بقلم: الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

*أرادوك سلعة وأردناك جوهرة

مدخل:

لم تنل المرأة قبل بزوغ شمس الرسالة المحمدية عناية إنسانية رشيدة، وحقوقاً قانونية منصفة، ومكانة اجتماعية مرموقة تمكنها من أداء رسالتها في الحياة، فكانت تُعد من سقط المتاع عند اليونان وسلعة تباع وتشترى في الأسواق ليس لها أن تبرم أمراً دون وليها، ولا حق لها في ميراث ولا حرية لها في اختيار، وقد بلغ من هوانها عند الهنود أنها كانت تحرم من حق الحياة بعد موت زوجها فتحرق معه وهي حية في مرقد واحد، ولم يكن حالها بأفضل كثيراً عند الرومان في بدء حضارتهم، بيد أنه بعد الازدهار العلمي في محيطهم القانوني طرأ تحسن يسير في وضعها إذ تحولت سلطة وليها من سلطة ملك إلى سلطة حماية، وانحصرت أسباب قصور الأهلية عندهم: في السن والإدراك العقلي والجنس أي الأنوثة. 

أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد حرفوا الكلم عن مواضعه، حيث نسب اليهود إلى التوراة أن المرأة أمر من الموت وأنها لعنة لغوايتها آدم عليه السلام، واعتبرتها الكنيسة أس البلاء، ومنزع الشقاء، وأحبولة الشيطان، ودنس الفضيلة، وخلص مجمع “ماكون”[1] إلى أنها خلو من الروح الناجية من عذاب جهنم إلا أم المسيح عليه السلام.

ولم يكن شأن العرب في الجاهلية بأوفر حظاً، إذ كانوا يتشاءمون من ولادة الأنثى ويتوارون خجلاً إذا بشر أحدهم بها … مع وأدها وهي حية خوف العار والفقر، وحرمانها من حقها في الميراث.

كانت المرأة تباع وتشترى في اليونان، وتحرق مع زوجها في الهند، وهي ملعونة عند اليهود في التوراة، واعتبرتها الكنيسة أس البلاء وأحبولة الشيطان، ولا يحلو للبعض غير مهاجمة الإسلام!!

فجاء الإسلام تحريراً لها من أغلى المعتقدات الزائفة ووضعاً للآصار التي كانت عليها، وغدت موضع العناية والتبجيل، شقيقة للرجل .. وأحق الناس بحسن صحابته أماً، وبابه إلى الجنة بنتاً، ومناط خيريته زوجة فالمرأة في معهود الشرع كائن مكرم، وشريكة الرجل في مهمة الاستخلاف وإعمار الأرض بالخيرات رفداً، وبالصالحات أعمالاً، وبالطاعات تسابقاً وبالجزاء مثوبة، فهما سواء في وحدة الأصل الإنساني ومرد الخلق إلى منزعه الأول، إذ كلاهما من نسل آدم، ومن نفس واحدة كما دلت على ذلك قواطع النصوص ومحكمات الآيات :”يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً[2] وهي في موضع التكريم الإلهي مع الرجل، كم نطق بذلك الوحي: “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا[3].

