بقلم: الشيخ جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

كنا نود أن نستظل نحن والقارىء الكريم في ظل النسمات الإيمانية التي ستنعش النفوس وتحي القلوب مع قدوم شهر رمضان المبارك أعاده الله علينا وعلى الأمة الإسلامية والأحوال غير هذه الأحوال، لتنعم بلاد المسلمين ببعض الاستقرار الذي افتقدته فترة طويلة، لكن الأحداث الدامية التي تتطور وتزداد سوءاً يوماً بعد يوم في العراق تفرض علينا متابعة الحدث، وإبراز ما نعتقد صحته إبراءً للذمة أمام الله، ثم لدماء الطفولة البريئة الطاهرة التي راحت ضحية السيارات المفخخة العمياء والتي يبدو عليها أنها لا تجيد غير اصطياد دماء الأبرياء.

       إن الحركة الإسلامية ومنذ غزو الكويت عام 1990 لا تزال تدور في دائرة مفرغة بسبب عدم الوضوح الكافي في المواقف تارة، والتذبذب في اتخاذ القرار المطلوب تارة أخرى، والموازنات التي تحاول مسك العصا من المنتصف، فلا هي طالت بلح الشام ولا عنب اليوم.

       نحن نتحدث اليوم ويتساءل معنا كل الأحباب عن صاحب إحياء فقه الدعوة الأستاذ المفكر محمد أحمد الراشد أحد أبرز منظري الحركة الإسلامية المعاصرة وصاحب أهم المؤلفات في إحياء فقه الدعوة في النصف الثاني من القرن الماضي، وهو العراقي الجنسية العالمي العطاء والذي امتاز بالغوص في كتب التراث والخروج بقراءات معاصرة لها تحي فقه الدعوة وتؤطرها ضمن لوحة جمالية فيها من ذوق الكلمة وأدب الأسلوب ما تجعل القاريء يتأمل فقراتها كلوحات زيتية هي للتأمل والإعجاب أقرب منها للقراءة وإعمال الفكر.

      

 تملك الحركة الإسلامية في العراق أهم مفاتيح حل معضلة المثلث السني، ووضوح مواقفها سيحرم المرتزقة وبقايا البعث من الشرعية التي لا يستحقونها.

لقد كتب الشيخ محمد أحمد الراشد كثيراً في فقه الفتن ولديه من المؤلفات القديمة والجديدة ما يعتبر رصيداً هاماً في هذا الباب00 ولو حاولنا اختيار بعضاً منها لذكرنا القارىء بكتابه “العوائق” فصل “دماء على المصحف” تعليقاً على فتنة قتل الخليفة الراشدي عثمان بن عفان حيث كتب معلقاً:” فبربك: أهذا خلاف بين مسلمين أم مجزرة شيوعية كمجزرة الموصل؟ هكذا أعداء هذا الإسلام دوماً، يريدون قطع رأس الجماعة وكسر أضلاع تنظيماتها، والمبرر: (لله) وبصيحة (لله) هذه ضاعت ألوف من شباب الدعوة بالأمس القريب، وثبطت جموع، وكشفت أسرار، وملئت سجون”.

وفي كتابه التربوي القيم” منهجية التربية الدعوية ط2002م الفصل الثالث: الكتلة الأخلاقية ص53″ يقول:” ولئن كان العمل الإسلامي يتصف برفع الصوت أحياناً والتحدي والمواجهة، فإن الحكمة، وقوانين فقه الدعوة تلزمنا أن يكون علمنا الدائب صامتاً في أحيان أخرى، وأن يكون متحلياً بالعزة الإيمانية، وإنما برفق، وأن نمهر في إجراء الموازنات المصلحية والمقايضات النسبية، فليس هناك من الوسائل والمواقف والخطط ما هو خير محض ونفع عام، أو شر مغلق وضرر من كل وجوهه، ولكن يشاء الله أن تختلط المصالح بالمفاسد دائماً.

فيكون حرص الداعية الفقيه في أمر دعوته أن يوازن الموازنات الدقيقة وأن يتحرى طريق الالتفاف إذ صعبت الطرق السالكة، وأن يسري ليلاً إذا أرهقته شمس النهار، مع صبر وتحمل وتجمل، دون جري مع العواصف والحماسة اللاهبة التي تتهم الموقف الحكيم بالخنوع، ومن غير داع أن ندع رجل الشارع يسير بنا إلى حالات الحرج والمصادقة، فإن رجل الشارع تقوده العواطف، ونحن يقودنا التخطيط والنظر البعيد والفكر الموزون00″ انتهى.

