بقلم : د.جاسم محمد مهلهل الياسين
العالم من حولنا تسوده موجة عارمة من الأفكار والقيم والأساليب والطموحات، هذه الموجة شاعت بين معظم شعوب الأرض بفعل التقاربات والانقلابات في مجالات الاتصالات والمواصلات وعوالم التكنولوجيات والالكترونيات والمعلومات وغيرها، فهل يعني ذلك أن الشعوب ذاهبة إلى حالة من الذوبان في عالم واحد أم أن خصوصيات كل أمة ستبقى قائمة وبالأخص أمتنا ؟ وماذا ينبغي أن نحرص عليه؟ القرآن الكريم حافل بالآيات التي توضح هذا المعنى وتجيب عن هذا التساؤل ومنها على سبيل المثال قوله تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)[1].
الحقيقة التي لا مفر منها أن التباين وسنن الاختلاف ستظل قائمة على قاعدة الأسس العقدية، وهذا ما ينبغي أن يتنبه إليه أبناء أمة الإسلام لاسيما في ظل وجود دول وشعوب منتجة للقيم وأخرى مستهلكة، دول وأمم صانعة للفعل التغييري وأخرى لا تملك إلا الانصياع، دول سحبت على نفسها أنها الأضعف والأقل إنتاجا في جميع المجالات وأعلنت استسلامها وأخرى لا تكف عن الصياح بأنها الأقوى والأصلح والأكثر تقدماً .
معضلتنا أن الأمة تعاني عجز شديداً في القدرة على عرض ما لديها من قيم وخبرات ونظم إسلامية . |
وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من التبعية المهلكة التي تقود إلى الجمود والاعتماد على الآخر فقال في الحديث الصحيح (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: فمن؟! لقد اختلط في هذا العصر الحابل بالنابل وتاهت المعالم وشوهت الحقائق واختارت الشعوب المسماة بالضعيفة- وفي قلبها أمة الإسلام- الطريق الأسهل وهو الاعتماد على استيراد كل شئ من الدول المتصدرة للزعامة والقيادة في العالم بما فيها الضار والنافع، والمعضلة الأساسية أن أمتنا تعاني عجزاً شديداً في القدرة على عرض ما لديها من قيم وخبرات ونظم، فنحن نمتلك منهجاً عظيماً هو المنهج الإسلامي القويم المنزل من عند رب العالمين إذ يقول الله عزوجل (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم أجراً عظيماً) لكن مشكلتنا أننا لا نحسن تطبيقه ولا نجيد عرضه على الآخرين .
اشكالية العلاقة مع الغرب :
لعل هذا يقودنا إلى أهمية طرح اشكالية العلاقة مع الغرب وصورته الذهنية لدى المسلمين وصورة الإسلام والمسلمين في الذهنية الغربية وكيف يمكن فض هذا الاشتباك محاولة للوصول إلى فهم المواقف المتبادلة وانعكاساتها على المستجدات والمتغيرات التي تتصل بالطرفي.
لا شك أنه حينما تذكر العلاقة مع الغرب فإن البعض يبادر بالإعلان عن أن الغرب لم ينهض إلا على أكتاف المسلمين والحضارة الإسلامية وهذا صحيح لكن ما ينبغي ألا ننكره أن الغرب أضاف وأبدع واخترع فيما بقي المسلمون في مقام التلمذة والتبعية للغرب بالكُلية .
ولا ريب أن صورة الإسلام في الذهنية الغربية يشوبها الجهل والغموض، فالحروب الدامية التي أشعلها الغربيون ضد المسلمين كانت افرازاً لعدم ادراك جوهر الإسلام وحقيقته الرامية إلى هداية البشر وتوفير الرخاء والسعادة لهم، وقد كشفت التعاملات مع النخب الغربية من خلال كتاباتهم ومنتجاتهم الفكرية ضعف وضحالة استيعابهم للرؤية الإسلامية في مجالات الحياة .
