بقلم : د.جاسم محمد مهلهل الياسين
بغض النظر عن المواءمات السياسية ولعبة المصالح التي تقف وراء تسليم ميلوسوفيتش مجرم الصرب إلى محكمة لاهاي الدولية بهولندا سواء جاء تسليمه رغبة من صربيا في إصلاح اقتصادها والحصول على معونات من الولايات المتحدة الأمريكية تقدر بملايين الدولارات أو ضماناً لرفع الحظر عن تصدير السلاح إليها أو غير ذلك من الأسباب بغض النظر عن كل هذا فإن حالة الترحيب التي سادت الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي بسبب هذا الحدث تمثل دليلاً دامغاً على رفض العالم للظلم والطغيان، ولأن الإجرام الذي مارسه ميلوسوفيتش ضد شعبي البوسنة وكوسوفا بشع وصارخ وفائق لكل تصورات الخيال فقد جاء هذا الارتياح العالمي إزاء محاكمته وفقاً للقوانين الدولية التي تحرم الجرائم ضد الإنسانية .
منطق العدالة يستوجب محاكمة كل ميلوسوفيتش طغى وتجبر سواء كان عربياً أو يهودياً . |
ولما كان الظلم في كل مستوياته ودرجاته محرم في الإسلام ومنهي عنه شرعاً امتثالاً لقوله تعالى في الحديث القدسي ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فإن منطق العدالة يستوجب محاكمة كل ميلوسوفيتش طغى وتجبر في الأرض عربياً كان أو يهودياً، فهناك طغاة ظلموا شعوبهم واعتدوا على حقوقهم وانتهكوا أمن جيرانهم، وهناك جبابرة وسفاحين فقدوا كل صلة بالإنسانية قتلوا الأطفال والنساء والشيوخ قبل الرجال والشباب والسيناريو نفسه الذي وقع في البوسنة وكوسوفا يتكرر اليوم في مقدونيا وسط صمت مطبق وتواطؤ دولي منقطع النظير!!
رسالة إلى كل طاغية :
وبعيداً عن خلفيات محاكمة جزار الصرب فإن مجرد تقديمه إلى العدالة رسالة قوية لكل المتورطين في جرائم حرب ومن تسوله له نفسه ارتكاب جرائم ضد الإنسانية لكن السؤال المهم الذي يطرح نفسه : هل من اختصاصات محكمة العدل الدولية محاكمة كل مجرم حرب انتهك حق شعبه أو اعتدى على غيره، للأسف لم ينص النظام الأساسي للمحكمة على ذلك كما يفهم البعض وإنما حصر اختصاصاتها في جزأين :
أولاً : الاختصاص القضائي :
تنظر المحكمة في النزاعات المرفوعة إليها بين الدول بعضها البعض فقط، ولا تنظر أية قضايا مرفوعة من الأفراد أو من هيئات عامة أو خاصة، ولا تنظر المحكمة آية قضية أو نزاع مهما كانت أهميته أو خطورته من تلقاء نفسها، بل لابد أن يرفع إليها من الجهتين المتنازعتين معاً، فهي لا تفصل في أية قضية يرفعها طرف بمفرده على طرف آخر، واختصاص المحكمة اختياري ولذلك فقد اشترط على المحكمة عند الفصل في المنازعات ما يلي :
- أن تكون لديها موافقة كتابية من أطراف النزاع معاً على احالة القضية إلى محكمة العدل الدولية فمثلاً في قضية طابا المصرية لم تحكم المحكمة بخصوصها إلا بعد موافقة الكيان الصهيوني المحتل لهذا الجزء من الأرض وموافقة مصر، وهذا أيضاً ما حدث حين احتكمت قطر والبحرين إلى المحكمة الدولية لفض النزاعات بينهما، يضاف إلى ذلك أنه يجب اخطار المحكمة رسمياً بالمطلوب منها تحديداً عند قبول أطراف النزاع أن تنظر المحكمة بشأن نزاعهم .