فهم المسلمون ذلك فعزوا وسادوا وسعدت الأسرة في ظل الإسلام بل سعدت الأمة رجالها ونساؤها على السواء دهوراً متعاقبة بهذا المنهج القويم، ثم عدت على أمة الإسلام العوادي من الخارج والداخل فأضعفت التصور الإسلامي الصحيح في النفوس وعادت بعض تصورات الجاهلية تطل على المسلمين، تظهر على استحياء حيناً وفي غير استحياء حيناً آخر ولكنها موجودة على كل حال، دفعت هذه التصورات الجاهلية –  في غيبة الوعي الإسلامي الصحيح- مكانة المرأة إلى الوراء قليلاً قليلاً، فالمرأة التي كانت تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تشير عليه، أو تستفتيه أو تشارك معه في غزواته أو تحكم في القضايا الفقهية، وتوجه أحياناً بعض الأمور السياسية لم يعد لهذه المرأة وجود، لغلبة الترف على النساء المتعلمات،وغلبة الجهل على نساء البيوت في القرى والبلدات، وظلت مكانة المرأة – في الأعم الأغلب- تتراجع في كثير من بلدان العالم الإسلامي، حتى العصر الحديث الذي اتصل فيه الشرق الإسلامي بالغرب المسيحي عن طريق البعثات ونظم التعليم والانبهار بالمخترعات الحديثة وقيام فريق غير قليل من العائدين من بعثاتهم في أوروبا إلى بلادهم بالدعاية لما عليه الغربيون من عادات وتقاليد، ظنوها ضرورة من ضروريات التقدم والرقي، وكان في هذه العادات والتقاليد كثير مما يتصل بالمرأة وهو مخالف لمقاصد الإسلام وتعاليمه، مما جعل قليلين يتصدون لهذا التيار الذي يقوى بالسلطان والجاه والنفوذ، وظهرت جمعيات وأعلام من الرجال والنساء تدعو للسفور والتبرج، وأن تأخذ المرأة المسلمة نفسها بما تأخذ به المرأة الغربية المسيحية في كثير من الأشياء، وتعدى أمر هذا التيار إلى أن تعرض أحياناً لنصوص قرآنية قطعية الدلالة باستنكار واستغراب، فاستغرب بعض الداعين للترغيب من أن تحصل الأنثى على ثلث التركة ويحصل الرجل الثلثين الآخرين من الميراث، ودعا بعض آخر إلى منع تعدد الزوجات –مهما كانت الأسباب- بقوة القانون، وطبقت ذلك بعض دول عالمنا الإسلامي، وقام من بين المسلمين من يدافع عن دين الله  – بقوة الحجة والبرهان- في وجه هذا التيار، ودفع هذا الأخذ والجذب المسلمين لأن يتدبروا أمر دينهم وواقع حالهم فأوجد ذلك صحوة إسلامية بين الناس تقبل كل ما لا يتعارض مع الدين، وتأبى كل ما يخالفه، وإن كثر داعوه، وزاد مناصروه.

ولما كنا من المؤمنين بأن هذه الأمة المسلمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، وأن الأمة لا تقوم وتنهض إلا على شقيها الرجل والمرأة، وأن الطعنات الظالمة التي وجهت للمرأة المسلمة ما زالت قائمة وأن محاولات منع المرأة من الظهور بالمظهر الإسلامي الصحيح مستمرة في بلاد عديدة، فإن هذا كله دفعنا إلى الكتابة في هذا الموضوع وقد أثر على ما أراه في الأماكن المفتوحة التي يعيشها الإنسان في يومياته في المستشفى والجمعية.         

لا ظلم ولا استبداد بل عدل ومساواة:

في الإسلام ليس هناك ما يبيح للرجل أن يظلم المرأة لأن الرجل لا يحتكم إلى هواه بل هو محكوم بشريعة الله كما أن المرأة محكومة بشريعة الله، وسبب الظلم الواقع على المرأة في ديار المسلمين هو البعد عن حقيقة هذا الدين العظيم، ففي المجتمع المسلم تعيش المرأة في مكانة عالية تحفظ كرامتها، وتحفظ إنسانيتها وتصون عفافها فهي مخلوقة من الرجل، وهي نفسها نعمة من الله تحتاج إلى شكر “يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً” وهي صنو الرجل في التكاليف الشرعية “من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب” وقوله تعالى:” فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض“.

تراجع دور المرأة لا علاقة له بالإسلام، بل بالتخلف الذي أصاب أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي.

والتناصر ف المجتمع الإسلامي والقيام بالأعباء الاجتماعية يشمل الرجال والنساء “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم”.

وحقوق المرأة في العقود فيها كامل الرقي والحضارة، فهي ترث وتملك وتتصرف ولها الحق في رفض الزوج الذي لا تريده، وعندما تتزوج لها حقوق على زوجها كما عليها واجبات “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة”.

عناية الإسلام بالمرأة:

ولقد اعتنى بها الإسلام وأنزلها مكانتها التي تليق بها في أدوارها الثلاثة: البنت، الزوجة، والأم.

أولاً: البنت:

لقد اعتنى بها السلام وهي صغيرة –فمعلوم أن العرب كانوا يئدون بناتهم خشية العار فعاب الإسلام هذه الخصلة الوحشية كما سبق بيانه.

ولم يكتف الإسلام بتحريم قتل البنات ووأدهن بل حث على حسن تربيتهن والعناية بهن، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” من عال جاريتين حتى بلغتا جاء يوم القيامة أنا وهو” وضم أصابعه، رواه مسلم.