       وفي مقدمة موسوعته الفريدة “أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي” والتي تقع في حوالي 1500 صفحة تضمها أربعـة أجزاء يقـول الشيخ حفظه الله:” كانت لنا جولة استقرائية في كتب الشريعة جمعنا لك عبرها طائفة كبيرة من الأمثلة التطبيقية لهذه القواعد والأصول ذكرها الفقهاء، ثم أردفنا ذلك بوصف أحوال دعوية تفصيلية كثيرة ساعدتنا على اكتشافها وتسميتها ممارسة طويلة داخل الصفوف الدعوية تقلبت بنا خلالها المراحل وتنوعت فيها البلدان والمجتمعات، ثم خلطنا كل ذلك في مزيج واحد، مع تعقيب ومعاملات ومفاتيح للنظر، ووضعناها بين يدي من يريد أن يفهم صنعة الاجتهاد في فقه الدعوة، نعينه على أن يفتي نفسه والدعاة الفتاوى المناسبة لكل قضية جزئية جديدة تطرأ في الحياة الدعوية، وإذا لم يكن من أهل الاجتهاد فتعينه على أن يفهم منطق الدعاة المجتهدين، وخلفيات إفتائهم”.

       نسرد هذه المقتطفات من كتابات الشيخ الراشد، ونحن ندرك  أن له صولات وجولات داخل العراق، ومقابلاته ومقالاته منذ سقوط النظام السابق وحتى اليوم منتشرة في الصحافة العراقية، ونريد لهذا الصوت بتجربته الميدانية وأفقه الواسع أن يعلو إلى سماء العالم الإسلامي ليسمع صوت الحزب الإسلامي في العراق وليعلن موقفاً حازماً حاسماً وواضحاً يضع فيه النقاط على الحروف، وهي مهمة لها الأولوية اليوم ومسؤولية تقع على عاتق الحركة الإسلامية بشكل عام، وعلى عاتق الحركة الإسلامية العراقية وخاصة الحزب الإسلامي بشكل خاص.

       فما يحدث اليوم من زج للحركة الإسلامية في متاهات الفتن والأزمات  لا يحمد عقباه، وكل خبير بواقع الحركة الإسلامية المعاصرة وتجاربها يحذر من الحالة الهلامية المائعة في مواقفها التي تنحى ناحية التوافق كبديل عن الوضوح.

       إن الفتن التي تجري في العراق واستحلال الدماء البريئة وغير البريئة لن يوقفها لا الحرس الوطني العراقي ولا المجلس الوطني العراقي ولا قوات الشرطة العراقية ولا حتى الجيش الأمريكي الذي يحارب  في العراق “عن بعد” لأن الشق الأمني وحده غير كافي لحوار “العقول” التي تقف خلف سلاح العنف في العراق، ولا بد للحركة الإسلامية العراقية أن لا تسقط في هوة إعطاء الشرعية لجهات تفسد أكثر مما تصلح وذلك بسكوتها عما يحدث واتخاذها مواقف هلامية غير محددة الملامح حرصاً على عواطف رجل الشارع العادي الذي سيكتشف بعد حين سراب النتائج الذي تأتي بها مثل هذه المغامرات غير المؤصلة شرعياً، وبعدها سينفض عن الحركة الإسلامية وأدبياتها لأنها لم تقف الموقف الواضح البين  وانساقت وراء عواطف رجل الشارع، ففقدت معنى “التوجيه والقيادة” فانتفت حاجة الجماهير لها.

سيناريو مزعج

       إن الحزب الإسلامي العراقي وبما لديه من كوادر تعب كثيراً في تربيتها وحرص عليها من الأذى أيام النظام السابق، وبما له من خبرة قيادية وإدارية وشخصيات تتمتع بالحنكة والإخلاص ولا نزكي على الله أحداً مدعوة ببساطة للقيام بتوجيه دفة الأحداث نحو المواقف الأصيلة للحركة الإسلامية، وخصوصاً إن هيئة علماء المسلمين التي تمثل السنة في العراق قد تكونت حديثاً ولا سابق خبرة لديها، وربما يقودها مجموعة من الوعاظ والخطباء الذين تقودهم العاطفة وإغراء الوقوف أمام الجماهير فوق المنابر دون امتلاك الموازنات الفقهية والدعوية، ليطلقوا التصريحات العنترية والحماسية التي سيدفع العراق ثمنها فادحاً.