الغرب أخذ منا الحضارة لكنه أضاف وأبدع واخترع فيما بقي المسلمون في مقام التلمذة . |
وتتعاظم الرؤية الشائهة عن الإسلام في أذهان عامة الغربيين ، فهم يتصورون أن المسلمين يعيشون في حالة من الأوهام ويؤمنون بالأساطير والخرافات ولا يفكرون إلا في ملذاتهم وشهواتهم ونزواتهم، وتبلغ هذه الصورة القاتمة مداها حينما يتصورون أن المسلمين يعيشون في عالم مظلم، غير مستنير، ويغلب عليه الطابع الأصولي الإرهابي .
هذه الانطباعات المناقضة لجوهر رسالة وتعاليم الإسلام خلقت حالة من الاستعداء بين الطرفين وبات الغربيون ينظرون إلى الإسلام على أنه عدو بعد أن جاء المعسكر الشيوعي في مطلع التسعينات، وعلى أثر ذلك بدأ الغربيون على أعلى مستوى (خبراء الناتو) ينشغلون بالحسابات والمواجهات العسكرية .
عوامل شوهت الإسلام في الذهن الغربي :
وقد أسهمت في تعميق هذه الصورة غير الحقيقية جملة من العوامل والمواقف من بينها:
- التشويه الإعلامي المتعمد الذي تقوم عليه الآلة الإعلامية الصهيونية وتبعية إعلامنا العربي لها دون فرز للمواقف والرؤى ونقل القيم نفسها التي يروجها الإعلام الغربي وإلصاق الأباطيل بالإسلام .
- تدهور أحوال المسلمين في كثير من المجالات واستسلامهم للهزيمة الحضارية التي يعيشونها وتراجعهم عن مراكز السبق والصدارة .
- تعارض واقع المسلمين وأنظمة الإدارة مع جوهر رسالة القرآن وولوجهم أجواء الاحتراب والاحتزاب وكثرة الخلافات والنزاعات وضياع معالم الحق فيما بينهم.
المسلمون في حاجة إلى وقفات جادة تتغلب فيها الكفاءة والجدية على الولاء والحزبية . |
- عدم قدرة الغرب على فهم واستيعاب مقاصد الشريعة الإسلامية التي تغطي أحكامها حياة البشر في جميع نواحيها، فالغرب يفهم الدين على أنه عبادة شخصية منطلقاً في ذلك من معرفته للنصرانية فضلاً عن أن الكنيسة أجازت بعض التصرفات الشاذة التي لا يقبلها أي دين سماوي كما هو حال الكنيسة الانجليزية حينما أجازت عقد الزواج بين الرجال وكذلك الكنيسة الأمريكية التي أدخلت إلى أديرتها الرقص والغناء والموسيقى، تلك هي مقاييس الغرب للتدين.
ولذلك فإن تغيير هذه الصورة السوداء لن يتسنى إلا إذا تغير واقع المسلمين ووقفوا مع أنفسهم وقفات جادة وهادفة تحدد المثالب وتستقي العلاجات من تعاليم الإسلام وتغلب الكفاءة والجدية على الولاء والحزبية .
إن صورة الغرب في الذهن المسلم لا تأخذ أشكالا وأطيافاً متعددة تتراوح بين المتطرفة في الرفض والمفرطة في القبول والاتباع ويقف في الوسط تيار محدود ينظر إلى الأمور بموضوعية فلا يقبل الغرب جملة ولا يرفضه تفصيلاً، وفيما يلي الصور الذهنية المنطبعة في العقل المسلم عن الغرب :
الانطباع الأول : بعض المسلمين يرفض الغرب تماماً ويعتقد أنه معاد ومتآمر ويحتقر كل ما تنتجه الحضارة الغربية ويعتبر ذلك رجس من عمل الشيطان، ويردد مقولات أن الغرب صعد على أساس الحضارة الإسلامية، ويقف عند هذا الحد غير عابئ بحالة التقدم التي تتزايد لدى الغرب فيما تتراجع لدى المسلمين .