ثانياً: الأم:

اعتنى الإسلام بها وهي أم، عناية قصوى، وأوصى الله بها في عدة مواضع من كتابه العزيز، فقد أمر بالإحسان إلى الوالدين بقوله تعالى:”ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً”. 

ثالثاً: المرأة الزوجة

قال تعالى: “ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون” فالزوجية سمة أصيلة من سمات هذا الكون وما فيه، لا تختص بالإنسان وحده ولا بالإنسان والحيوان فقط، وإنما تمتد في عمومها وشمولها إلى كل شيء مخلوق عرفناه أو جهلناه، ذكرناه أو نسيناه، ويأتي الإنسان في مقدمة الأجناس التي تتضح فيها هذه الزوجية متمثلة في الذكر والأنثى أو الرجل والمرأة، ليلبي كل منهما حاجة الآخر الطبيعية الفطرية وفق ما جاءت به الشرائع السماوية، التي أباحت لكل منهما الاستمتاع بالآخر في إطار الضوابط والأصول التي ارتضاها الله للناس، كي يظل هذا الكون معموراً مأنوساً بهذا “الخليفة” الإنسان الذي جعله الله في هذه الأرض، وبين أن عليه عمارتها وبنيانها “وهو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها”.

قوامة الرجل على المرأة ليست قوامة تسلط، والإسلام اعتنى بالمرأة بنتاً وزوجة وأماً، وقدم بر الأم على بر الأب بثلاث مراحل.

وقد مرت علاقات الزوجية بمراحل شتى تسلم ويعم خيرها ويذوق الناس جمالها كلما اقتربوا مما شرعه الله لهم، وتشقى ويعم كدرها كلما ابتعدوا عن شريعة الله، وساروا خلف أهوائهم أو قل: شياطينهم معصوبي الأعين لا يدركون إلا كل ما هو مادي حسي نفعي.

إن العلاقات الزوجية اليوم –في غير الإسلام- كذلك، والسمة الغالبة على غير المسلمين تتحدد فيها مكانة المرأة بمقدار ما تلفت إليها أنظار الرجال، وما تتمتع به من جمال جسدي يثير، ويغري بالرؤية والمشاهدة، ويحقق كثيراً من العائد المادي من وراء ما يسند لهذه المرأة من أعمال في مجالات تبرز فيها الأنوثة أكثر من غيرها، وتستفز فيها الشهرة لتدفع نحو المزيد من الاستمرار في الإغراء، وشاعت هذه التقاليد وقبلها العرف العام حتى صارت النساء يسعين بأنفسهن للتكشف والتعري، لعل في ذلك ما يستشير الإعجاب، ويحقق الشهرة، ويلفت الأنظار، وقد نشرت الصحف هنا من أيام قريبة أن الشرطة في كندا تطارد السابحات عاريات الصدور من كل شيء، ويقوم هناك نقاش بين الجهات المختصة بسن القوانين لترى متى يحق لهذه الفتاة أن تكشف صدرها، أو أن تستره أو بالأصح تستر بعضه بكل ما هو شفاف قد يثير الفضول أكثر من غيره.

وليس حديثنا عن التكشف والتعري في ذاته، ولكننا أردنا أن نقول إن حضارات الآخرين تنظر إلى المرأة نظرة حسية جسدية لا معنى فيها لمعنويات تقوم على التقدير والاحترام لعجوز مسنة، أو لأم مضحية بحياتها في سبيل أبنائها أو لابنة مهذبة لا تتاجر بجسدها لا تفرط في عرضها، إن مثل هذه الأمور غير معروفة إلا فيما شرعه الإسلام، حيث جعل الأم أحق الناس بالصحبة، بل هي مقدمة مرات على الأب، وقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:”يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:أمك، قال:ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال:أمك، قال:ثم من؟ قال: أبوك، متفق عليه، وجعل النساء شقائق الرجال، وجعل الرجل والمرأة متساويين في التكليف والجزاء “ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة” “فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض” وألزم الأب بالإنفاق على بناته حتى يتزوجن ولا يتركهن عرضة للضياع والغواية، وفي هذا تقدير للمرأة وإعلاء من شأنها لا تجده في غير الإسلام لأنه يقدر دورها في استمرار الحياة وإعمار الأرض، لقد أعاد الإسلام للمرأة مكانتها المهدورة من الأديان السابقة   –التي اعتبرتها مصدراً للخطيئة، ولذلك عدت العزوف عن الزواج من المرأة مثلاً أعلى للعفة والرقي الروحي – بالحث على الزواج وتكوين الأسرة التي تتفق مع فطرة الإنسان وواقعه، وحفظ كرامة المرأة ومكانتها في بيتها وبين أولادها، وأمر زوجها بالإحسان إليها وحسن معاشرتها، وفي هذا قمة المساواة بين الرجل والمرأة بمعايير الفطرة والقدرات المتوفرة لكل منهما على العمل داخل البيت “للمرأة” أو خارجه “للرجل”.      

