بقلم: الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
الخميس 2 أغسطس 1990 يوم الجمعة يوم محفور في وجدان أهل الكويت، منقوش في ذاكرتهم غير محتاج إلى من يذكر الناس به، أو ينعش عقولهم، لتلتفت نحوه، وهل ينسى المظلوم ما وقع به من ظلم؟ وهل ينسى المعتدى عليه آثار الاعتداء ولا زالت هذه الآثار تلقى بظلالها على مستجدات الأحداث، ولا زال الأسرى غائبين عن أهلهم ووطنهم.
فالأمر إذن ليس في حاجة إلى تذكير لأنه لم ينس أصلاً، وإنما ما نحتاجه في هذا الوقت، وبعد كل
لماذا تثير قناة الجزيرة الفتنة في وقت أحوج ما تكون فيه دول مجلس التعاون إلى التعاون والتكاتف والتضامن؟ |
هذه السنين هو هل بالفعل استفدنا من كم العبر والدروس الذي كشفها هذا الحدث الذي العالم في حينه، وخاصة بعد مضي أكثر من عقد على حصوله، وإذا كان هذا الأمر قد طُرح في سنوات سابقة، فهل اتخذت بعد ذلك الأسباب التي تخرج الشعب الكويتي من نفسية “الغزو” إلى نفسية “التحرير” وهل كان هذا الخروج خروجاً موفقاً لم يترك ندباته على الروح الكويتية، وإذا كان هذا الكلام صحيحاً، فلماذا نشاهد بصمات الإحباط تنشر في البلاد هنا وهناك، ولماذا يوجد في الكويت فئات لا زالت نفسياً غير قادرة على الخروج من “شرنقة الغزو” وكأنها تريد أن تجعل من هذه الذكرى المؤلمة حائط مبكى كويتي تود الجلوس عنده ولا تغادره…
إن الهزيمة النفسية لأي فرد أو لأي مجتمع وأمة لا تقل أثراً عن الهزيمة المادية بل قد تزيد، لأن آثار الهزيمة المادية يمكن إرجاعها بالجهد والعمل، أما الآثار النفسية فإنها تترك داخل الإنسان ندوباً وجروحاً لا تزول وإن زالت مظاهرها، والإحباط الذي أصاب الكويت سنة 1990 أحدث فيها هزيمة عميقة بقيت آثارها باقية حتى بعد أن تحررت الكويت، ولعل قضية الأسرى والقضايا الأخرى التي ما زالت عالقة، تجعل الإحباط يستوطن بعض القلوب، والآلام النفسية متأصلة لا تتوارى ولا تختفي.
غول الإحباط
فالإحباط هو الشعور النفسي الذي يصيب أصحاب الآمال الكبيرة حين تنتكس آمالهم، فيشعرون بألم وحسرة وغصة في حلوقهم لا يذهبها الماء ويصبح هذا الإحباط آفة من آفات النفس، يعوق فيها الإرادة الدافقة، ويوقف الهمة العالية، ويبعث الوهن والضعف في القلوب، فتقل مقاومتها وتفتر ويجعلها أقرب إلى اليأس منها إلى الرجاء، وإلى الخنق والغضب منها إلى الرضا، والنفس الواهنة المحبطة لا تبدع فكراً، ولا ترفع إنتاجاً، ولا تدفع عدواً، وكل همها أن تمارس الجمود في زاوية الاستسلام، فالإحباط قاتل للمعنويات، لأنه سم بطيء ينتشر في جسد الأمة فتضعف مع الأيام مقاومتها، “وفي الظروف البيئية السيئة التي يشعر فيها الإنسان بالحرمان، والظلم والتحقير والقسوة ينمو لديه الاستعداد للشعور بالإحباط، أما في الظروف البيئية الحسنة التي يحيا فيها الإنسان، شاعراً بالأمان والطمأنينة والتقبل، فيحصل على إشباع في معظم دوافعه فلا ينمو عنده الاستعداد للشعور بالإحباط، فلا يشعر به إلا في المواقف الصعبة، فيقدر على تخطيه بأساليب إيجابية” (الصحة النفسية من الإغريق إلى العصر الحديث ص253 بتصرف).
