بقلم : د.جاسم محمد مهلهل الياسين
مضت بنا قبل بضعة أشهر مقالة عن واقع العالم العربي والإسلامي وأهم مشاهده الدرامية التي تدعو للبكاء والضحك معاً وهذا استكمال لتلك المسرحية الكبيرة التي تدعو إلى المأساة بالبكاء والملهاة بالضحك عندما نرى تعداد الدول الإسلامية الذي تجاوز (اثنين وخمسين دولة) وهو ما يقارب تعداد دول بعض القارات وأكثر…. وذلك العدد الكبير الذي بلع أكثر من مليار (مسلم) بشحمه ولحمه…. وهو ما يمثل ثلث سكان العالم تقريباً… مع تلك الأرض المترامية الأطراف من الخليج للمحيط، والأنهار التي تتدفق بعذب المياه وسلسالها… مع الثروة النفطية الهائلة التي تجعله بؤرة ومصدر البترول الأول في العالم إلى غير ذلك من الموارد الطبيعية…
حال عالمنا العربي والإسلامي يترنح بين مأساة مبكية وملهاة مضحكة |
كل هذه الخيرات تدعو للمأساة لنا والملهاة علينا لأنها خيرات أتت بضدها فلم ترفعنا بين الأمم بل وضعتنا ولم تزدنا عزة وإنما زادتنا ذلة… وقد علمنا أن الناس تعز في الدنيا بتقوى أو بقوة وهذا إسلامنا يدعونا للتقوى.. وتلك مواردنا تؤهلنا للقوة…. ولكن أين نحن من هذين الجناحين… أين قوانا وتقوانا…؟
يا الله …!! ما أبعد البون بيننا وبين ديننا … وما أوسع الهوة بيننا وبين ديننا، ولله نحن عندما يقول القرآن :”ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً” … وقوله سبحانه :”كتب الله لأغلبنا أنا ورسلي ..” وقوله تعالى:”ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين…” وغير ذلك من الآيات التي عدتنا وتجاوزتنا….. أين نحن من التقوى….بل أين موقعنا من القوة إننا مأساة إننا ملهاة…. ظمئنا وعندنا ضللنا وبين أيدينا الهدى…
- وهانحن نشكو أزمة مياه… وعندنا الأنهار .
- ونشكو أزمة غذاء … وعندنا أراضي السودان وحدها تكفي لإطعام العالم العربي…
- ونشكو أزمة سمكية ولدينا الأنهار والبحار والشواطئ والبحيرات….
- ونشكو …. البطالة ولدينا الأراضي الخالية والبيوت الخاوية… والمصانع الخربة… والمشاريع المعطلة… والاستراتيجيات رهينة الأدراج..
- ولا زلنا نعتمد في صناعتنا على الغرب…. والقمح نستورده من الغرب …. فاتجهت قلوبنا نحن قبلة أفواهنا، نحن قبلة الخبز، وبعض الدول استطاع بحمد الله أن يكتفي ذاتياً بإنتاج الملح… ؟ لكي يوفروا الملوحة للشعوب التي أملها عذب الشراب، وحلو الطعام …..
والبعض الآخر اجتهد في صناعة الإبر ليرقع بها الفقراء والمشردون ثيابهم … ويخصفوا بها نعالهم … وهاهي بعض الحكومات العربية والإسلامية رفعت الدعم عن الكساء … وحولته إلى دعم فني تلفزيوني … فوسعت مساحة العربي ليستريح الناس من همّ شراء الثياب… وهم التفصيل…. وبعضها رفع الدعم عن القمح ورفع سعر رغيف الخبز، ووفر هذا الدعم لجلب الخمور… بأنواعها تشجيعاً للسياحة ولضمان حقوق الأقليات غير المسلمة على أرضها…
أمتنا لديها الثروات الطبيعية والموارد البشرية … فمن يعوقها عن الانطلاقة ؟! |
وبعض الدول حول دعمه من مشاريع البنية التحتية إلى المشروعات السياحية لكي يفرفش الناس ويرقصوا ويغنوا فروحاً من الكبت النفسي الذي صاروا إليه … لأنهم فاقوا الشعب الألماني في انضباطه وجدّه في أوقات العمل… وفاقوا اسرائيل في انتاج القنابل الذرية وحاملاتها وفي الأسلحة المطورة والانتاج الداخلي والخارجي.. وفاقوا الأوروبيين في الالتزام بقيم العمل المؤسسي الجاد… وفاقوا الأمريكان في صناعة الصواريخ البالستية العابرة للقارات…
وهكذا تبدو المفارقات وتظهر المتناقضات.. ويولد بعضها بعضاً، ويشعل صغيرها كبيرها… ولو تطاول الوصف لما وفّت الصفحات العديدات والأقلام الكثيرات في تصوير مأساتنا وملهاتنا…
ولله نحن حيث حذرنا القرآن الكريم والحديث الشريف من تلك المضحكات المبكيات التي حلت بنا… وغشيت ساحتنا.. وصدق الله إذ يقول:”ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون“[1]، وقال سبحانه :”وكم من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرى“[2]، وقال سبحانه:”وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون“[3]، وقال تعالى :”وكذلك أخذ ربك للقرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد“[4] .