*الأخلاق الأسرة

لا تخفى قيمة الأخلاق الفاضلة على أحد من الأسوياء الذين ينشدون بين الناس الفضيلة، ويكرهون الرذيلة، والذين سمت نفوسهم، وطمحت إلى المعالي قلوبهم، فتعلقت أيديهم بأسبابها، واستطاعت أن تقتعد ذروتها قلة من البشر، في مقدمتهم الأنبياء والمرسلون، الذين حملوا منهج الحق إلى الخلق، لينذروا من كان حيا ويحق القول على الكافرين، هؤلاء هم أشد الناس بلاء، فلا عجب أن يكونوا أعلاهم خُلقا، وأكثرهم فضلا، وأوفرهم نبلا، وأعظمهم وفاء، وأجملهم صبرا، لأنهم كُلِّفوا أعظم الرسالات، وحُمِّلوا أقوى الأمانات، وهل يقوم بهذا إلا الكُمّل من بني الإنسان، الذين هم في الذروة بين الأنام؟ “الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور(الحج: 75-76) “الله أعلم حيث يجعل رسالته (الأنعام: 124).

ليت المرأة تصل إلى ما وصلت إليه المرأة في العهد النبوي لتعرف كم فاتها من الحقوق والخير.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له في مقام الأخلاق مكان فسيح، وكفى أن الله سبحانه وتعالى أثنى عليه في كتابه بقوله: “وإنك لعلى خلق عظيم(القلم: 4) (ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله في ميزان الله لعبدالله، يقول له فيها: “وإنك لعلى خلق عظيم ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله، مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين .. إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة – وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة، وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها) (في ظلال القرآن – ج6 – ص3656 – ص دار الشروق).

*المرأة المشاركة الفاعلة في الحياة:

مشاركتها في العبادة:

ففي ميدان العبادة .. شهدت الجمعة والجماعة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:”كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس”[4] وكانت تشهد صلة العيدين، إن كانت شابة صغيرة مخدرة تخرج لإدراك الخير ودعوة المؤمنين، وإن كانت حائضاً تتجنب المصلى فتكون خلف الناس تكبر بتكبيرهم وتدعو بدعائهم.

كما لا تتخلف عن صلاة الكسوف على طولها البالغ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: أتيت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم –حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي”[5].

وكانت تحفظ سورة “ق” من في رسول الله صلى الله عله وسلم، فعن أم هشام بنت حارثة النعمان قالت: ما حفظت “ق” إلا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم”[6] وحين يتداعى المسلمون لأمر جامع بالمسجد يدعو إليه مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تسارع ملبية، فعن فاطمة بنت قيس قالت:”…. نودي في الناس أن الصلاة جامعة فانطلقت فيمن انطلق من الناس فكنت في الصف المقدم من النساء وهو المؤخر للرجال”[7].

شهودها مجالس العلم:

وفي مسرح العلم تبدي حرصها على شهود مجالس العلم، والاستفتاء في أقضيتها الخاصة والعامة، وطلبها درساً للنساء لغلبة الرجال على مجلس النبي صلى الله لعيه وسلم … وكم رأينا من استدراكات عائشة رضي الله عنها على الصحابة، وهي من الستة الذين انتهت إليهم إمامة العلم في العصر الأول، وفي نهوضها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكررت صور مشرقة نسوق منها إنكار أم الدرداء على عبدالملك عندما لعن خادمه فقالت سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة”[8]

عطاؤها في ميدان الجهاد:

التي تريد من الإسلام أن يعيطها حقوقها كاملة عليها أن تؤدي واجباتها كاملة فتلتزم الزي الشرعي وتغض البصر وتبتعد عن مزاحمة الرجال وتجتنب الخلوات، ويكون قلبها عامراً بالتقوى والعبادة.