الانطباع الثاني : شريحة مهمة ترى في الغرب أنه مصدر التقدم والنهضة والحداثة والتغير الاجتماعي والتطور الصناعي والحفاظ على حقوق الإنسان، هذه الشريحة تدعو إلى الحد التأسي بالغرب إيجاباً وسلباً ونقل كل ما لديه دون مفاصلة بين ما يتفق وهويتنا وما يختلف معها، هذا المولع المتطرف بالغرب أنتجته عوامل كثيرة من بينها عدم احترام بعض الدول الإسلامية لحقوق الإنسان وكرامته وحريته الأمر الذي أوجد حالة من الرفض للواقع فيما كان القبول للغرب الذي ينادي بالحرية واحترام حقوق الآخر .
الانطباع الثالث : يمثله قطاع من المثقفين الذين لديهم رؤية واعية، لسان حالهم يقول ( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها) هذا التيار يقبل إيجابيات الغرب وتقدمه في مجالات كثيرة لكنه يرفض النزعة المادية والإباحية وحالة التفكك وشيوع الأمراض الاجتماعية في الأوساط الغربية .
لا يجب أن نقبل الغرب جملة أو نرفضه تفصيلاً ومنطق المؤامرة ليس مقبولاً في كل الأحوال . |
المبدأ الذي يحكم علاقتنا بالآخر :
ولما كانت رسالة الإسلام عالمية يقول الله تعالى ( إنا أرسلناك رحمة للعالمين) تصبو إلى هداية البشر جميعاً وتدعوهم إلى التمسك بالفضائل والقيم الشورية ومبادئ العدل والمساواة، وتغليب المصلحة العامة على الخاصة وتنظر إلى الأمور بفهم عميق، لما كانت كذلك فلا مناص من أن نتلاقى مع تجارب الآخر وخبراته بعقل مفتوح وإرادة صلبة وعزم أكيد على الاستنارة مما لديهم في تصحيح الأخطاء وسد الثغرات وتلافي أشكال القصور مع مراعاة حقوق كل طرف وخصوصياته، ولا ينبغي أن يتوقف المسلمون عند مبدأ الأخذ من الآخر متواكلين عليه غير آخذين بزمام المبادرة، عاجزين عن إحداث الفعل الإبداعي والابتكاري الخلاق الذي يقودهم إلى الريادة والتقدم على سائر الأمم .
ورحم الله الإمام الشهيد حسن البنا كانت له آراء سديدة ونظرات ثاقبة في قضية النهضة التي تشغل المسلمين منذ أمد بعيد ومازالوا ينشدونها فقد ربطها بقضية التحرر من الاستعمار والتبعية للغرب من ناحية وبالتقدم العلمي الذي يجب أن يحققه المسلمون من ناحية أخرى وفي ذلك يقول (لن تنصلح لنا حال ولن تنفذ لنا خطة إصلاح في الداخل ما لم نتحرر من التبعية) ويقول (لا نهضة للأمة بغير العلم وما ساد الكفار إلا بالعلم) .
الأمة الحية غير يائسة :
والأمة حتى تكون يقظة وحية وشاهدة قال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) لابد أن ينبذ أبناؤها حالة اليأس والقنوط التي تعتريهم وفقدان الأمل في الإصلاح فلا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة فالحق تعالى يقول (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) .
عالمية رسالة الإسلام وحرصها على هداية البشر يجب أن تتلاقى مع تجارب الآخرين بعقل مفتوح مع مراعاة خصوصيات كل طرف . |
والتخلص من هذا اليأس والفتور لن يتأتى إلا عبر جملة مطالب :
- التخلص من الأوهام وقراءة الواقع بوعي وإدراك، فالمؤامرة قد تكون واردة لكن لا يجب أن تكون تفسيراً لكل حدث حتى لا يقود ذلك إلى الشعور بالأريحية عند الخطأ وإسناده للغير أو إلقاء المسؤوليات على الآخرين.
