بقلم الشيخ د. جاسم المهلهل الياسين
الحرية الشرعية هي الحرية التي يرسم الشرع حدودها، ويوضح معالمها وآثارها، فهي حرية منضبطة بضوابط الشرع، وليست لنوازع الهوى، وهي الحرية التي ظهرت في عصر المسلمين الأول، فحيث كان يسكن الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في المدينة كانت الحرية متجلية في أسمى صورة، كتب الرسول الوثيقة التي وضحت معالم الحرية لليهود وللمسلمين وللطوائف الأخرى .. ولولا غدر اليهود وبغيهم وحسدهم لظلوا يعيشون في المدينة ولكنهم –كدأبهم وطبعهم- لم يوفوا بالعهود ولا بالمواثيق، فأخرجوا من المدينة جزاء بغيهم ونقضهم ما عاهدوا الرسول عليه.
ولقد بقيت الطوائف غير المسلمة –في بلاد الإسلام- متمتعة بكامل حقوقها في الدين والتملك والتصرف والمعاملة، لأن الحرية المكفولة لهم ليست منحة من بشر، ولكنها تشريع من الله، لا مكان فيه للفوضى، ولا مجال فيه للاضطراب، وليست الحرية التي يدعيها غير المسلمين كذلك، إذ إن عنصر الفوضى والإباحية التي لا ضابط لها متغلغل في أعماقها، مصاحب لوجودها، وهذا ما جعل بعض العلماء في العصر الأخير يقف من هذه الحرية المضطربة موقف المستريب المتشكك في ثمرتها.
لقد التقى الشيخ نجيب المطيعي –أحد العلماء البارزين في العصر الحديث- مع الأستاذ سعيد النورسي في استنبول، فسأله الشيخ المطيعي: ما قولك عن الحرية الموجودة في الدولة العثمانية وعن المدينة الأوربية؟
فأجابه النورسي: إن الدولة العثمانية حبلى الآن بجنين أوربا، وستلد يوما حكومة مثلها، أما أوربا فهي حاملة بالإسلام وستلد يوما ما” (رجل القدر – ص38).
وهذه الإجابة تحمل إيماءتين: إحداهما استشفاف ما سيصيب العالم الإسلامي من نكبات ما يطلق عليه “حرية الغرب” وهي ما ينبغي الحذر منه، والأخرى: الإرهاص بما سيكون من شأن للإسلام والمسلمين في مستقبل الأيام، وهذا ما حدث بعضه الآن في أمريكا، مما جعل الرئيس الأمريكي يحتفل بعيد الفطر مع عدد من المسلمين في البيت الأبيض، وجعل الصلاة مسموحا بها للمسلمين في الجيش الأمريكي، وتم تعيين بعض المرشدين الدينيين لهم في الجيش.
ويعتبر الإسلام ثاني أكبر ديانه –الآن- في فرنسا، إذ يبلغ عدد المسلمين فيها أربعة ملايين شخص.
أما ما أصاب العالم الإسلامي من جراء هذه (الفوضى الغربية) التي يحلو للبعض أن يسميها “الحرية” فشيئان ظاهران:
- موجة السفور والتبرج وما لحق بها من عروض أزياء واختلاط وما صحبها من دعوة لتحرير المرأة، ومشاركتها الرجل في الأعمال والسلوك والتصرفات.
- انتشار بعض الأفكار الإلحادية التي تظهر من آن لآخر في بعض البلدان الإسلامية على يد بعض الذين اغتربت أفكارهم، فتجد لهم كتبا أو مقالات أو رسوما يطعنون بها الدين، ويحاولون إلحاق الأذى بالله وبرسوله وبالمؤمنين، وما كان هذا أو ذاك إلا تقليدا للغرب وللنمط السائد فيه ومحاولة التخلق ببعض أخلاقه المتسيبة، المتسترة باسم الحرية، مما جعل كثيرا من العلماء يتصدون لهذه الدعوة التدميرية التي تهدف إلى طمس هوية المسلم، مفرقين في الوقت نفسه بين ضرورة اقتباس العلوم التي تغذي التقدم، وضرورة الابتعاد عن أخذ شيء من الجوانب السلبية للحياة الاجتماعية الغربية، مع وجود التصدي للموجة الإلحادية، وبيان زيفها والكشف عن أهدافها وغايتها المستورة، بل وبعض وسائلها الخفية، وقد أخذ بعض العلماء الميثاق على أنفسهم ليبينه للناس، بقول أحد العلماء: “فالخدمة التي يستطيع أداءها شخص مثلي هي تقديم النصيحة للأمة وللدولة، ولا قيمة لهذه النصيحة إلا بحسن تأثيرها، ولا يحسن تأثيرها إلا عندما تكون مخلصة خالية من شوائب الطمع، بعيدة عن المنافع الشخصية” (رجل القدر – ص36)
وصحب هذه الموجة الإلحادية عوالق تدعو إلى العلمانية بدعوى (أن الغرب لم يتقدم إلا عندما مزق سيطرة الكنيسة وسيطرة رجال الدين المسيحيين) وكانت هذه الدعوة إلى العلمانية دعوة مبكرة لم يتركها العلماء، بل تصدوا لها وبينوا أن الإسلام ليس فيه رجال دين بالمفهوم الغربي المسيحي، فليس عندنا رهبان ولكن عندنا مرشدون ودالون على الطريق يعرفون أن الإسلام نظام كامل للحياة (إذ تكفل للذين يفتخرون بالانتساب إليه بوضع نظام قائم على العقل والمنطق لحياتهم الدنيوية والأخروية ووضع الأحكام لذلك) (رجل القدر – ص41)
إن الحرية التي كفلها الدين لا تقوم إلا على الحق وعلى الصدق والمحبة، بحيث تتلاشى فيه الامتيازات غير الطبيعية لفئة على أخرى من بين الناس.
ولا يخدعن أحدا أن يرتدي التحلل الأخلاقي أو التخلي عن الآداب الدينية رداء الحرية، لأن الافتراء سرعان ما يظهر أمره والمكر والكيد لا يخفى سره كثيرا، ولو كان الإيمان بالتمنى لفعل العلماء العاملون ما قاله الشاعر حين قال:
ولولا تكـاليف العـلا ومقـاصد غوال وأعقاب الأحاديث في غدى
لأعطيت نفسي في التخلي مرادها وذاك مرادي مذ نشأت ومقصدي
إن الحرية الشرعية تدفع المسلم لأن يعتز بكرامته الإنسانية، فليس هو عبدا إلا لله وحده، فهي من خصائص الإيمان لا يذوق ثمرتها إلا من عرف الإيمان والالتزام حق المعرفة، وكل من أسلم وجهه لله حسن عمله، له من الحرية الشرعية نصيب، بقدر ما في قلبه من إيمان وما في عمله من إحسان.