فالإحباط لا يصيب أمة دون أمة، ولا إقليماً دون إقليم بل قد يكون ظاهرة عالمية، تعددت أسبابه
أليس غريباً أن تأتي هجمة قناة الجزيرة على المملكة متزامنة مع الهجمة الإعلامية للدوائر الصهيونية الغربية؟ |
ودوافعه لكنه صفة بارزة في عالم اليوم القلق والمضطرب،والتي قد تعبر عنه الشريحة الأكثر تفاعلاً وتغيراً في المجتمع، فمثلاً أظهرت دراسة قامت بها الحكومة الأمريكية أن ثلاثة ملايين مراهق أمريكي فكروا جدياً في الانتحار وأن نحو ثلثهم حاولوا الانتحار بالفعل، كما أن مشاكل العالم المستجدة تجعل قائمة الإحباط طويلة، فهناك مثلاً 500 مليون شخص “نصف مليار” قد تعرضوا لمشكلة من مشاكل الحروب كالأسر أو الإعاقة أو الجوع، وهناك 3مليارات شخص لا يستطيعون التعبير عن آرائهم خشية الاعتقال، وهناك 75% من سكان العالم يفتقدون إما إلى المأكل أو الملبس أو الإيواء، كما أن هناك 2مليار شخص لا يعرفون القراءة والكتابة، فهذه الأرقام تدل على أن مسببات الإحباط موجودة على مستوى العالم، ولكن التفاعل معها يختلف من بلد إلى آخر، والحاذق هو من يستطيع الخروج سالماً من هذا العالم السوداوي؟!.
الإحباط صناعة محلية
هذا على مستوى العالم أما نحن في الكويت فإن هناك دوافع ترتبط بالواقع الكويتي الداخلي، وليس له علاقة بالوفرة المادية والمستويات المعيشية التي عادة ما تعاني منها شعوب ودول أخرى، ولعل من أهم ما نعاني منه هو تناول شئوننا الداخلية بطريق الإثارة والمظهرية، ورغم معرفة الناس بحقيقة زيف الإثارة والمظهرية في تناول الأمور، إلا أنهم اعتادوا عليها دون غيرهما، لأنهما يلفتان الأنظار، ويطلقان الألسنة بالحديث عن فلان وفلان في مجتمع صغير، يسعى فيه الكثير من الشخصيات لصنع هالة إعلامية وصورة محددة لهم في المجتمع، حتى تصبح سيرتهم في كل منتدى وكل ديوانية، ولقد استشرى داء الإثارة والمظهرية بحيث لم تعد هناك مشكلة صغيرة وكبيرة إلا وللإثارة فيها نصيب وللمظهرية فيها حظ غير قليل، ولم يعد هناك أحد قادر على الكلام باللسان أو على الكتابة بالقلم إلا وهو يستخدم أسلوب الإثارة والمظهرية ليجذب أنظار الناس وأسماعهم، ويشير الناس إليه بالبنان.
فخطيب الجمعة يلجأ إلى الإثارة ، لأنه يود أن يمتليء مسجده بالمصلين، ونائب مجلس الأمة يلجأ
وزير خارجية قطر يلتقي بشمعون بيريز بتوقيت سيء وبمبررات ضعيفة، ثم لا تجد قناة الجزيرة إلا المملكة لتهاجمها. |
إلى الإثارة وعينه على الانتخابات القادمة، ورئيس التحرير يلجأ إلى الإثارة وعينه على زيادة المبيعات، وهكذا الإثارة هي هاجس الناس لأنها مرتبطة إما بكسب معنوي أو مادي، والحماسة والإثارة ليست مرفوضة جملة وتفصيلا، لكننا نرفض أن تكون هي الهدف والغاية، لمجرد أنها تجعل صاحبها حاضراً على ألسنة الناس، رغم علمنا أن هذه الإثارة تهز المجتمع وتشعر الناس بعدم الاستقرار وهي لا تؤدي إلى خير ولا تعالج مرضاً ولا تصلح فاسداً ولا تنضبط بضوابط الشريعة، ولا توافق القيم الفاضلة، بل تصبح مجرد كرة من نار الكل يحاول دفعها عنه، مما يزيدها اشتعالاً، ويزيد معها قلق المجتمع واضطرابه، فهذه الإثارة التي طغت على كل شيء جعلتنا ننسى في غمرة الدفاع والهجوم بديهيات في التعامل من أجل صالح المجموع، تقوم على الخير وصدق النية قبل الشروع في أي إصلاح، وعند اختفاء هذه البديهيات وآثارها الخيرة الإيجابية على الناس والمجتمع، يشعر الكثير من مجموع المجتمع بالإحباط والانهزام النفسي، لكثرة الإثارة الموجودة وقلة الإنجازات الملموسة في مقابلها.