- ×أن يكون هناك اتفاقيات أو معاهدات بين دولتين أو أكثر وينص في هذه الاتفاقيات على اختصاص محكمة العدل الدولية نظر أية قضية أو الفصل في أي نزاع قد ينشأ بين الأطراف حول تطبيق أو تفسير أي بند من بنود هذه الاتفاقات أو المعاهدات .
بغض النظر عن خلفيات محاكمة جزار الصرب فإن مجرد تقديمه إلى العدالة رسالة قوية لكل الطغاة . |
ثانياً : اختصاص الفتوى
يقتصر حق طلب الفتوى أو الاستشارة القانونية من محكمة العدل الدولية على الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن فقط فقد ورد في المادة 96 من ميثاق الأمم المتحدة أنه يمكن لفروع الأمم المتحدة أو لمنظماتها المتخصصة طلب الفتوى من محكمة العدل الدولية لأي مسألة تدخل في مجال اختصاصها .
وبمقتضى هذه الاختصاصات المتضمنة في النظام الأساسي للمحكمة لا يحق لأي شعب أن يحاكم قائده الجائر أمام المحكمة الدولية كما لا يحق لأي دولة أن ترفع دعوى أمام المحكمة ضد حاكم معتد وهو ما تعد معه الاختصاصات ناقصة ومحدودة وهذا ما يؤكد وجوب تعديل نظام المحكمة لاستيعاب جميع الحالات التي تشهد انتهاكات في حق الانسانية .
جرائم ميلوسوفيتش وأعوانه :
نعود إلى ميلوسوفيتش وجرائمه التي ما زال يمارسها وهو قيد المحاكمة فقد أعلن في كل بجاجة ووقاحة وهو في طريقه إلى المحاكمة ( أنه غير نادم على ما ارتكبه من جرائم!! ) وأردف قائلاً (لو قدر لي أن أعود لفعلت مثلما فعلت!!) ميلوسوفيتش وهو مكبل اليدين يعلن أنه غير نادم على المجازر التي ارتكبها ضد مسلمي البوسنة ومن بينها مجزرة (سربرنيتشا البوسنية ) راح ضحيتها ثمانية آلاف مسلم من مسلمي البوسنة! .
ويواجه ميلوسوفيتش الآن ثلاثة اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، واتهاماً بخرق قوانين الحرب وأعرافها، والتحريض على ارتكاب المجازر وفي واحدة من أكبر الحوادث بشاعة قتل الصرب 49 فرداً من عائلة ممتدة وهي كما يرويها تقرير للنيوزويك .. أمرت الشرطة أفراد عائلة بيريشا بالخروج من منازلهم وتم فصل النساء والأطفال عن الرجال وقتل ستة من أبناء العائلة ومن تبقى ساقتهم القوات الصربية إلى داخل مقهى وأطلق المسلمون الصرب النار عليهم كما رموا المتفجرات داخل المكان وقد قتل 34 مدنياً على الأقل وأصيب آخرون بجراح بالغة .
النظام الأساسي للمحكمة الدولية محدود الاختصاصات ولا يفصل في كل المنازعات إلا بموافقة طرفي النزاع |
وهناك الكثيرون الأمثلة التي سوف يقدمها شهود العيان وبعض الناجين من هذه المجازر إلى محكمة الجزاء في لاهاي ولم يكن ميلوسوفيتش وحده متورطاً في هذا العمل الإجرامي فهناك رادوفان كارازديتش وراتكوملاديتش وهما يمثلان العقل المدبر لخطة التطهير العرقي في منطقة شرق البوسنة من المسلمين والكروات، وإلى هذا والقائمة السوداء بها الكثير من المتهمين مثل رئيس الدولة ميلان ميلوتينوفيتش ونيكولاشانيوفيتش النائب السابق لرئيس الحكومة ووزير الداخلية السابق فلايكوستويكلوفيتش والجنرال دار دارغليوب أويدانيتش الرئيس السابق لقيادة أركان القوات اليوغسلافية .
