بقلم الشيخ/ د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
أهمية التخطيط والاستراتيجية:
يكتسب التخطيط في البلاد المتقدمة كل يوم أهمية جديدة، تقوي مكانته، وتحفظ له الصدارة، وتجعل المؤسسات القائمة به إحدى أهم مؤسسات الدولة، كما تجعل من القائمين عليه أعمدة من أعمدة الحكم، لا يستغنى عن رأيهم، ولا ترد لهم مشورة، وخاصة عندما يتعلق هذا التخطيط بصلات الدولة بغيرها من الدول، وعلاقاتها البعيدة أو القريبة، التي ترسم الدولة من خلالها سياستها المستقبلة، وتصرفاتها الحاضرة في ضوء مصالحها الخاصة، وقوتها الذاتية، وقدرتها العسكرية والاقتصادية والبشرية بالنسبة لغيرها، ومدى تأثيرها في المحافل الدولية، وتطلعها إلى القيام بأدوار عالمية تفرض على الآخرين -بالترغيب أو الترهيب- وجهات نظرها، وتجمع من تأييدهم ما يوافق غرضها، ويحقق لها هدفها.
وكل الدول القوية أخذت نفسها بهذه السياسية، مستفيدة من كل تقدم عسكري أو ملاحي أو صناعي، أو كل كشف
الدول الكبرى استحدثت أجهزة ومؤسسات، لها قوة كبيرة، وميزانيات ضخمة مهمتها رسم سياسة البلاد تجاه غيرها وكيفية تنفيذها في ضوء المستجدات العصرية. |
جغرافي أو فضائي، ولقد كان اكتشاف البخار ومعرفة طرق البحار، والتطلع إلى ما وراءها من بلاد غنية بمواردها، ضعيفة بقدراتها، كان ذلك ثورة في علم التكتيك والاستراتيجية، أو التخطيط المبني على أسس واقعية، دفع البلاد الغربية إلى أن -تسيطر على البحار، وتعمل على تقليص أساطيل غيرها مما أدى إلى هيمنة البلاد الغربية -بعد الكشوف الجغرافية- على البحار، وبالتالي محاولتها محاصرة البلاد الأخرى أو السيطرة عليها، وأدى هذا التفكير إلى التخطيط المستمر للاستيلاء على هذه البلاد والاستفادة منها -في الحرب والسلم- بأقل الخسائر الممكنة، فكان الاستعمار القديم، الذي استمر عقودا متطاولة، ثم أعقبه الاستعمار الحديث الذي يحقق نفس النتيجة القديمة بدون خسائر تذكر، واستدعى هذا التحول وجود أجهزة ومؤسسات لها قوة كبيرة وميزانيات ضخمة مهمتها رسم سياسة البلاد تجاه غيرها، وبيان طرق تنفيذها مستفيدة من مخترعات العصر في وسائل الاتصالات والمواصلات وغيرها. بحيث تصنع هذه المؤسسات الأحداث، وتبرزها إلى الوجود في حالة طبيعية، لا يبدو عليها التكلف أو التصنع، فيقبلها الناس على أنها أقدار تجري، وليست تدابير محكمة تساق لأغراض مبيتة، ويتعاملون معها على هذا الأساس، مما يمكن صناع الأحداث من استثمارها لصالحهم على أحسن الوجوه، ولا تأتي صناعة حدث من الأحداث إلا بعد تهيئة النفوس لاستقباله بوسائل عديدة في مقدمتها تسريب بعض الأبناء، وافتعال بعض المشاكل والخلافات، وقيام بعض المعارك وتحقيق الانهزامات فيها أو الانتصارات وإثارة العصبيات الطائفية أو العرقية أو المذهبية، واستصناع بعض الناس لخدمة هذه الأغراض بمعرفتهم أو بغير معرفتهم.
انعكاسات على الواقع العربي والإسلامي:
ولو أردنا إنزال هذا التخطيط الاستراتيجي على واقعنا المعاصر في عالمنا العربي والإسلامي لوجدنا أحداثا تمت أو تتم أو تهيأ لها الأذهان وتمهد لها الأرض ليصنع الدول القوية ما خططت له وتبنته بحيث يصب -في نهاية الأمر- في صالحها أو في صالح حلفائها.
