بقلم : د.جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
الحمد لله رب العالمين ما أتم علينا من نعمه ، ووافر ما حبانا من فيوض فضله ، والصلاة والسلام على رسول السلام محمد صلى الله عليه وسلم .
وبعد :
فإن من فضل الله العظيم علينا أن رزقنا نعمة العقل وتعبدنا به ، فلا فرض ولا نفل ولا تكليف ثمّ إلا من بابه ، وفضيلة العقل تقضي بالمسلم أن يطوف به في خَبْر الحوادث وتصاريف المواقف ، ودول النوازل يتقرأ جديدها ، ويعي مداخلها، ويلملم بأطرافها ، فتثمر لديه ثمرات جمة يفيد منها في دينه .
وهذا مقصود من مقاصد الشرع دلت عليه الآيات الكثيرات ” أفلا يسيروا في الأرض فينظروا ..”
العقل المسلم في أرقى حالاته يناقش الأفكارولا يناقش الأشخاص . |
“فاعتبروا يا أولي الأبصار” ، “إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب “
ويفيد منها في معاشة أجله وعاجله ، إذ من لم ينفعه حدسه ، ولم يتعظ بغيره فاته من الخير الكثير وحج الناس دونه ولم يحرم بعد .
وتأسيساً على ما سبق فإن مظاهر الاحتفالات التي صاحبت مطالع الألفية الثالثة لتعد من طريف الأحداث ، وحدث الحديث ، وهي تستدعي منا وقفة وكيف لا وقد اجتمع زعماء دول العالم في محفل مهيب قل حدوثه في تاريخ البشرية ليضعوا استراتيجية عالمية موحدة يستقبلون بها الألفية الثالثة ، فانتهوا إلى استراتيجية ظاهرها محاربة الفقر والجوع والتنمية والمحافظة على البيئة ، وباطنها حوى ما حوى مما ستدل عليه الأحداث ، وستشهد عليه دول الأيام وصدق الشاعر إذ يقول :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأحداث من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
لنضرب صفحاً عن حديث في النوايا إلى حديث عن يقين مشاهد غير غائب وحاضر وإن كان راكداً ، ألا وهو ” شريعة الإسلام ” وما أدراك ما شريعة الإسلام وإن حديثها ليشجي وخبرها لينضي وهذا ما يفيده المقام ويبين عنه ، ويمليه لسان الحال .
وكيف لا وقد دمت ناصيتها وتحلحل تاجها ، وغبرت ممالكها ، وغدت نهباً مقسماً ، وحرجاً دامياً ، وجيداً عاطلاً ، ولسان حالها يلتمس الشكاه فيقول:
أنزلني الدهر على حكمه من شامخ عال إلى خفض
غير أنا نلملم نثار الحديث عنها في سؤال نشفعه بإجابة وهو :
هو ” ماذا عن شريعة الإسلام في مطلع الألفية الثالثة ؟ ” ولنستعين بالله وحوله في محاولة للإجابة عن هذا السؤال متلمسين يقين الأدلة وراجح الرأي من أربابه على ما وقف عليه علمنا ، وطالته أيدينا، ونبدأ إجابتنا بإيراد هذه الحقائق الهامة كالتالي :
الحقيقة الأولى :
هي (أن مقصد الشريعة الأول وهدفها الرئيسي إنما هو صالح العباد في الدنيا والآخرة)
وبرهان ذلك ما ذكره علماء الأصول أن شريعة الإسلام إنما وضعت ابتداءً لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً ومعنى كونها موضوعة ابتداءً لهذا أنه قصد ذلك من وضعها في المرتبة الأولى ، ويكون ما عداه كأنه تفصيل له .
وعلى هذا القصد والوضع أجمع علماء الإسلام، ولم ينازع في ذلك منهم أحد وذهب الإمام الشاطبي في الموافقات إلى أن ذلك يعدُّ مسلمة لا مرية فيها، ولا جدال حولها .