- التمسك بالأخلاق ورفع لواء العقيدة والمبدأ، فمن يتمسك بالمبدأ قد لا يحصد الربح الدنيوي كاملاً في بعض الأحيان لكنه سيربح ذاته وآخرته في كل الأحوال .
- التحلي ببعد النظر وتقويم الأمور بما يتناسب مع مستجداتها والتغيرات السريعة المتلاحقة، فلا يجب أن نكون أسرى للماضي من دون أن نصنع حاضرنا وننظر إلى المستقبل بعمق .
- روح المبادرة عامل أساسي في إنهاض أمتنا وإنضاجها، والإسهام في احتلالها مكانة متقدمة في السُلم الحضاري على الصُعد المتعددة .
- التقويم ونقد الذات يصحح مسيرة الأمة ويضع أبناءها على الطريق الصواب وينحو بهم إلى جادة الرشاد .
- إدراك قيمة الوقت وأهميته فالضرورات أكثر من الأوقات والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ) .
- الدقة والتنظيم هما الطريق الأقصر لنيل الأهداف العظمى والصعود إلى معالي الأمور .
- عدم المداهنة أو الممالأة على المبدأ فقد ثبت أن المساومات في الخبرة التاريخية أدت إلى ضياع حقوق عظيمة وغلّبت أغراض خاصة على مصالح عظمى، فالتمسك بالمبدأ في المنشط والمكره والعسر واليسر هو الذي يمنح حياتنا معنى ويجعلها تختلف عن حياة الأذلاء الذين يكافحون من أجل البقاء المجرد.
الحياة معترك ولابد من روح المقاومة :
ولابد أن يؤمن أبناء هذا الجيل أن الحياة معترك يقول الله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان في كبد) ويقول المولى سبحانه وتعالى (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور) ومن يظن أن الدنيا دار نعيم مقيم وليست دار ابتلاء فهو موهوم، فالحياة المثالية ضرب من الخيال فلا ينبغي أن ينزعج المرء حين يجد نفسه محاطاً بالضرورات والتحديات والمتاعب فهذا شئ طبيعي يدعونا إلى إعداد أنفسنا لمواجهة تطورات الحياة، ولا يعني ذلك أن نتوقف عن البحث في أسباب السعادة والرفاهية لكن المهم أن نؤمن بأنه ليس من الحكمة أن نبحث عن حلول كاملة في وسط غير كامل .
الإمام البنا ربط قضية نهضة المسلمين بالتحرر من التبعية للغرب من ناحية والتقدم العلمي من ناحية أخرى |
وصراعات الحياة ومشكلاتها لا تتوقف وهذا أمر طبيعي والخطورة لا تكمن في وجود المشكلة وإنما في كيفية التعامل معها، فالتعامل الذي يقوم على روح المقاومة بالتأكيد يستخرج ما لدينا من كوامن وطاقات وخبرات إبداعية، والتقدم الذي يحدث في منطقة دون أخرى ليس إلا نتاج أزمات عاشتها .
ولا يخفى أن الاعتراف بالمشكلة وتقبلها هو أولى خطوات العلاج فالمشكلة إذ تم توصيفها على نحو سليم فإننا نكون قطعنا شوطاً نحو الحل، هذا فضلاً عن تفكيك المشكلات ووضع حلول لكل مشكلة على حدة حتى لا يكون هناك شعور باليأس أو ضخامة المشكلات، يلي ذلك أهمية إعمال مبدأ العصف الذهني وطرح حلول عديدة وأفكار متنوعة لمشكلة واحدة، هذا لاشك سوف يصل بالمرء إلى الحل الناجع.
[1] سورة هود 118-119