وهذا حديث رسول الله فينا يحذرنا من قديم الزمان وسالف الأيام ويرسم لنا الطريق قبل أن نصير ضحكة ودمية تتلاعب بنا الأمم الأخرى وتتكالب علينا كما تتكالب الأكلة على قصعتها قال صلى الله عليه وسلم يرسم لنا طريق الهدى ويبين عن مشاعل النور (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي“، وقال أيضاً (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار“، وقال أيضاً:”لتتبعن سنن الذين من قبلكم حذ القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه معهم… قالوا: اليهود والنصارى؟ قال:فمن” أي فمن غيرهم.
وقال أيضاً :”تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.. قلنا:أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال :لا، بل أنتم كثير… ولكنكم كالغثاء.. ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم.. وليقذفن في قلوبكم الوهن.. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال :حب الدنيا وكراهية الموت.. أو كما قال صلى الله عليه وسلم …..
عجزنا عن توفير لقمة الخبز… ورغيف الحرية… فمتى نغتني ومتى نتحرر؟! |
وهناك الكثير والكثير من الآيات والأخبار والآثار في التحذير من تلك المأساة وهذه الملهاة التي تحياها أمتنا…. ويضيق البيان عن الوصف… وإضراب القلم عن الكتابة لأن وحل مأساتنا… وفضيحة ملهاتنا قد تجاوز الحد وبلغ سيله الزبى وجاوز حزامه الطيبين كما تقول العرب فإنني أضرب صفحاً عن التبيان لأصحاب البلاغة والبيان من ذوي الأقلام الموهوبة والأشعار الفائرة الثائرة التي تعبر عن خير تعبير عن ملهاتنا ومأساتنا وهذه ستة مشاهد ولوح فنية تمثل بعض الملامح الدرامية لمأساة وملهاة الأمة أكتفي بتعليقات بسيطات عليها وأترك لقلم شاعرنا التعبير وبلاغة التصوير ولله در مبانيه وقوة معانيه وكلماته المشعة الوقادة التي تطوي بين دفافها البيان طياً… أما عن تلك المشاهد الستة التي تمثل بعض محاور المسرحية الهزيلة الكبيرة التي يعيشها عالمنا الإسلامي والعربي فهي …
المشهد الأول : زماننا…
وهو زمان اللازمان… لا يدري.. أهو زمان الجاهلية الجهلاء… التي عبدت الأصنام أم هو زمان العولمة الشوهاء التي قدست عندنا الحكام ورفعت الغرب فوق الهام…. وهي على كل حال أصنام على مذهب شاعرنا وإن فاقتها أصنام الجاهلية التي كانت أحياناً تصنع من عجوى فتؤكل … بينما أصنام العصر فينا تأكل….