ولأن أصحاب المنهج الوسطي ومن يمسكون بالعصا من الوسط ويفكرون بطريق منطقي وهادف قليلون، فإننا قد نجد فئة ثانية قد تتولد نتيجة للفئة التي تمتهن الإثارة في كل شيء، فيصبح وجود الفئة الثانية نتيجة طبيعية للفئة الأولى، فيتكون لدينا مجموعة من الخاملين المحبطين الذين لا يعنيهم إلا أنفسهم، ولا يشغلهم إلا صالحهم، ولا يهتمون لما يصيب إخوانهم أو جيرانهم أو معارفهم من خير أو شر، استسلموا للظروف ورفعوا راية الإحباط، فهؤلاء يعيشون صغاراً ويموتون صغاراً..
النقد من أجل النقد
في ظل هذه الأوضاع يكثر النقد الناتج عن الإحباط، وهو النقد الهدام الذي يستهدف النقد من أجل النقد، لتفريغ شحنة مكبوتة من الإحباط، أو للتخلص من المسئولية الفردية في أخذ حظها من الإصلاح.
ولذا النقد لا يأتي في أطره السليمة وآلياته التي توصله للمعنيين، وهو كذلك لا يقدم الحلول البديلة
مهما رموا الأحجار ستبقى المملكة نخلة باسقة عالية .. فليتهم يرتدعوا. |
أو المعقولة للقضية مثار البحث، وهذا النقد بحد ذاته يعتبر دليل عجز عن الخروج من حالة الإحباط وإيجاد نفسية تتفاعل مع الأحداث بإيجابية، وتعطي فسحة من الأمل لدى الآخرين.
هذا النقد ما إن سمعناه في منتدى أوديوانية، إذا تم فتح الباب فيه في أي تجمع كويتي تجده لن يقفل إلا بعد ساعات من تفريغ الكبت والشحن النفسي المليء بالإحباط عادة وأصبح الكويتيون رواداً في فقه “التحلطم” فيبدأ قطار النقد في الحديث عن العلاقة المتوترة بين المجلس والحكومة، ثم ينتقل للأداء السيء للاقتصاد الكويتي، وقد يعرج على أسعار النفط واحتياطي الأجيال، ولا بأس من الانتقال بعد ذلك إلى المقارنة بين الكويت ودول الخليج، ثم ينتقل النقد إلى الشارع، فيتم الهجوم على المرور والشوارع السيئة، والجريمة والمخدرات، وكثرة حالات الطلاق، والعنوسة، والبطالة، والحزبية والطائفية والقبلية، ثم يتحدثون عن الإسكان، ويرسلون قذائفهم على التربية ودواماتها، ثم عن قرارات البلدية، وسوء الخدمات الصحية، ورداءة الطاقم الطبي، وبيروقراطية الروتين الحكومي، وقد ينتقلون للشأن الخارجي فيسبون إسرائيل، ثم تنتهي حفلة الزار، ويذهب كل فرد إلى بيته في آخر الليل وقد ألقى بحمولة كبيرة من الإحباط في الديوانية، فيضع رأسه على المخدة وينام مرتاحاً، لأنه أكد في النهاية أن الجميع على خطأ، وهو الوحيد المواطن الصالح الذي على صواب .
على طريق العلاج
هذه الدوامة المستمرة والمتكررة في كثير من منتديات وديوانيات الكويت لا بد أن تصل إلى قناعة مفادها أن النقد والإحباط واستمرار “التحلطم” لن تغير الأوضاع السيئة إلى أوضاع حسنة، ولن تحول الصحراء المقفرة إلى واحة خضراء، فإذا ما أردنا الخروج من أسر هذا الغول المسمى الإحباط، فلا بد من اتخاذ وسائل عملية وقناعات فكرية تشكل منطلقات وثوابت قوية للخروج من هذا الحصار النفسي والوصول إلى واحة التفكير الإيجابي والنفسي المطمئنة التي تتفاعل مع أقدار الله بإيجابية وأمل، ونعتقد أن أهم أسباب الانتصار في معركتنا مع الإحباط تكمن في الأسباب التالية:
أولاً:مقاومة اليأس والتشاؤم، ولا يوجد مثل الإيمان يبث الأمل في النفوس، وتقوى الله الذي يعطي
اتفاقية الحكومة السودانية مع المتمردين، هل جاءت نتيجة “للمصالح الأمريكية في السودان” أم استقراء الحكومة لمصير أفغانستان وباكستان وما سيحدث للعراق؟ |
الطاقة والقدرة على مواجهة المواقف الصعبة وتخطي الإحباطات المؤثرة التي نواجهها في هذه الحياة الفانية، فالمؤمن التقي يستطيع مواجهة مثبطات الحياة ومحبطاتها بعدة أسس لا يستغني عنها ومنها:
1-إحسان الظن بالله، فلا يأس ولا قنوط، ما دام المؤمن قد اتجه إلى الله وطلب رضاه في العسر واليسر والصحة والمرض والشدة والرخاء، فهذا سيدنا يعقوب عليه السلام يوصي بنيه فيقول:” ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون” وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام حين جاءته البشرى على لسان الملائكة وقالوا له:”بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين” رد عليهم قائلاً:”ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون” فإحسان الظن واليقين بأن الأمور لله يصرفها كيف شاء يقضي على الإحباط ويزيله.