ولا نجد أدل من ذلك دعوتهم للشرطة العراقية للتمرد على قيادتهم، وهذا لو حصل سيدخل البلاد دوامة من الفوضى يضيع فيه فقه أقل المفسدتين وأعظم المصلحتين، بل وتتعدى المسألة إلى ما هو أخطر من ذلك وهو إلغاء دور السنة السياسي وتهديد كيانهم بسبب هذه الممارسات الرعناء غير المدروسة، وما تصريح الإدارة الأمريكية بإبعاد المثلث السني عن الانتخابات إلا مؤشر خطير عما ستؤول إليه الأمور إن استمر الوضع الحالي عن مساره المتقلب، ولو طبق هذا القرار يمكننا تخيل السيناريو التالي:

السيناريو المتخيل بوجهه المرعب

“تتم الانتخابات سواء في بداية السنة القادمة أو بعد ذلك، وتأتي حكومة منتخبة ومجلس منتخب يغيب فيه الاتجاه السني الحركي!! وتغلب على تشكيلته السياسية الاتجاهين الشيعي والكردي!!، ويتحقق ما ذكره أحد الرموز الكردية عندما قال بصريح العبارة وهو في زيارة لإيران:” لقد حكم العراق فترة طويلة الاتجاه السني العربي وآن الأوان للعراق اليوم بأن يحكم بالاتجاه الشيعي الكردي”.

       ونحن لسنا هنا في معرض الاعتراض على أن ينال كل تيار وعرق واتجاه حقوقه الوطنية في العراق، ولكننا ضد  التقسيمة الطائفية والعرقية المسبقة للموضوع خصوصاً إن الأكراد في النهاية  في غالبيتهم من السنة0

وهكذا يتكرر سيناريو الإلغاء المتبادل بين الأطراف العراقية، دعونا نكمل خيالنا المزعج: سيخرج من انتخابات المجلس والحكومة حفيد ذلك الكردي الذي قُتل أبواه في حلبجة، فيتبوأ منصباً في الحكومة، وذلك الشيعي الذي طُرد أبواه ظلماً خارج العراق أيام الحكم الصدامي، ليتبوأ منصباً في المجلس الوطني، وتبدأ الثارات السياسية، ويُستهدف المثلث السني بالعراق وتدور الدائرة على المثلث السني فيتم تهجيرهم خارج العراق باعتبار أن لهم أصول “من الحجاز والجزيرة العربية” كما فعلها صدام مع الشيعة بزعم أن لهم أصول من بلاد فارس وطردهم من العراق بلاد آبائهم وأجدادهم باعتبارهم عملاء وخونة للعدو وكذلك تضرب المناطق السنية المستعصية على الحكومة المنتخبه بالكيماوي في إطار الحملة على الإرهاب!!؟ وسيسكت العالم باعتبار أن هذا أمر داخلي عراقي، وصدام وفعله دليل فالتاريخ يتكرر وتختلف الأسماء والأماكن.

       فقد قام صدام  بفعلته هذه للأسف وسط صمت مطبق من الدول العربية والخليجية وذلك حينما رحلت عشرات الألوف من الأسر العراقية بين ليلة وضحاها ورميت على الحدود الإيرانية بعد أن استولت الحكومة العراقية على ممتلكاتهم وصادرتها، ولم يتكلم أحد في الموضوع على طول الوطن العربي وعرضه باعتبار أنه شأن داخلي، وإكراماً لعيون صدام حسين فارس العروبة الذي يحل له ما يشاء حفاظاً على عروبة العراق وقوميته وقادسيته المجيدة وهكذا سيسكت الجميع ويعم الصمت من أجل وحدة العراق واستقراره والأمن فيه!!؟.

       هذه الصورة المرعبة التي أترك للخيال أن يتسع في رسم صورتها لو تصورتها العقول السنية الناضجة لما مضت في هذا التصعيد ولسنا هنا ندعو إلى الاعتراف بالمحتل أو تزكية احتلاله ولكننا ندعو إلى نظرة واقعية قبل اتخاذ القرار. 