وذكر الشاطبي – رحمه الله – أن هذه المسلمة يدلّل عليها بدليل الاستقراء الكلي والجزئي حيث قال : ” والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة إنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه … “
وهذا ما نص عليه واضع علم الأصول الأول الامام الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة حيث قال
حث القرآن الكريم على السير والنظر في الأرض… فلماذا أجمد العقل المسلم ؟ |
” فكل ما أنزل الله في كتابه – جل ثناؤه – رحمة وحجة ، علمه من علمه ، وجهله من جهله ” .
وفضل هذا الأصل العظيم الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين قائلاً :” فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها ” .
وعلى ما ذهب إليه علماء الإسلام دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية يكفي أن نتصفح كتاب الله فتطالعنا آيات كقوله تعالى :” ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ” وقوله تعالى:” ولكم في القصاص حياة يأولي الألباب ” وقوله تعالى :” إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ” وإلى غير ذلك من الآيات الكثيرات المتواترات المعني على ذلك، تقطع بأن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في الآجل والعاجل وهذا الأمر متصل في جميع تفاصيل الشريعة .
وتأسيساً على هذا البرهان فإننا نلخص إلى الآتي :
- أن الشريعة الإسلامية تنسجم وتتناغم مع الألفية الثالثة بمعطياتها ومتغيراتها إذ أنها ما وضعت إلا لصالح العباد ، وهذا الصالح يعم كل حاجياتهم في دنياهم قبل آخراهم .
وهو صالح ضمنه الله خالقنا لنا ، ولن يخلف الله وعده ووما بالك بضمان الله العظيم الكبير من ذالكم الميثاق الواهي الذي خلصت إليه الأمم التي ظاهرها الاتحاد وباطنها الشتات والذي يدعي جلب الصالح للبشرية وضمان رفاهها، وإن كنا لا نتخالف كثيراً مع ظاهر ذلك الميثاق الذي صدر عن اجتماع زعماء العالم وإنما نريد الضمانات من الاستبداد بثروات الأمم الضعيفة والتلاعب بقيمها ومبادئها ، واللف على أولى الأمر فيها .
كما نرجو أن يكون للإسلام صوته المسموع بين شتات هذه الملل التي تجمعت تحت غطاء مصلحة البشرية ، وما قادهم إلا مصالحهم الذاتية الضيقة كما دلت على ذلك الأيام وصدق الشاعر إذ يقول :
كفى زاجراً للمرء أيام دهره تروح له بالواعظات وتغتدي
وعليه فإننا نبوح ونصدح ونجهر غير هيابين أو متخاذلين بإن سبيل نجاة البشرية ودرب سعادتها
مهما اختلف الزمان ودارت ألوف السنين فإن مقصد الشريعة يبقى صالح العباد في الدنيا والآخرة |
ومقود نمائها إنما هو بزمام شريعة الإسلام ، التي وضعت ابتداءً لصالح العباد في الآجل والعاجل .
ولأن الله قضى سبحانه بأن لا يزال الخلاف واقعاً، وتعدد الأديان قائماً وتلك سنة كونية حاقة بنا ، ومتواتر معناها في قرآننا فإننا نؤول إلى القول بأن شريعة الإسلام هي درب نجاتنا نحن المسلمين وسبيل تحضرنا ، ومعول بنائنا ونهضتنا بين الأمم الأخرى وهي ما تضيق عنهم ، وإنما هم الذين غفلوا عنها إما بعناد تأصل في نفوسهم ” حسداً من عند أنفسهم ” أو بتقصير توارثناه في تبليغها على غير بينة من واقعنا ومقتضياته الإعلامية ومداخله الاجتماعية ….
ولنا مع تلك النقطة وقفات تالية ليس هذا حينها .
وعليه وإنه لمن فاحش القول ، وعي الفؤاد ، وضعف البصيرة ، وجهل بمقاصد الشريعة ، أن ترن أصوات دخيلة على الفكر بأن الشريعة قد تولى عهدها ، وفات أوانها ، وذهب أهلوها ، وأن لا فسحة لها في الألفية الثالثة ألفية الفضاء والليزر والتجارة الالكترونية .