2-معرفة حقيقة علاقة الإنسان بالحياة، وأنها تقوم على: سراء يشكر الله عليها وضراء يصبر عليها، فهو بين نعمة وبلاء وشكر وصبر، وبهذا المزيج تتكون الحياة ويعرف المسلم سرها فلا يبطر ولا يضجر فمن أين يأتيه الإحباط؟
3-يعتقد المؤمن أنه لا توجد مشكلة تستعصي على الحل، لأن الزمن جزء من العلاج وكل شدة إلى فرج، وكل عسر إلى يسر، “فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً” وهكذا فإن العسر لا يغلب يسرين.
4-الحياة تقوم على نظام التدافع الكوني والشرعي، الذي يجعل الحياة تنتقل من هزيمة إلى نصر ومن شر إلى خير”ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”.
ثانياً:تطبيق شريعة الله، فالإيمان والتقوى من أسس علاج الإحباط عند الأفراد، وتطبيق شريعة الله علاج للإحباط عند الأمة والمجتمعات، فشريعة الله بما تمثله من قيم الحق والعدل والخير التي هي أساس إقامة أي مجتمع آمن ومستقر لقادرة على إيجاد منظومة متكاملة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة بما تحقق الإشباع النفسي والمادي والروحي من خلال إيجاد عدالة اجتماعية تؤمن بتساوي الفرص، والحقوق، فبشريعة الله تسعد البشرية، ولقد رأينا كيف كان المجتمع الإسلامي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، حيث كان الرضى النفسي في أعلى مستوياته، وكان من مؤشرات ذلك أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد تولى القضاء لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم يرفع له المسلمون قضية واحدة طوال سنتين كاملتين!!
ثالثاً: الصدق والإخلاص في بناء المجتمعات، والتخلص من الإثارة والمظهرية في تناول الشئون العامة، وهذا دأب الغيورين الصادقين المخلصين، وخاصة من هم في موقع القيادة على أي مستوى من المستويات في الابتعاد بالأفراد عن الوقوع في مهاوي الإحباط متخذين من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:”كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”.
هذا الصدق والإخلاص هو الذي يجعل من هم في موقع المسئولية سواء في الحكومة أو في مجلس
لماذا قدمت الحكومة السودانية كل هذه الضحايا والشهداء خلال عشرين عاماً ثم تأتي وتوافق على الاتفاقية التي كانت مرفوضة في ساعات محدودة؟ |
الأمة يقدمون المصلحة العامة، وعليها تدور برامج كل التيارات السياسية، لا أن يضع كل تيار سياسي في حساباته أن عليه أن ينازع التيارات الأخرى ويعرقل مشاريعهم واقتراحاتهم فقط من أجل إطفاء شعبيتهم حتى ولو كانت المصلحة العامة والتنمية هما الضحية، مما يجعل الخلاف ينبني على الحزازات النفسية الشخصية، وندخل في نفق الخلافات التي تفرق بين أبناء الكويت على أسس قبلية أو طائفية أو مذهبية، وتجري دوامة المساءلات وتبادل الاتهامات والنوايا كلها تحت لافتة المصلحة العامة، والمصلحة العامة بريئة منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وهي في حقيقتها ما هي إلا انعكاس لأحقاد باطنية تقوم على دوافع الانتقام والحسد والتشفي في الآخرين، وهذا يدخل البلد في دوامة ما إن تخرج منها حتى تدخل في أخرى، وهكذا أزمات تلد أخرى لن تكون نتيجتها إلا استمرار الإحباط، فاحذروا يا أبناء بلدي.