       فهذا السيناريو المتصور يمكن أن يقترب من الحقيقة إذا ما انجرت الحركة الإسلامية لهذا النفس التصعيدي الذي يقوده البعض وتنجر له هيئة علماء المسلمين السنة في العراق، وليت المثلث السني تأمل في النقلة الفجائية لمقتدى الصدر من محاربة الأمريكان ورفض وجودهم في العراق إلى إعداد البرنامج السياسي لحزبه والمشاركة في التجربة الانتخابية، فنحن في النهاية لا نريد للحركة الإسلامية وكالعادة أن تكون جسراً يعبر عليه الآخرون نحو مفاتيح القرار والسلطة، بينما هم بحماستهم البدائية ونواياهم الطيبة في عالم مليء بالذئاب والنوايا الخبيثة سيحصدون الريح وينتهون إلى خارج اللعبة، بينما يطعم المجلس القادم ذو الاتجاه الشيعي الكردي بوجوه سنية ذراً للرماد في العيون لكنها كأصنام التمر ستؤكل عندما يجوع من صنعها، فهي في النهاية لا “تهش ولا تنش” فتكمل المثل، فيكون في العراق من يأكل المش وآخر يعلم الغش، وثالث لا يهش ولا ينش، بينما يبقى المثلث السني سادراً في أحلام اليقظة وأوهام الزرقاوي بإقامة دولة “حكم الشريعة في المثلث السني”.  

                  الحركة الإسلامية بين نموذجين

       إن الحركة الإسلامية في العراق اليوم على مفترق طرق وعليها أن تختار بين نموذجين وتحسم أمرها إلى أي الخيارين ستنحاز، لأن هذا الانحياز المبكر سيكون مفيداً في الخروج من فتنة الواقع الحالي الذي يضيع معه كل تهديف سياسي لأي عمل حركي وحزبي في واقع العراق اليوم، الذي يضع مستقبله على نار في غاية السخونة والحرارة.

النموذج الأول: النموذج المصري، فكلنا يعرف تجربة الحركة الإسلامية الأصيلة في مصر المعمورة مع شكري مصطفى عندما كفر المجتمع المصري، وكفر كل من لم يكفر الكافر، وحكم  بلوازم ليست بلوازم فزعم بكفر جمال عبدالناصر وكفر من لم يكفر جمال، وبناء على هذه الرؤية لشكري مصطفى أصبح مسلسل قتل الناس وسرقة أموالهم مباحة باعتبارهم كفار، ولتبدأ بعدها سلسلة من الاعتقالات في صفوف الحركة الإسلامية، لكنها رغم ذلك حافظت على بقاء الحركة الإسلامية في مصر واستمرت في نشر الدعوة والحفاظ على بنيانها ومؤسساتها من الانهيار لسبب أساسي وجوهري وهو أن الحركة الإسلامية هناك اتخذت قراراً هو من أحكم قراراتها في مسيرتها الدعوية، وتجنبت سياسة النعامة ودفن الرؤوس في الرمال، فقامت وبكل وضوح وتحمل للمسؤولية بالتصدي لهذا الفكر التكفيري، وتعاملت مع هذه الظاهرة بكل حسم ووضوح فحاربت هذا الفكر الدخليل وتبرأت منه، وأصدرت إصدارات عديدة تبين خطأ المنهج الاستدلالي لهذا الفكر.

       وكان أبرز تلك الإصدارات كتاب “دعاة لا قضاة” للمرشد الراحل حسن الهصيبي رحمه الله فوضع الحروف على النقاط، وتبعه الأستاذ المفكر سالم البهنساوي بكتابه القيم “الحكم وقضية تكفير المسلم” وقد عانت الحركة الإسلامية وهي تتخذ هذا الموقف الواضح من ثلاث جهات:

الجهة الأولى: شباب الحركة المتحمس والذي يريد خدمة الإسلام والدعوة، حيث اتهم الحركة بالضعف وعدم الجرأة وفقدان الحركة للمبادرة وهم يرون تلك المواجهات الذي يقوم به الفكر التكفيري مع السلطة، دون إدراك منهم لسنن التدافع والمصلحة وبهذا واجهت الحركة ضغوطاً من داخل صفوفها ورغم ذلك لم تتراجع عن ما اعتبرته هو الحق الواجب الثبات عليه.

