بقلم : د.جاسم محمد مهلهل الياسين
ومن مظاهر أن الشريعة روح ومعنى أن الله قد تعبدنا بالعقل أيضاً ونصح به وذكره في غير ما موضع وأثنى على أولي الألباب
وقد استقل نظار الإسلام العظام بالدفاع عن العقل وتثبيت سلطانه بقوة الشرع بلا تعارض ولا تدافع بينهما، وهاكم العلامة النظار المقدم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عنى بتلك المسألة وأخرج من دروبها الوعرة زهوراً ومشاعل يأتمّ بها العاقلون .
وذلكم الإمام ابن الجوزي الذي حارب الجهل والتقليد والبدع في عصره بسلاح العقل مدعماً بدليل الشرع، حتى أتى بنيان جهال عصره من مبتدعة المتصوفة ودهماء المقلدة من القواعد .
نعم لا تزال شريعة الإسلام أعدل القوانين وأطوعها في زمن العولمة وعصر المعلوماتية |
ولاتزال كلماته الرنانة تصدح بالعقلاء وترفع لواء شريعة الروح والمعني بقوله (فالله الله في العلم، والله الله في العقل، فإنه نور ينبغي ألا يتعرض لإطفائه، والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه، فإن حفظ حفظت وظائف الزمان ودفع ما يؤذي، وجلب ما يصلح، وصارت القوانين مستقيمة )[1]
ولأن الشريعة بالمعنى فالمراسم والصور والأشكال إنما هي مكملات، وليست أصولاً بالدرجة الأولى.. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم..) .
وتلك لعمري هي عين عظمة دين الله…. أنه يراعي البواطن والماهيات والمعاني، ولم يهمل كذلك الأشكال والرسوم والمباني وإنما هي تبع وليست أصلاً وتغييرها لا يضير، وإنما الضير كل الضير في تغير المعاني والبواطن،فتغيرها هو معقد حلول النعم إن كان تغييراً في الخير… وهو نذير حلول النقم إن كان إلى غير الخير،وصدق الله تعالى في قوله : (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) .
وصدق الله سبحانه في قوله عن المنافقين أهل الزيف والنفاق من يهود المدينة… ومن زائفي كل ملة في كل زمان ومكان…
(وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم..) ولو كان هذا الظاهر من جمال أجسامهم وحلاوة ألفاظهم يغنى أو يقني لما ذكره الله سبحانه … وإنما ذكره في مقام الذم والنعي عليهم، وتحذير نبيه من تلك الرسوم الجوفاء .
تغيير الصور والأسماء لا يغير الأحكام والحقائق
وهذه من قواعد الشرع الجليلة … التي تزكي أفضلية الحقائق وتقدمها، ولو قدر أن تبديل الأسماء والصور يبدل الأحكام والحقائق، لفسدت الديانات وبدلت الشرائع واضمحل الإسلام .
وأي شئ نفع المشركين تسميتهم أصنامهم ألهة، وليس فيها شئ من صفات الألوهية وحقيقتها[2] .
ولذلك لما وجد الأعرابي صنمه المعظم يبول عليه الثعلب، ولا يدفع عن نفسه تلك المبالة قال :
أرب يبول الثعلبان بوجهه لقد خاب من بالت عليه الثعالب
وقال العاقل الآخر في أصنامه اللات والعزى لما أهينت ولم تدفع شيئاً عن نفسها :
تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل الصبور
شريعة الإسلام تقوم بالمعنى وإعمال الفكر وليست طقوساً أو حروفاً جوفاء |
وهل ينفع هؤلاء المذنبين تغيير أسماء الخمر … أو التحلل.. أو الرجس.. إلى أسماء عصرية أعجمية لها بريق التحضر وعليها ميسم العصرنة…
أم هل ينفع هؤلاء المتعلمنة من رعاع المسلمين فتواهم في دين الله بالباطل مع جهلهم بحقيقة شرعه ومقاصده، وإن حملوا الشهادات العليا، وقام لهم الناس وقعدوا .. بل إنهم ليتعلقون بظاهر الشبه ومحض الأشكال والصور في رد العمل بالشريعة والنظر إلى مقاصدها.. فيتهمون المرأة العفيفة المحجبة بأنها رجعية منغلقة، وما فقهوا أن مقاصد تحجبها هو صونها، ثم صون شباب المجتمع عن الافتتان بها وصون الأمة وإمكاناتها وعقول شبابها الذين هم عدتها وموردها الأول لتنطلق نحو الابداع والأمام .
بل أنهم أشاعوا الهلع والفزع من تطبيق الشريعة عندما يذكرون الحدود في كل مقام بما يشينها وينفر للعامة تطبيقها، ويظنون أن المجتمع سيكون مجتمع الجلد والبتر والحرب الأهلية…! وما دروا أن حدود الله هي صمام الأمان للمجتمع وأن قطع يد واحدة في سرقة هي حفظ لمال المواطن الذي يكد ويسكب عرقه ليكسب قوت أولاده، وقطع يد يحفظ أمن المجتمع كافة، ويردع من تسول له نفسه نهب الحقوق وحوزها… وأن قتل نفس واحد فيها إحياء وصيانة لباقي النفوس، فمن عرف أنه سيقتل حتماً، سيتردد ألف مرة قبل أن يقدم على قتل غيره والاستهانة بدمه.. وصدق الله الرحيم الحكيم في قوله (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) نعم والله إنما تلك الحكم منوطة بذوي العقول المتفكرة المتبصرة .. من أولى الألباب وقديماً قال العرب “القتل أنفى للقتل” .