حول الأحداث الساخنة
صداع الرأس .. مرة أخرى
كتبنا سابقاً فتكلمنا عن الدور المشبوه الذي تقوم به قناة الجزيرة من أجل المساهمة في اندماج الصهاينة مع شعوب المنطقة، على الأخص شعوب دول مجلس التعاون الخليجي، من خلال أسلوب دس السم في العسل وذلك بمحاورتها كبار الصهاينة والمسؤولين اليهود، وهذا الدور الذي تقوم به الجزيرة من أخطر الأدوار التي تقوم بها المؤسسات الإعلامية في العالم العربي من أجل التطبيع مع الكيان الصهيوني خطوة خطوة.
لقد أدركت قناة الجزيرة حاجة الشعوب العربية للكلمة الحرة وسعت إلى دغدغة المشاعر العربية من خلال طرح بعض القضايا الوطنية والقومية والإسلامية، وهو أمر جعل الناس تثق بهذه القناة ثم راحت تدس السم والعسل وتمارس لعبة التطبيع مع الصهاينة من خلال برامجها المختلفة ..
لقد قلنا هذا الكلام، ولا نعلم لماذا تصر قناة الجزيرة على انتهاج منهج التشهير بالقيادات والرموز العربية والإسلامية في وقت مضطرب متأزم أحوج ما تكون فيه دول الخليج العربي إلى التكاتف والتضامن وتوحيد المواقف في مواجهة الأخطار والتهديدات التي تواجه المنطقة وآخرها التسخين الذي يجري لإعداد مسرح العمليات للقيام بما تعتقد الولايات المتحدة أنه أصبح من الضروريات القصوى في الانتقال إلى مرحلة جديدة وخطيرة في ملف القضية العراقية.
ورغم إيماننا بأهمية الحوار والرأي الآخر، وحرية الفكر والتعبير، وتوسيع هامش الحريات
المخطط البعيد للعبة الجنوب في السودان هي الشقيقة الكبرى مصر، ودروها الريادي في المنطقة هو المستهدف، يريدون خنق قدراتها الاقتصادية. |
المسؤولة في منطقة جغرافية تعشعش فيها الديكتاتوريات ويكون فيها القمع سيد الموقف، إلا أننا لا نحتاج في هذا الوقت بالذات إلى “فذلكات” قناة الجزيرة ونهجها في الضرب على أوتار التحريض والفتنة، وعدم تقديرها للأوضاع الحرجة والحساسة التي تمر فيها الأمة العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ودماء الشعب الفلسطيني المستباحة، والقلوب المكلومة والنفوس المليئة إلى شفير الانفجار بسبب غياب التضامن العربي وضعف القرار العربي في مواجهة الأحداث، في ظل هكذا أوضاع يجب أن يسود العقل والحكمة، لا أن تترك قناة الجزيرة القضية الفلسطينية الملتهبة، والقضية العراقية المتوترة، لتشعل الجمهور العربي بفتح جبهة جديدة تهاجم فيها الرموز الإسلامية الكبيرة، وهذا الذي يطرح علامات استفهام كبيرة، إن هجوم قناة الجزيرة على المملكة العربية السعودية الشقيقة يأتي متزامناً مع الهجمة الإعلامية لدوائر الصهيونية الغربية، وكأنه نوع من الانسجام مع تلك الدوائر المشبوهة، والأعجب من هذا كله وليس المستغرب أن تهاجم قناة الجزيرة الدور السعودي في القضية الفلسطينية في نفس الوقت التي تطالعنا فيه القنوات الفضائية، هكذا وبلا مقدمات بوزير الخارجية القطري –وبلا أسباب منطقية أو عقلانية وفي ظرف متأزم لا يستدعي مثل هذا اللقاء- يلتقي في باريس بشمعون بيريز، وكأن قطر دولة عظمى لها حدود طويلة عريضة مع الكيان الصهيوني، مما يستدعي التدخل في حوارات مباشرة وغير مباشرة علنية وأخرى سرية مع الكيان الصهيوني، ضاربة عرض الحائط بكل المشاورات التي بين دول المنطقة لتغني خارج السرب، وتلتقي برمز إسرائيلي في وقت يتعرض فيه الفلسطينيون لمذابح يومية بشعة أدانها العالم كله، ثم بعد ذلك تأتي قناة الجزيرة “القطرية” ولا تجد إلا المملكة العربية السعودية لتهاجمها، وكأن المملكة لا يكفيها حربها على جبهة الدفاع عن الإسلام وصورته بعد أحداث 11 سبتمبر والهجمة الصهيونية الشرسة، حتى تأتي قناة الجزيرة وتنضم لشلة الموتورين الذين يرمون المملكة بالأحجار، وما علموا أنها نخلة باسقة عالية لن يطولوها .. فليتهم يرتدعوا!!