الجهة الثانية: الحركات الجهادية والتكفيرية التي اعتبرت موقف الحركة موقف مهاون متخاذل وأن الحركة أصبحت تصب في جيب الحكومات والأنظمة وأنها فقدت مبرر وجودها كحركة إصلاحية في وجه الطاغوتية والاستبداد، وبالتالي أصبحت أدبيات تلك الجهاد تصف الحركة الإسلامية وهي حركة الإخوان المسلمون أنها حركة جامدة تقليدية عاجزة عن المبادرة، وانتهت صلاحيتها للبقاء والتغيير.

الجهة الثالثة: السلطات الحاكمة التي رأت في الفكر التكفيري فرصة ذهبية للانقضاض على الجميع، واستعمال هذا الخلاف المستعر في ضرب الجميع والخلاص من كل تلك التيارات.

   

دعوة هيئة علماء السنة لتمرد الشرطة العراقية على الحكومة تصريحات حماسية عنترية سيدفع العراق ثمناً فادحاً لو استجيب لها.

ورغم كل هذه الضغوط والتداخلات بين تلك الجهات الثلاثة استمرت الحركة على منهجها الواضح، فخسرت على المستوى القريب كما اعتقد البعض في حينها أنها خسارة للحركة الإسلامية وتراجع عن واجبها الديني، وما هي بالخسارة في حقيقة الأمر، كما ربحت على المدى البعيد ولم يصبها من هذا الموضوع إلا الأذى الذي نال اتباعها ودعاتها وهي ضرية متوقعة لمن يسلك هذا الدرب الذي لا يسلكه إلا الرجال وأي رجال.

       وهكذا حافظت الحركة على نهج الإمام حسن البنا في الوضوح وعدم المداهنة في الحق، وهذا ما كان الإمام البنا دائماً يوضحه في رسائله إلى الإخوان، حيث كتب في رسالة إلى الشباب:” أيها الشباب: على هذه القواعد الثابتة وإلى هذه التعاليم السامية ندعوكم جميعاً، فإن آمنتم بفكرتنا، واتبعتم خطواتنافهو الخير لكم في الدنيا والآخرة وإن ابيتم إلا التذبذب والاضطراب، والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة، فإن كتيبة الله ستسير غير عابئة بقلة ولا بكثرة “وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم”.

       فمنهج الوضوح هو الذي حمى الدعوة من الانهيار في مصر، وهؤلاء الذين انتقدوا الحركة الإسلامية انتهوا إلى ما بدأت به الحركة، لأنهم لم يفرقوا بين المداراة والمداهنة.

       وهكذا عصت الحركة الإسلامية في مصر على من أراد بها المكر والتصفية، وتكرر هذا الموقف في حركة جماعة صالح سرية عندما حاولت احتلال الكلية العسكرية وهي كلية من بين عشرات الكليات المتناثرة فوق أرض مصر، فكانت حركة غير واعية استلزمت أيضاً  الوضوح في المواقف من جانب الحركة الإسلامية في مصر.      

نموذج آخر

       أما النموذج الآخر من تجارب الحركة الإسلامية، فهي التجربة المريرة للحركة الإسلامية في سوريا، حيث قام مروان حديد رحمه الله باندفاعة الشباب وحماستهم بعمليات جهادية هناك، ولم تستطع الحركة أن تنكر ما قام به بوضوح وحسم، أو تفاصله أو تضع الضوابط التي تمنع هذا  الإقدام غير المدروس مهما حسنت النوايا، وخلصت، وظلت الحركة الإسلامية في سوريا تراعي مروان حديد وعلى استحياء، فلم تقم بأنكار ما قام به، حتى جرها إلى دوامة العنف، ودخلت الجماعة في مواجهة غير متكافئة كانت نتيجتها وبالاً على الجماعة والدعوة بكل المقاييس حيث اضطربت وتحت ضغط شباب الدعوة ومطالباتهم الحماسية الاستجابة إلى إغراء المواجهة، حتى كانت المحصلة النهائية ألواناً من الفتن، فسالت دماء وهتكت أعراض ودمرت بيوت وهجرت عوائل وأسر شريفة عفيفة، وافترقت السبل بالعوائل وفقدت الدعوة هناك كل مكتسباتها وتوزعت قواعدها وقيادتها في الدول العربية والأوروبية، ولا زالت جراح تلك الأحداث حتى بعد مرور أكثر من عشرين عاماً لم تندمل، مع معاناة مستمرة ومأساة لا يعلم مداها إلا الله، وكل ذلك بسبب عدم الحزم في مسائل تحتاج إلى وضوح لا إلى مداراة ومجاملة، وإلى تقدير عواقب الأمور والحفاظ على بيضة الدعوة ومكتسباتها لا إلى إقدام غير مدروس انتهى إلى ما انتهى إليه.    