وفي ميدان الجهاد غزت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تخدم القوم وتسقي العطشى وتداوي الجرحى وتنقل القتلى إلى المدينة، عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة”[9]، ومنهن من كانت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالشهادة مع أول غزاة للبحر ويستجيب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل يوماً فأطعمته فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ يضحك قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال:” ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة …” قالت: ادع الله أن يجعلني منهم فدعا، ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك فقلت:ما يضحكك يا رسول الله قال: “ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله…” فقلت ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأولين ، فركبت البحر زمان معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت”[10].

دورها في العمل المهني:

وفي إطار العمل المهني نهضت بدور ملموس سعياً لتوفير حياة كريمة، سداً لخلتها، وعوناً لزوجها، وإعالة لأسرتها، وإسهاماً في فضل التصدق من كسب يدها، وبذلاً في سبيل الله .. ورعاية لمصالح المجتمع المسلم حيث شاركت في:

إدارة الأعمال الحرفية:

عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : … إن لي غلاماً نجاراً .. وفي رواية: فأمرت عبدها فقطع من الطرفاء فصنع منبراً”[11].

وأعانت على الزراعة والغرس:

عن جابر بن عبدالله قال: طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:”بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفاً”. 

وقامت بالرضاعة والحضانة بأجر:

قال تعالى “اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى”[12].

ومارست الصناعات المنزلية:

ورد في الطبقات الكبرى لابن سعد: أن امرأة عبدالله بن مسعود وأم ولده كانت امرأة صناعاً، فقالت: يا رسول الله إني امرأة ذات صنعة أبيع منها، وليس لي ولا لزوجي ولا لولدي شيء، وسألته عن النفقة عليهم فقال:”لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم”.

وامتهنت الرعي:

عن سعد بن معاذ:” أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنمها بسلع فأصيبت شاة منها فأدركت فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال كلوها”[13].

وعالجت بالرقية:

عن أنس بن مالك قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والأذن[14].

تفاعلها في الحياة السياسية:

وفي الإطار السياسي برز وعيها بالشأن العام فقد قدمت مشورتها الراجحة في صلح الحديبية ونهضت بموجبات بيعتها هجرة وموالاة وتحملا للشدائد ونصحاً لولاة الأمر … مما يؤكد أن هذه المشاركات في مختلف مناحي الحياة قد انطلقت من وعي المرأة المسلمة وإدراكها لرسالتها التي قررها الإسلام الحنيف .. وفق آداب رفيعة تصون ولا تعطل.

ومجمع القول وخلاصته أن المرأة شاركت في أوجه النشاط كافة، تثقيفاً وتعليماً، ودعوة وبراً، وخدمة وإصلاحاً، استجابة لداعي الرسالة، ولحاجات الحياة الجادة.

حق الأهلية:

متى تنتبه المرأة إلى هؤلاء الذين يريدون تحويلها من إنسانة لها روح وطموح إلى سلعة يتاجر بها لدى الحيوانات البشرية..

مقصود هذا الحق هو ممارسة الشؤون المدنية من إبرام للعقود وفسخها .. فالمرأة في الشريعة لا وصاية لأحد من زوج أو أب أو أخ على مالها، بل لها مطلق الأهلية في التصرف في ممتلكاتها : بيعاً وشراءً، وإبراماً للعقود وفسخاً، ورفعاً للدعاوى وتنازلاً عنها، وتوكيلاً لغيرها، كما يمكن لغيرها أن يوكلها في التصرف في ماله .. فقد أقر الإسلام حقها في التصرف في تملك الأموال الثابتة والمنقولة، وشرع أسباب التملك والعمل “للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن”[15]، وأثبت لها حقها في الإرث: “للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون  وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً”[16]، وأكد مهرها في الزواج:”وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً”[17]، وجعل حق التصرف في أموالها هبة وتنمية وإجارة وعارية وعروض تجارة.

ونحن حينما نذكر هذه المشاركات الفعالة للمرأة المسلمة نؤكد على مجموعة من الضوابط والإلزامات التي يجب أن تأخذ فيها المرأة المسلمة:

1-الزي الشرعي:

قال تعالى:”وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن[18] ، وقال:” ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى[19] ، فينبغي على المرأة أن تلبس اللباس المحتشم الساتر الفضفاض الذي لا يكون زينة في نفسه على نحو ما هو مبين في كتب الفقه.