وهل تصلح الشريعة قاضياً وحاكماً بين العباد في عصر المعلوماتية وزمن العولمة ؟
أم إنه أصابها الدهر بالعطب، ورماها بالشيخوخة والوهن؟! وأصبحت ركاماً مهملاً، وحجر عثرة في سبيل نهضة الأمم وماعادت تجدي في جلب والمصالح، فهي جامدة ضيقة بالية رجعية تخلفية ؟!!
خاب الناعقون وخسر الزاعمون بأن شريعة الله قد رماها الدهر بالشيخوخة والعطب . |
هذه أسئلة وشبهات ونفثات مسمومة تنفثها النفوس الزرقاء، وتخطها الأقلام السوداء، وتنشرها الصحف العوجاء.. ويترنم بها زمرة تلو زمرة من حفنة الدخلاء الجهلاء مطعوني الولاء في عروبتهم فضلاً عن دينهم… على تمسحهم به وانتسابهم إليه، ويا حبذا لو ” ولّوا حارها من تولّى قارها”، ولو سبروا أغوار كنوز كتب الأصول، وتكلموا بالمنقول والمعقول، ولكن تلقفوا شبهة فجعلوها كرة ثلج تتفاقم وتتعاظم بمجرد تردادها، ولوكها باللسان وخطها بالأقلام، وياحبذا لو وعوا بأنهم مآخذون بما كتبوا ومسئولون عما اقترفوا ولله در القائل :
وما من كاتـب إلا سيفنى ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بخطك غير شئ يسرك في القيامـة أن تراه
الشريعة روح ومعنى وليست رسماً أو مبنى :
نعم شريعتنا مرنة غير جامدة تستوعب مطلق الزمان ومتغير المكان، وهذه حقيقة ثابتة دلت عليها نصوص الشرع، وعبر عنها علماء الأصول بألفاظ مختلفة منها :
- أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان .
- أن العبرة إنما هي بالمقاصد والمعاني لا بألفاظ والمباني هذا مع ملاحظة الثوابت الأصولية والتي لا تتغير ألبتة بتحول الزمان، أو بتغير المكان، ومن هذه الثوابت (مقاصد الشريعة) حيث ذكر العلماء بأنها لا تنخرم أبداً بل هي كلية أبدية[3] .
ونستدل على ما سبق بإيراد قضية عمت بها البلوى، وزلت فيها الأقدام وتخالفت الأفهام، وداعى العقل يهتف بالعقلاء قائلاً :
أمامك فانظر أي نهجين تنهج طريقان شتى مستقيم وأعوج
ويقول أيضاً :
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقاً عن غرة زلجا
شريعة الإسلام هي الأقدر على استيعاب مطلق الزمان ومتغير المكان . |
وتلك القضية هي إنكار المنكر في هذا الزمان، فهل ثم تمانع بين كون الشريعة روحاً ومعنى وبين إيجابها لانكار المناكير؟
نقول : إن مقصد الشريعة وروحها في إنكار المناكير إنما هو رفع لوائها ونصرة ذويها ودحر المنكرات عن الخلق بأنواعها وشرورها، وعليه فقد شرع الله لرسوله وأمته انكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف والخير ونصرة الشريعة ما يحبه الله ورسوله، ورد حقوق العباد والحفاظ على دينهم وأنفسهم ومالهم وأعراضهم وهذا هو المقصد والروح والمعني والعلة التي لأجلها شرع إنكار المنكر، فإذا ما استوجب إنكار المنكر ما هو أنكر منه مما يبغضه الله ورسوله وبما يفوت حقوق العباد ومصالحهم فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله[4] .
ولئن تقرأت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيره صحابته وسلف الأمة من بعدهم رأيت هذه الروح وذلك المقصود هو الأساس التي عليها وبها يدور الإنكار أو لا.
أوعية القلوب في فهم المقاصد والمعاني :
وهذا هو أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقسم الناس بحسب المعاني وحسب فهمهم لمقاصد الشرع… وروح الشريعة وذلك في وصيته لكميل بن زياد قائلاً :
ما أعظمها وأعدلها شريعة الإسلام…. لو أن لها رجال |
(يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق، ثم قال : آه ! إن هاهنا علماً وأشار بيده إلى صدره لو أصبت له حملة بل قد أصبت لَقِناً غير مأمون[5]… يستعمل آلة الدين للدنيا.. ويستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على معاصيه، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر… مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف دينه)[6]
[1] الصيد 82-83
[2] اعلام الموقعين 2/130
[3] انظر الموافقات للشاطبي 2/37
[4] انظر اعلام الموقعين لابن القيم ¾ حيث أصل لهذا المعنى ودافع عن تلك القضية
[5] قصد بذلك من يغفل عن المقاصد ويتبع الظواهر النصية دون تعمق وتدبر لمعانيها… واللقن هو الحافظ دون إعمال فهمه .
[6] اعلام الموقعين 2/176