حتى لا تتكرر المأساة

       نقول على الحركة الإسلامية في العراق إذا أرادت أن تتجنب مصير أختها في سوريا أن تكون حاسمة وواضحة تجاه بعض من يخلط الأوراق بين الجهاد والخطف والقتل للمدنيين من العراقيين وغيرهم، ويعطي فرصة للقوات الأمريكية المحتلة أن تقصف بالطائرات مبررة هذا الفعل بالبحث عن الإرهابيين وضرب المقاومة ، ويمارس العنف المدمر بدعوى مقاومة المحتل، فيكون ضحاياه من الأبرياء وغيرهم، مما يزيد من نفور الناس حولهم، كما إنهم لم يجيروا هذه المقاومة لأهداف سياسية قابلة للتحقيق، وبالتالي تصبح قراءتهم لمجمل الوضع غير سليمة ونتائجها طائشة، بينما الآخرون يقفزون على السلطة وحكم القرار، وتتحول الحركة الإسلامية من الحفاظ على كوادرها التي تعبت عليهم طوال ثلاث عقود وحمتهم من طيش النظام السابق واعتقالاته إلى مجموعة من المهجرين واللاجئين في أراضي  الجزيرة العربية والدول العربية والمهجر لأنها ستحمل كل اجتهادات المثلث السني  الصالحة والطالحة، وهكذا تكون الحركة الإسلامية في العراق قد نجحت في اختبار الديكتاتورات وفشلت في اختبار الحريات وهذا بالضبط ما لا نريده لمصير الحركة!!.

      

 كان الإمام حسن البنا يحرص على الوضوح في عرض أفكاره، فمن آمن التحق، ومن تردد افترق.

نقول حتى لا نصل لهذا السيناريو، وحتى لا تسيل الدماء على المصحف من جديد أناشد الأستاذ محمد أحمد الراشد، أن يكون له موقف معلن أكثر وضوحاً يصل إلى كل أنحاء العالم العربي والإسلامي من خلال بيان معتمداً على دراسة المعطيات الحالية وقياس الفرص والمخاطر والتأمل في سيناريوهات المستقبل، لوضع النقاط على الحروف، وحتى لا تكون الحركة الإسلامية في العراق ضحية فلول البعث وفدائيي صدام وقطاع الطرق الذين يقومون بأعمال العنف وتثوير المثلث السني بدماء الأبرياء فهؤلاء لا ذمة لهم ولا عهد واليوم  إن كانوا يقبضون من جهة ثمناً لهذه الأعمال التخريبية فغداً سيقبضون من الجهة الأخرى وينقلبون على الحركة الإسلامية عندما يجدون دوراً جديداً لهم في الأوضاع المستجدة.

ولهم في سيدهم المسجون خير عبرة وعظة، فهو الذي أراد إعادة شط العرب إلى العراق، وبعد ملايين الضحايا ومليارات الدولارات عاد إلى التسليم بنصف الشط مجاناً هكذا إلى إيران، وبعد أن أراد أن يكون شوكة في عين الخميني عاد وكتب رسالة إلى حكام إيران يبدي ندمه على أن الخميني مات وهو غير راض عنه!، وبعد أن كان يقول لجنوده على الجبهة إن كل رغيف يأكلوه نصفه من الكويت، عاد ودخلها بليل أسود بهيم، وبعد أن كان يعادي الأمريكان ليل نهار، عاد وقبل سقوط حكمه إلى المفاوضات السرية ليسلم لهم بكل شيء النفط وثروات العراق والتطبيع مع إسرائيل ولكن بعد فوات الأوان.