فمنذ متى يتحدثون عن تقسيم العراق، وعن عدد الدول التي تكون فيه، ومذاهبها الدينية، وأدوارها في مستقبل المنطقة، وما يكاد يخفت الحديث عن هذا التقسيم حتى يظهر من جديد مصحوبا بحدث من الأحداث، تنشره أجهزة الإعلام العالمية، وتصنعه وترعاه الدول القوية مثل الاتفاق الذي تم بين (البرزاني والطالباني) زعيمي الحزبين الكرديين في شمال العراق بمباركة أمريكية .. ثم تأخذ الأحداث بعد ذلك مسارا آخر حين تحشد تركيا جيوشها على الحدود مع سوريا، مطالبة بأوجلان، فيتحول في مدة وجيزة من رجل نكرة لا يؤبه له إلى زعيم خطير تقوم من أجله الدول، وتحشد من أجله الحشود وتتحدث عنه الأنباء وتتابع حركته وتردد اسمه الأخبار، وتتخاصم بسببه الدول .. ثم ماذا بعد وجود شعب يقاتل وزعيم مطارد، ومشاكل دولية مثارة .. وحديث يتردد عن دولة كردية في شمال العراق .. ماذا بعد ذلك؟ تتهيأ الأذهان لقبول شعب وزعيم ثم تقتطع له قطعة من أرض العراق ليقيم فيها دولة ومثل ذلك يحدث في السودان .. حديث يثار عن محاولات لفصل جنوب السودان .. ثم إيجاد بعض المتمردين ومدهم بالسلاح والمال، واشتباكات هناك أو هناك وسقوط بعض الأماكن في أيدي المتمردين، ثم إيجاد زعامة لهم، فيتحول “جون قرانق” من متمرد مجرم مطارد إلى زعيم للمعارضة المسلحة ذات المطالب المشروعة يستقبله في العلن زعماء الدول ويتباحثون معه، وتنشر وكانت الأنباء العالمية والصحف الكبرى أبناء تحركاته وكأنه زعيم دولة، لا رئيس عصابة.
وإذا كان هذا يحدث في العراق والسودان فإنه كذلك يحدث في أماكن أخرى بقدر، فأحداث الجزائر الدامية التي لم
الحديث عن إعادة تقسيم بعض مناطق الشرق الأوسط، لا يصدر من فراغ، وهو تهيئة ذهنية ونفسية لقبول التقسيم عند حدوثه. |
تستطع أي حكومة أن ترأب صدعها، وتضمد جراحها منذ حدثت حتى الآن. هذه الأحداث نزيف مستمر لقوى الشعب الجزائري الذي هو في أمس الحاجة لكل قوة ممكنة لبناء الدولة الجزائرية والنهوض بانتاجها واقتصادها وقدراتها حتى لا يجرفها تيار الديون المتراكمة، وفي مصر تثار الآن قضية اضطهاد المسيحيين التي لا أصل لها، لأنها تهدف إلى تشويه الصورة الإسلامية فقط، وإن لم تعبر عن الحقيقة، لأن المسيحيين في جميع الدول الإسلامية يتمتعون بكامل حقوقهم، لا لأن المسلمين يريدون ذلك، بل لأن الشريعة الإسلامية هي التي بينت ذلك وارتضته “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” فأين الاضطهاد؟ وكيف كان يعيش هؤلاء النصارى محافظين على دينهم وأملاكهم وحقوقهم وكرامتهم في وسط إسلامي 1500 عام إن لم تكن شريعة الإسلام تقبل ذاك، وتؤكد حرصها على ترك الناس أحرارا في اختيار ما يدينون به؟
ولكن الساسة وأهلها يخترعون كل عظيمة من الإفك ليحققوا أغراضهم ومصالحهم، والأمر لا يعدو في النهاية أن يكون المقصود بهذا التشهير والتجريح تفكيك قوى التماسك في الجماعة الوطنية، وقد عبر عن هذا الأستاذ / فهمي هويدي في مقاله المنشور في الوطن يوم الثلاثاء الماضي بقوله: “إن خبرتنا وخبرة المنصفين من أهل النظر تدلنا على أن العبث بملف علاقات المسلمين والأقباط في مصر لم يكن بريئا يوما ما، وفي تاريخنا المعاصر كله فإن محاولات تفجير تلك العلاقة تحت أي مسمى لم تحدث إلا حينما كان يراد الضغط على مصر أو تفكيك قوى التماسك في جماعتها الوطنية” (الوطن 1/12/1998م).
ولا تقف المؤامرة عند هذا الحد بل تثار أيضا قضية “حلايب” لتكون مصدر نزاع بين مصر والسودان، ولولا شيء من التعقل والحكمة لكانت هذه المنطقة الآن إحدى المناطق المشتعلة.