هؤلاء القيادات الدمويون يشهد سجلهم الأسود بأنهم متهمون بالتخطيط والتحريض وإصدار الأوامر والمساعدة في تنفيذ الحملات الإرهابية والملاحقات والعنف ضد المدنيين في البوسنة وكوسوفا وهذا ما يلقى بالمسؤولية على المجتمع الدولي لممارسة مزيداً من الضغط لتسليم هؤلاء المجرمين إلى العدالة جزاء ما ارتكبوا من جرائم وآثام يشيب لها الولدان.
الصحيفة الجنائية السوداء لشارون :
ورغم أن قصور النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية لا يسمح بمحاكمة مجرمين جدد أمامها أمثال سفاح الكيان الصهيوني وحاكم العراق إلا أن ذلك سوف يفتح باب الأمل بأن هؤلاء سيمثلون يوماً ما أمام العدالة للاقتصاص منهم ولعل خطوة محاكمة شارون أمام القضاء البلجيكي تعد مؤشراً مهماً في هذا الاتجاه وكذلك الخطوة التي اتخذها بعض الأخوة الكويتيين بشأن محاكمة صدام أمام القضاء البلجيكي .
نأتي أولاً على شارون ومحاكمته أمام القضاء البلجيكي ونقول ( حسناً أن يسمح قانون بلجيكا المعتمد في 1993م والذي تم تنقيحه في 1999م بمقاضاة أي شخص تورط في جرائم ضد الإنسانية ونحن نأمل ألا تخضع بلجيكا لأية تهديدات أو ضغوطات من المحتمل أن يقوم بها اللوبي الصهيوني، وعلى أية حالة فإن قبول النيابة العامة البلجيكية للشكاوي المقدمة ضد شارون وإسناد القضية إلى أحد القضاة (كوليونيون) يعد مرحلة جديدة في ملاحقة شارون .
ميلوسوفيتش ليس وحده والقائمة السوداء مليئة بالمجرمين وهذا ما يلقى بالمسؤولية على المجتمع الدولي لممارسة مزيد من الضغط لتسليمهم . |
إن البرنامج الوثائقي الذي بثته الـ( بي بي سي) عن مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982م ابان الاحتلال الكيان الصهيوني للبنان في غاية البشاعة، وليست هذه هي النقطة السوداء في صحيفة شارون الجنائية فتاريخه الأسود ينزف دماً فقد شارك في كل الحروب ضد العرب ( 1948 – 1956- 1967 – 1982 ) وعاش حياته ليحقق مقولة أبيه ( إن غرس اليهود مكان العرب لن يتم إلا بتعليم الأجيال الإسرائيلية الشابة بناء المستوطنات والزراعة ) ولذلك فقد تولى شارون منصب وزير الزراعة أكثر من مرة ليحقق هذا الغرض .
ويشهد التاريخ بأن شارون منذ صغره وهو يقوم بعمليات ارهابية وحشية تخصصت في ترويع القرويين الفلسطينيين، وتذكر المصادر أنه في بداية حياته العسكرية كان لديه نبوغ إجرامي فقد تقدم إلى قادة الجيش الصهيوني طالباً إليهم السماح له بتكوين سرية عسكرية من اليهود الذي يمضون أحكاماً طويلة في السجون، ووافقت قيادة الجيش على ذلك وشكل تلك الفرقة عام 1952م وعرفت بـ( القوة 101) وكانت عمليتها الإجرامية الأولى في قرية قبية الفلسطينية حيث كانت تعيش هذه القرية في أمان بسبب بعدها الجغرافي عن بؤر التوتر في الأرض المحتلة ولم تكن هذه القرية الآمنة تدري أن هذه القوة المشكلة من القتلة والمجرمين اليهود سوف تقوم بترويع أهلها، فقد قام هؤلاء المجرمون بقيادة شارون بإمطار هذه القرية ليلاً بوابل من نيران المدفعية فانهارت المنازل الفقيرة على رؤوس ساكنيها وأسرعت القوة في قتل كل من بقي حياً بعد القصف المدفعي وراح ضحية عمليات القتل والإبادة عشرات النساء والأطفال .