المشهد الثاني : أوضاعنا … بين الوهم والحقيقة
يتساءل شاعرنا في هذا المشهد عن وضعنا وموضوعنا وأين نحن وماذا عندنا… وماذا يراد بنا…. وماذا يراد منا…. وكيف ومتى… ومن… وعن ….؟
وهكذا سؤال تلو سؤال واستفهام يليه استفهام.. وإجابات حائرة مبعثرة… فلا هي للغليل تروي… ولا للعليل تشفي… فهذا سؤال عن موقفنا من الغرب وآخر عن سلاح البترول وفيما وظفناه… وثالث عن الحكام ومسئولياتهم أمام شعوبهم… ورابع عن كيان الدولة…. وخامس عن الثوريين وسادس عن الحرية وسابع عن الاستبداد….
المشهد الثالث: رغيف الحرية… المفقود
وهذا مشهد أبدع فيه الشاعر خير إبداع كيف لا وهو لا يملك لقمة حرية، وعندما طلبها في بلده حرم منها وطُلبت رأسه مقابلها…. وفشل أن يطلب من رغيف الحرية لقمة في البلاد العربية فراح يطلبها في بلاد الغرب… الذي أذنت له بلقمة ولقمات من خبز الحرية المفقود في بلادنا….
وفي هذا المحور يبدع شاعرنا في تصوير القهر في العالم الإسلامي… وحرية التعبير الذهني فقط في الرأس في الهمس الداخلي دون تجاوز اللسان ومساحات الحرية العريضة التي أقصاها…. يكمن بين الرحم… “وأنت في بطن أمك” أو وأنت في القبر “في بطن الأرض” فهي حرية لا تتجاوز البطنين بطن أمك وأنت جنين أو بطن الأرض وأنت رميم .
المشهد الرابع : البيت العربي والإسلامي تشتته وتدابر زعاماته
في هذا المشهد يرسم الشاعر صورة البيت الإسلامي الكبير مساحة والعديد أفراداً…. والصغير كياناً… والقديم قيادة…. يحكي في صورة شعرية رائعة صورة الذلة للغرب والعزة علينا على خلاف ما قال الله (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) ويحكي فورة القادة وثورة السادة على اليهـود- أستغفر الله – بل على الأحرار من بني أوطانهم أو على أنفسهم…. ويصور ببراعة هرولتهم وسرعة ركضهم عند الملمات والمهمات إلى هيئة اللمم أو الأمم – سيان ذلك – والاستغاثة بها في كل حالاتها .
مأساة القدس شاهدة على ضعف أمتنا وتشتت عالمنا الإسلامي |
المشهد الخامس: مأساة القدس
وفيه يرسم لوحة دامية… مضحكة مبكية على أعلى مستوى لأنها تمثل مستوى ذروة الحدث الدرامي والعقدة الفنية الناقصة الحل… وكيف تتمثل كل عيوبنا ومخازينا وتتجسد في هذا المشهد المأساوي.
فيخاطب شاعرنا القدس المهيب معتذراً ثم يستقيل من اعتذاره ثم…. يبرز فضائح القادة ويشير إلى تواطؤهم… وخيانتهم ومكرهم… وكيف فاح عذرهم حتى خاف الغدر نفسه منهم ويحملهم المسئولية بالدرجة الأولى سواء بسواء مثل الأعداء الظاهرين للقدس من اليهود والغرب الظلوم…
المشهد السادس : نحن… والخراف… قطيع وقطيع
وهذا مشهد الختام وفيه نعرف سر المسرحية كلها في جدها وهزلها وأننا نحن السر…. لأننا قطيع قطيع من الخراف بل فاقتنا الخراف فهي تلبس الصوف ونحن نعرى وكم من غير واجد القوت ولا الثياب وهي تمرح وتثغو وتلهو ونحن لا نستطيع الهمس فضلاً عن الجهر…. وهي تأكل وتشرب قبل ذبحها ونحن عدمنا الشراب ونقص عنا الطعام في أحوال كثيرة …. وصدق الله إذ يقول عن آل فرعون (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم قوماً فاسقين) .
فإليك يا أخي بهذه المشاهد الدامية فاضحك وابكي وتأسى وتلهى وانظر حالك وموضعك وخلاصك من تلك الملهاة المخزية… المأساة المبكية.. واعلم أن شر البلية ما يضحك وأن السعيد من وعظ بغيره والشقي من اتعظ به غيره…
[1] سورة الأعراف آية 96
[2] سورة الطلاق آية 8-9
[3] سورة النحل آية 112
[4] سورة هود آية 102