وفي أقصى المغرب العربي تجد الصحراء الغربية وجبهة البوليساريو والنزاع القائم هناك منذ سنوات، بؤرة للتفجر في أي لحظة.
إن النزاعات العرقية أو الطائفية أو المذهبية أو الإثنية القائمة بين البلاد الإسلامية الآن، لم تكن بارزة إلى الوجود يوم كان الاحتكام لشريعة الإسلام التي تسع الناس جميعا، وتسوي بينهم في الحقوق والواجبات لا فضل لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ولكل حقه المعروف وعليه واجب يؤديه نحو الجماعة، فإن قام به فقد ألزم الجماعة أن تقوم بحقه عليها حتى ولو خالفها في أعز ما تقوم عليه وهو الدين. وحين لم يحتكم الناس إلى الشريعة وضعف الوازع الديني وكثرت مطامع الأعداء في البلاد الإسلامية، عملوا على إثارة هذه الفتن وأمثالها في الوقت الذي كانت مناعة البلاد الإسلامية قد قلت، فوجدوا آذانا مصغية، ونفوسا متطلعة لإثارة المتاعب والقلاقل مقابل عرض من أعراض الدنيا، وما يزالون يجدون مثل ذلك ويحاولون اليوم ما حاولوه من قبل مضيفين فتنة جديدة هي فتنة النزاعات الحدودية التي لا تكاد بلد في عالمنا العربي تسلم من شرها، نتيجة للتخطيط الاستعماري القديم الذي حرص على إيجاد هذه النزاعات، القابلة للتفجر في أي لحظة إن خلا الأمر من حكمة المسئولين وحنكتهم وبصرهم بعواقب هذا الخطر في أي بلد من البلاد.
من مهام مجلس التعاون الخليجي:
ومجلس التعاون الخليجي مدعو -اليوم قبل الغد- إلى أن يضع في حسبانه أمثال هذه المخططات العالمية الكبرى، التي تصنعها القوى المحركة، وتعمل على تصويرها وإخراجها في أشكال متنوعة وتقسيمات جديدة لعالمنا العربي، قد لا نسلم من الوقوع فيها مستقبلا، إن لم نأخذ حذرنا، وتلم شعثنا، ونجمع فرقتنا، ونجعل من دول مجلس التعاون نموذجا في التواصل والعطاء، والتكافل والنماء والعمل الموحد الذي يعود خبره على الجميع وبه يأمن الجميع مكر الماكرين وكيد الكائدين.
النزاعات العرقية أو الطائفية أو المذهبية، أو الخلافات الحدودية، التي لا تخلو منها دولة في العالم الثالث تقريبا ألغام قابلة للتفجر في أي لحظة. |
تمزيق الجامعة الإسلامية:
إن دراسة التاريخ الحديث لعالمنا العربي والإسلامي، وأخذ الدروس والعبر منه كفيلة بإعطاء صورة واقعية لصناعة الأحداث التي تخدم الآخرين وتضر بأمة الإسلام والمسلمين، فالجامعة الإسلامية التي عمل لها ونادى بها المصلحون في أواخر القرن الماضي وحاول إحياءها والنهوض بها بعض الحكام في أوائل هذا القرن كان لا بد لها أن تخنق قبل أن تستحيل مخلوقا سويا، وأن يقوم بخنقها رجل له مكانته في نفوس المسلمين. ومن كأمير مكة في ذاك الحين؟ إنه الشريف حسين الذي نادى بالوحدة العربية بديلا عن الجامعة الإسلامية، وعمل هو وأبناؤه على محاربة الجيوش العثمانية في البلاد العربية، ووقف إلى جانب الإنجليز أملا في مساعدتهم له بعد الحرب العالمية الأولى. لقد استطاع تمزيق الجامعة الإسلامية في الوقت الذي كان فيه الإنجليز والفرنسيون يمزقون العالم العربي ليقتسموه بينهم بناء على اتفاقية (سايكس – بيكو) التي جعلت سوريا ولبنان من نصيب فرنسا، وجعلت العراق والأردن وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، فجزأت هذه الاتفاقية بعد تنفيذها بلاد الشام –وكانت كتلة واحدة- إلى أربع دول هي: سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، وبالطبع لم يستفيد الشريف حسين شيئا يذكر، بل جزي من قبل الإنجليز جزاء سنمار فقضى نهاية حياته في قبرص منفيا يعيش فيها عيشة البؤساء الفقراء مما دعاه إلى تحذير العرب من كيد الإنجليز عند سفره فقال لبعض خلصائه: “إنه يعترف أنه كان مخطئا، وأنه لم يكن يعرف أخلاق الأوربيين” (تباشير النهضة في العالم الإسلامي ص231. د. محمد ضياء الدين الريس)
وتمزيق الجامعة العربية:
لقد استطاع الشريف حسين بمساعدة الإنجليز أن يمزق الجامعة الإسلامية واستطاع صدام حسين أن يمزق هو أيضا الجامعة العربية حين افتعل أزمة مع الكويت واعتدى عليها في أغسطس سنة 1990م فطعن الجامعة العربية في فؤادها ومزق أديمها الذي لم يبرأ حتى الآن.