السودان .. والاتفاق الصدمة
“إذا جاءك السيل .. فضع ولدك تحت قدميك” يبدو أن هذه المقولة تفسر بعض ما يحدث في السودان، والمفاوضات الأخيرة والتي كادت أن تنهار مع المتمردين في الجنوب في لحظة من لحظاتها، تحولت –بقدرة قادر- إلى اتفاق تاريخي بعد عشرين عاماً من الحرب في زمن النميري ثم في زمن البشير والترابي، ولا نعلم هل كانت الخلافات السابقة بين الترابي والبشير تعتمد في أجزاء منها على اختلاف رؤية الرجلين للقضية التي تمثل خنجراً في خاصرة السودان وتستنزف موارده، فالاتفاقية الصدمة التي جرت تلغي بكثير من الظلال والشكوك حول أهدافها ومآربها وغاياتها الحقيقية، وخاصة إن أطرافاً في الحكومة السودانية تحدثت بشكل صريح عن “مصالح أمريكية في السودان ينبغي مراعاتها” كما أننا لا ندري سر هذا التحول السريع في موقف الحكومة السودانية من المفاوضات، وهل هو نتيجة استقراء “منطقي وميداني يأخذ في الاعتبار ميزان ووضع الأمة العربية والإسلامية المفكك” ويأخذ أيضاً في الاعتبار ما جرى في أفغانستان وباكستان وما يخطط للعراق، فآثرت السلامة قبل أن يأتي السيل!!
أسئلة كبيرة تحاول أن تستكشف الدوافع التي تجعل التاريخ المعاصر يوصم الحركة الإسلامية في
رغم مرور أكثر من عقد على التحرير، فلا يزال البعض يعيش بنفسية “الغزو”. |
أول نموذج لها في الحكم بأنها قامت ببيع جزء من أراضيها ضمن ظرف دولي يقوم على مبدأ القوة والعنف والحسم العسكري السريع، وهل هذه الظروف مبررة، ومعطياتها لما فعلته حكومة السودان تجاه دماء الشهداء وتضحيات الشعب السوداني خلال العشرين عاماً الماضية، وخصوصاً أن الأمور في أجزاء فيها مبهمة، وخاصة فيما يتعلق بحدود الجنوب، فهل هي تلك التي رسمت أثناء خروج المستعمر بحيث تكون مكامن البترول خارجة عنها وتابعة للشمال، أم هي الحدود التي يريدها المتمرد جانغ رانغ بحيث يضم مكان النفط في داخل الحدود الجنوبية وإننا لنعجب أن تهتم الولايات المتحدة في الجنوب السوداني على الرغم من أن المنطقة تسكنها أقلية مسيحية لا تزيد عن 17% بينما باقي السكان وثنيون، ويمكن ضمان أصواتهم عندما تنتشر المجاعات والفقر ويتوفر الدولار، مما يعني في النهاية انفصال الجنوب على الشمال مما يجرنا إلى التساؤل عن المصير المشترك للأمة العربية التي تقتطع أراضيها، وتلحق بمن قبلها.
هناك ما هو أهم، فعندما يصل الخطر إلى العصب لا بد من إطلاق الضوء الأحمر لكي ينتبه
لماذا أصبح الإحباط غولاً يمسك برقبة الجميع، وأصبح الكويتيون رواداً في فقه “التحلطم”؟! |
الغافلون للخطورة التي لا يعي البعض أبعادها في هذه المؤامرة، فالجنوب يمثل شرياناً رئيسياً لمجرى نهر النيل حيث الشقيقة الكبرى مصر، وتحول دولة الجنوب إلى دولة أمريكية بحتة ذات تحالفات يهودية غربية إنما يعني في النهاية خنق لمصر وقدراتها الاقتصادية بما ينعكس بشكل مباشر على ثقلها السياسي في المحيط العربي والإسلامي والدولي، وخاصة وأن الدولة المحيطة بجنوب السودان لها هي الأخرى ارتباطاتها المشبوهة مع الكيان الصهيوني، ألا فلينتبه من بيده الأمر قبل أن نصل إلى عنق الزجاجة وساعتها ستنفجر الأوضاع في المنطقة!!