وإنني هنا أحذر أصحاب العقول والعقيدة الصحيحة من أهل العراق من الفكر التكفيري، فهذا الفكر وكما أثبتت الأحداث السابقة لا يقف عند حد، فهم يكفرون الأمريكان ابتداءاً ثم يكفرون من تعاون مع الأمريكان ثم يكفرون المواطن العراقي الذي يسعى خلف لقمة عيشه، والمواطن الذي يذهب بأولاده إلى مدارس الحكومة، ثم يكفرون هؤلاء العمال المساكين الذي ألقى بهم حظهم السيء إلى العراق، ثم يأتي بعد التكفير استحلال الدم، وهكذا حتى يصلون إليكم فتنالكم “بركة” تكفيرهم لكم ثم يبدأون بتصفية قواعدكم وكوادركم وساعتها ستدركون خطأ فرضية التسويف وعدم حسم الأمور، ولكن بعد أن ينالكم نصيب من السيارات المفخخة والقنابل الموقوتة وعندها ستقعون بين فكي الكماشة من فلول البعث الذين يقبضون من بعثي الخارج الذين هربوا بمليارات الدولارات وجيروها لعدم هدوء الوضع في العراق، بناء على مقولة سيدهم: لن أترك العراق إلا أرضاً محروقة، وانسجاماً مع قول الشاعر:

                     إذا مت عطشاناً     فلا نزل القطر

ونحن نحذر من تدمير العراق وتفجيره لوجود ثغرات عديدة في الأوضاع الحالية ومنها:-

أولاً: وجود المحتل الأمريكي وضرورة مقاومته.  

ثانياً: استكمال تصفية الحساب في الذي بدأ في أفغانستان ونشهد جولته الثانية في العراق، حيث أن حرب أفغانستان لم تنتهي، وإنما تغيرت بعض الوجوه وأرض المعركة.

ثالثاً: استغلال الوضع العربي الذي يكن حقداً دفيناً وكرهاً مقيتاً على مستوى الشعوب ضد الولايات المتحدة وازدواج معاييرها واستهدافها ثروات الأمة.

رابعاً: التحريض الرخيص الذي تقوم به الفضائيات لتغذية دوامة العنف التي تزداد يوماً بعد يوم.

خامساً: استغلال عواطف الشباب المسلم في كل مكان، ومحاولة استدراجهم عبر الحدود المفتوحة لحرقهم في محرقة العنف هناك، حيث تقول لهم: ما رأيك بعد ساعة أن تكون في الجنة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، هكذا بكل بساطة

سادساً: استغلال الدعم المالي الذي يقدمه فدائيي صدام وفلول البعث وبعض الدول المجاورة التي تتخذ من العراق وسيلة دفاع متقدمة عن مصالحها ووجودها.

سابعاً: حالة البطالة المرعبة التي يعيش فيها الألوف من الشباب العراقي ومحاولة تجنيد العديد منهم في السيارات المفخخة وأعمال التفجير.

ثامناً: استغلال حالة الصمت التي تبديه المراجع الإسلامية والحركة الإسلامية تجاه ممارسات الفكر التكفيري في العراق واعتبار هذا الصمت موافقة ضمنية على ما تقوم به في الأراضي العراقية.  

 نريد من صاحب إحياء فقه الدعوة وصحبه الكرام وضع النقاط على الحروف حتى لا تكون الحركة الإسلامية في العراق ضحية فلول البعث وفدائيي صدام وقطاع الطرق.

كلمة حق

آن الأوان للحركة الإسلامية أن تخرج من حفرة المثلث السني وتعيد ترتيب حساباتها حتى لا تبقى أسيرة العواطف والأمنيات، وأن تقول كلمة الحق متى ما كانت مهمة ولا تغتر بصلاح البعض ولا بكثرة عباداتهم ولا بإخلاص نواياهم.

كما إن الصلاح والتقى الفردي لا ينبني عليه بالضرورة امتلاك الأدوات اللازمة للعمل الجماعي، وإلا لكانت الصوفية أنحج الناس بالعمل الجماعي، فهذا ميدان آخر يحتاج إلى رؤى وتصورات ودراسات ونظر وتأمل وتفكير يعين عليه القلب النقي والنوايا المخلصة لكنها لوحدها لن تصل بنا إليه.

وليكن للحركة الإسلامية العبرة في تعامل سيدنا علي رضي الله عنه مع الخوارج فلم يغتر بكثرة صلاتهم وصيامهم وقيامهم وعبادتهم، وقام بقتالهم، فأمر المسلمين والإسلام وحماية الخلافة ومصالح المسلمين أولى من مداهنة هؤلاء على الباطل، ولو كانت في وجوههم من أثر السجود كخفاف الإبل.

فاليوم القرار يا أحبابنا في العراق أفضل من أن يكون في الغد، وتذكروا الحديث النبوي الشريف “سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”[1].    

 

 

[1] حديث حسن رواه الحاكم والطبراني، وصححه الألباني ح/374.