ولم تقل مذبحة صبرا وشاتيلا بشاعة عما حدث في قبية فقد اجتمع وزير الدفاع الصهيوني شارون في ذلك الوقت مع روفائيل ايتان رئيس الأركان وقررا ادخال مجموعات من قوات الجيش الصهيوني إلى المخيم فراحت تلقى قنابل مضيئة داخل أزقة المخيم في حين أطلق بعض أفراد الميليشيات اللبنانية العميلة هناك نيران أسلحتهم على السكان الآمنين العزل واستخدموا كذلك السكاكين والبلطات الحادة للإجهاز على كل من وقع في أيديهم من الضحايا وقتل المئات من النساء والأطفال ممن أتيحت لهم فرصة الفرار والوصول إلى أبواب المخيم، واستمرت تلك المجزرة لمدة أربعين ساعة، ولفظاعتها فقد صنفتها الأمم المتحدة بأنها جرائم ارتكبت ضد الإنسانية .
وما بين المذبحتين الشنيعتين ارتكب شارون في حق الشعب الفلسطيني والعربي الكثير من الجرائم سواء ضد السكان المدنيين وضد البيئة والموارد الطبيعية والأراضي الفلسطينية حتى يومنا هذا .
ميلوسوفيتش العرب :
وصدام حسين وأركان حكمه في جرمهم وطغيانهم لا يقلوا عن نظيريهم ميلوسوفيتش وشارون فالجرم كله ملة واحدة، ووثائق إدانتهم بالمئات وهي أدلة قاطعة على ارتكابهم جرائم خطيرة ضد شعوب العراق والكويت والأكراد وإيران، وهذه الجرائم معروفة وموثقة لدى المجتمع الدولي، فقد ارتكب صدام الفظائع في حق الكويت ودمر بيئتها وسلب
محاكمة شارون أمام القضاء البلجيكي بادرة أمل جيدة وهناك تخوفات من خضوع بلجيكا لتهديدات اللوبي الصهيوني |
ممتلكاتها وفجر مئات آبار النفط ومع ذلك فما زال حراً طليقاً يمارس تهديداته الرعناء وشعاراته الانهزامية بين الحين والحين، وجرائمه ضد الأكراد من تعذيب وممارسات بربرية واستخدامه للأسلحة الكيماوية والبيولوجية والاعتقالات التعسفية ليست أقل خطورة، ولهذا كله نحن نبارك خطوة الأخوة المحامين الكويتيين برفع دعوى قضائية ضد رأس النظام العراقي أمام القضاء البلجيكي ونثني على قام به بعض الأخوة العراقيين المضطهدين برفع دعوى مماثلة ضد صدام وعدد من وزرائه ومستشاريه وضباطه بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية تجاه الأقلية الكردية .
وتبقى كلمة :
رأس النظام العراقي لا يقل في جرمه وطغيانه عن نظيريه جزاء الصرب والسفاح الصهيوني |
ومهما تكن خلفيات تقديم ميلوسوفيتش للمحاكمة دولياً وقبول القضاء البلجيكي لمحاكمة شارون وغيره فإنها بادرة جيدة وتطورات تاريخية مهمة على صعيد الدوافع المشتركة عن دفع في اتجاه المحاكمة أو من قدم ضغوطات في هذا الاتجاه، وبهذا الحدث المهم نحن نتطلع مع الحالمين إلى اليوم الذي تدشن فيه محكمة عدل إسلامية تفصل في المنازعات بين المسلمين وحتى يتحقق هذا الحلم فهل يعدل النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية حتى يحاكم أمامها كل ميلوسوفيتش جديد؟؟