ولا شك أن عملية التمزيق للجامعة العربية لا بد أن تكون لها نتائج جغرافية على أرض الواقع، كما كان لتمزيق الجامعة الإسلامية نتائج جغرافية كذلك.فهل يمس هذا التمزيق دول هذه المنطقة؟
سياسة الإفقار:
إن التنبيه للأحداث ينبغي استشعاره قبل وقوعها، لأن ذلك يستدعي العمل على إبطال هذه الأحداث أو التخفيف من آثارها والتقليل من أضرارها.
فهل تدخل سياسة إفقار الدول الغنية في العالم الإسلامي في إطار هذا التنبه؟ لقد بدأت سياسة الإفقار بدول جنوب شرق آسيا، تلك التي كان يطلق عليها النمور، مما يدل على بداية نهضة قوية متوقعة، وما هي إلا سنوات عدة حتى انهارت هذه الكتلة وأصبحت أكبر دولها (أندونيسيا) مهددة بالبطالة والتضخم والتخلف الاقتصادي الذي هدد نظامها ويهدد الآن وحدتها الوطنية، بعد أن أشعل فيها الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، فحرقت كنائس ومساجد وأزهقت نفوس. ولا ندري إلى أي شيء ستتطور الأحداث.
ثم تفاقمت الأزمة في ماليزيا، فأسفرت عن عزل نائب الرئيس وسجنه واتهامه بعدة تهم مما أثار أنصاره، وما تزال الأمور هناك تتفاعل حتى الآن.
وسياسة الإفقار هذه تمارس على أشدها الآن في الخليج بوسائل متعددة، تعرضنا لبعضها في مقالنا السابق، وهي في
سياسة الإفقار التي تتم الآن في الدول الخليجية بوسائل متنوعة تهدف إلى دخول هذه الدول في نفق الاستنزاف بحيث يتقلص دورها بعد تأخر تنميتها وهز الثقة في اقتصادها. |
النهاية تهدف إلى إدخال الدول الخليجية نفق الاستنزاف وهذا ما عبر عنه وكشفه (اغرين شامون) في كتابه (العبرانيون والمستقبل) إذ قال: “إن من الأهمية إرهاق الدول الخليجية ذات الدخول النفطية الهائلة لإدخالها نفق الاستنزاف وشرخ العلاقة بينها وبين الفلسطينيين وغيرهم لإطفاء جذوة حماسهم في دعم العمل العربي” (مقال: وما زال للحلم أكثر من بقية. للأستاذ عبدالله الحصين. الوطن في 25/5/1998م).
وسياسة الدخول في نفق الاستنزاف هي التي تقف خلف الأحداث الجارية الآن في الخليج وهي التي تعمل على الاحتفاظ ببقاء الوضع الحالي في العراق على صورته التي هو عليها، حتى يظل النزف متواصلا لا ينقطع، وهذا ما قاله أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاهرة الأستاذ / محمد شوقي عبدالعال. قال: “إن تأمين منابع البترول وسيولة النفط بأسعار معينة حتى لا يحدث مثلما حدث عام 1973 عامل مؤثر في السياسة الأمريكية والسبب الذي قادت أمريكا العالم لأجله في حرب الخليج الثانية، ولأجله أيضا تظل تلوح بخطر صدام حسين على الدول الخليجية” (مجلة الإصلاح العدد 348).
وهذه الحقائق تدفع بنا -أبناء الخليج- إلى أن نسارع في خطوات التوحد السياسية والعسكرية والاقتصادية، حتى يمكننا أن نتخلص من سياسة الإفقار التي قد تتبعها بعض التمزقات لبعض الكيانات الموجودة اليوم والتي لا ندري على يد من سوف تتحطم؟