قدم استقالته من لجنة التفتيش على أسلحة الدمار الشامل العراقية أن أمريكا تغض البصر عما يفعله نظام بغداد، فهل (ريتر) غير صادق فيما يقول أم أن الشركات الأمريكية العاملة تحت علم الأمم المتحدة فيما يسمى بالنفط مقابل الغذاء قد استطابت الأكلات العراقية فأثرت في القرار السياسي الأمريكي.
إن التدهور الاقتصادي العراقي الذي هبط إلى معدلات مرفوضة (الدينار العراقي = سنتا من الدولار الأمريكي) هذا
يراد للمنطقة أن تدخل إلى القرن الحادي والعشرين خلف إسرائيل القوية المسيطرة، والأزمات العراقية المتوالية خطوات على هذا الطريق. |
التدهور لا يشغل بال النظام في بغداد، وإنما يشغله التجهيزات العسكرية التي يمكن بها –في الوقت المناسب- أن يعتدي على جيرانه، وأن يساعد في ضياع مقدرات المنطقة، ويزيد من تخلفها وإهدار ثرواتها، في الوقت الذي تسرح فيه وتمرح القوات التركية في شمال العراق، دون أدنى اعتراض من نظام بغداد.
فلماذا إذن الحرص على الجيوش وإحراز السلاح ما دام هذا لا يوجه نحو إسرائيل ولا يوجه نحو تركيا التي تقطع شمال العراق بقواتها –كل حين-؟
الأمر كله في النهاية يصب في سوق المنطقة نحو ما يراد لها من تخلف وفقر وقهر لتبقى فيها دولة واحدة (إسرائيل) ترفع أمام العالم شعار الحرية والديمقراطية، أما غيرها من الدول فليس لها حضور، بل ليس لها –إن شئت- حياة أو وجود.