 2-غض البصر:

قال تعالى:”قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم  ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن”[20] قال ابن عبدالبر “وجائز أن ينظر إلى ذلك منها (الوجه والكفين) كل من نظر إليها غير ريبة ولا مكروه وأما النظر للشهوة فحرام.

3-التميز عن الرجال واجتناب المزاحمة:

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ومكث يسيراً قبل أن يقوم، قال ابن شهاب: فأرى والله أعلم أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم”[21] ويؤكد هذا قوله صلى الله عليه وسلم:”لو تكرنا هذا الباب للنساء”[22].

4-اجتناب الخلوة:

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم” قال الحافظ ابن حجر “فيه منع الخلوة بالأجنبية وهو إجماع لكن اختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا كالنسوة الثقات؟ والصحيح الجواز لضعف التهمة به[23].

5-جدية مجال اللقاء:

قال تعالى:”وقلن قولاً معروفاً[24] وتشير هذه الآية إلى أن موضوع الحديث بين الرجال والنساء ينبغي أن يكون في حدود المعروف ولا يتضمن منكراً، كما ينبغي أن تكون للقاء أسباب جادة تدعو إليه.

6-وجوب إذن الزوج للدخول إن كان مقيماً غير مسافر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه”[25].

7-أن لا يكون خروج المرأة للعمل العام على حساب زوجها وبيتها وأولادها:

بمعنى أن لا تمنعها المشاركة في العمل العام من الوفاء بكل واجباتها زوجة وأماً، “وخير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه لزوج في ذات يده”[26] ولا بد من محاولة التوفيق والتوازن بين العمل داخل البيت وخارجه. 

[1] المرأة بين الفقه والقانون، د. مصطفى السباعي، ص20

[2] النساء 1

[3] الإسراء 70

[4] البخاري كتاب مواقيت الصلاة، باب صلاة الفجر رقم 544

[5] البخاري كتاب الوضوء، باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل ح178

[6] مسلم كتاب الجمعة، باب تخفيق الصلاة والخطبة رقم 1441

[7] مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قصة الجساسة ح رقم 5235

[8] مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها رقم 4702

[9] البخاري كتاب الجهاد والسير، باب مداواة النساء الجرحى في الغزو رقم 2669

[10] البخاري كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء رقم 2580

[11] نوع من شجر البادية، ويقال إنه الإثل المذكور في سورة سبأ آية16 “… وأثل وشيء من سدر قليل” وقد جاء في شعر عبدالرحيم البرعي اليمني:

ويا أثيلات نجد ما لعبت ضحى     إلا لعبت بقلبي يا أثيلات

[12] الطلاق:6

[13] البخاري كتاب الذبائح والصيد، باب في ذبيحة المرأة والأمة رقم 5081،وانظر بتفصيل كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة للأستاذ عبدالحليم أبو شقة ج1، وسلع جبل وقد ذكره تأبط شراً في القصيدة المقيدة المنسوبة له: إن بالشعب الذي دون سلع لقتيل دمه ما يطل.

[14] الحمة سم العقرب والأذن المراد وجع الأذن.

[15] النساء32

[16] النساء 7

[17] النساء20

[18] النور31 –الخمر ج (خمار) وهو غطاء الرأس، قال المرار بن منقذ: وهوى النفس الذي أعجبه – صورة أحسن من لات الخمر.

والجيب فتحة العنق قال الشاعر: البس قميصك ما اهتديت لجيبه – فإذا أضلك جيبه فاستبدل

[19] الأحزاب 33

[20] النور 30-31

[21] البخاري كتاب الأذان باب التسليم رقم 793

[22] سنن أبي داود كتاب الصلاة باب في اعتزال النساء في المساجد ح رقم391

[23] فتح الباري شرح حيث لا تسافر المرأة إلى مع ذي محرم ح رقم 1729

[24] الأحزاب 32

[25] البخاري كتاب النكاح، باب ألا تأذن المرأة في بيت زوجها لا أحد إلا .. ح رقم 4796

[26] البخاري كتاب النكاح باب إلى من ينكح وأي نساء خير ح رقم 4692