بقلم: الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

الإيجابية

       من صفات داعية المرحلة الرئيسية صفة الإيجابية، فحركة الداعية إلى الله وإن انتظمت في جماعة أو مؤسسة أو هيئة إسلامية، إلا أنه ليس رهين الآخرين وتوجيهاتهم في الدعوة إلى الله، فإن أصدروا توجيهاتهم الدعوية قام بتنفيذها وإلا فلا، فهذا يتنافى مع فردية التكليف، فالحساب والعقاب والثواب لا يكون إلا فردياً، وعلى الداعية أن يستذكر أنه سيحاسب يوم القيامة على أعماله، وعما قدم ولا يسأل عن الآخرين، فقد يكون لهم من الأعذار ما ليس عنده، وعليه  وهو يسلك طريق الدعوة أن يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة أمام عينيه، ولا يكون مغبوناً بضياع صحته وفراغ وقته فيما لا يفيده في دنياه وآخرته.

 الداعية ليس رهين الآخرين وتوجيهاتهم الدعوية فقط، فهذا يتنافى مع فردية التكليف والثواب والعقاب.

وكلنا يعلم كم استفادت الدعوة في أيامها الأولى من إيجابية الصحابة رضوان الله عليهم، فالإيجابية هي التي دفعت سلمان الفارسي ليقترح مما تعلم من قومه حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وقبلها كيف اقترح الحباب بن المنذر موقع غزوة بدر ومنع الماء عن المشركين، وبعدها كيف خطط أبو بصير لحرب عصابات ضد قريش دون أن يحرج المسلمين في بنود صلح الحديبية، ولولا الإيجابية والمبادرة والاندفاع الذاتي لم يبادر عبدالله بن عمرو لتدوين الحديث، ولا تعلم زيد بن ثابت لغات العبرانية والسريانية التي تعلمها في سبعة عشر يوماً فقط، ولقد سئل أحد العلماء وهو يضع فردية التكليف أمام ناظريه:” إلى متى تظل تكتب العلم؟ فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تكتب بعد، ولذلك كان شعار الدعاة الصادقين في المبادرة واستغلال الوقت  والبذل والاجتهاد قوله تعالى:فإذا فرغت فانصب“.

فالنبي صلى الله عليه وسلم  كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان ابن عباس يقول:” إذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، والحسن يقول: إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة، مع التأكيد على المداومة والاستمرارية، فكم من داعية فتر بعد حماس، فالاستمرارية أحد مظاهر صدق النية وسلامة القصد، وليحذر الداعية أن يزهد في الأجر ولو كان العمل بسيطاً، فلا تدري أي كلمة طيبة فيها الفائدة والرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه يقول:” سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وإن أحب الأعمال أدومها إلى الله، وإن قل”.     

ويروى في أثر الكلمة أن أبو عبدالله  زاذان الكندي كان يضرب ويغني بالدف، وكان له صوت حسن فمّر عليه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال كلمة طيبة لا منفرة ولا مستنكرة حتى وقعت في قلب الرجل عندما قال له ابن مسعود:”ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله” فتاب الرجل من ضرب العود وكسره ولازم ابن مسعود حتى صار إماماً في العلم، وأصبح يعرف بالتابعي الكوفي الثقة، فالكلمة الطيبة ما هي إلا مبادرة إيجابية لزرع بذرة الخير في النفوس.

 قد يتقن كثير من الدعاة  أساليب الدعوة، ورغم ذلك قد يخطىء في تقدير الأمور لأن بضاعته فقيرة في فقه المقاصد وفقه الأولويات.

وفي الحديثالذي رواه البخاري، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يقلى لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم“.

ومن الإيجابية الأخذ  بأسباب النجاح وعوامل النجاح موجودة وليس على الداعية إلا الأخذ بها منها:-

1- أن تكون الدعوة سائرة على الحق والفطرة ليسهل تقبلها وتسكن لها النفوس.

2- ثقة الداعية بدعوته.

3- تعريف الناس بدعوته فكثيراً ما ينكر الإنسان شيئاً لعدم اطلاعه عليه، أو معرفته بدليله. 

       وقال العلماء:” ما كان بالكوفة أحسن رداً للآثار من الإمام النخعي لقلة ما سمع منها، ولا أكثر اتباعاً لها من الإمام الشعبي لكثرة ما سمع منها”.

الاعتبار بسنن التاريخ

       وإذا كان جزء كبير مما أوردناه من صفات الداعية في الفقرات السابقة تصب في العمل الدعوي الفردي، وهو يحتاج إلى تكتيكات ناجحة ومواصفات شخصية لامعة لنجاح الداعية في عمله، فإن العمل الجماعي الدعوي يحتاج إلى استراتيجيات ناجحة، ومنها عدم تكرار أخطاء الماضي وتجاهل تجارب السابقين والشذوذ عن سنن التاريخ في الأمم والجماعات، فهناك فرق كبير في النتائج والآثار بين من يكرر نفس العمل ونفس الأخطاء ليصل إلى نفس الطريق المسدود وبين من يراكم التجارب ويستفيد من الأخطاء ليجد طرق بديلة عن الطريق المسدود، ولنا في التاريخ ومروياته ومصير الأمم والجماعات دروس نستخرج منها العبر والعظات والتجارب في تعاملنا مع واقعنا ومستقبلنا مع الأخذ بعين الاعتبار باختلاف المعطيات والبيئات وآثار الزمان وضوابط المكان، قال تعالى:[ فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا][1]، وقال سبحانه:[ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها][2].

يقول د.عماد الدين خليل:” إن القرآن يطرح على العقل البشري مسألة “السنن” و”النواميس” التي تسيّر حركة التاريخ وفق منعطفها الذي لا يخطىء، وعبر مسالكها “المقننة” التي ليس إلى الخروج عليها سبيل، لأنها منبثقة من صميم التركيب البشري، ومعطياته المحورية الثابتة فطرة وغرائز وأخلاقاً وفكراً وعواطف ووجداناً، ومن قلب العلاقات والوشائج والارتباطات الظاهرة والباطنة في العالم الذي يتحرك فيه الإنسان، والتي تتجاوز في اتساعها وشموليتها نسبيات البيئة الجغرافية، أو الوضع الاقتصادي لكي تتسع للفعل التاريخي نفسه، الفعل القائم على القيم الثابتة الدائمة في كيان الإنسان، حتى لكأن القرآن يلفت أنظارنا إلى أننا نستطيع أن نرتب على مجموعة معينة من الوقائع التاريخية، سلفاً، نتائجها التي تكاد تكون محتومة لارتباطها الصميم بمقدماتها اعتماداً على استمرارية السنن التاريخية ودوامها.

 الوسائل الدعوية لا تتجدد في مختبر النظريات، ولكن في ميدان الدعوة من خلال استقراء الأحداث ومعرفة الفرص والمخاطر.

       إنها تريد أن تقول لنا – باختصار وتركيز بالغين- إن حركة أية جماعة بشرية في التاريخ ليست اعتباطية، وإنها، بما قد ركب فيها من قوى العقل والروح والإرادة – خلافاً لما هو سائد في العوالم غير البشرية- مسؤولة مسؤولية كاملة خلال حركتها تلك، حيث ينتفي العبث واللاجدوى، وحيث تتحرك الحرية من شكلها المهوش المتميع الغامض، إلى عمل مدرك مخطط يقف به الإنسان أمام الله بمسؤوليته تجاه العالم لكي يحقق إعماره ورقيه وتقدمه، وفق ما يجيء به أنبياء الله، حيناً بعد حين، من تعاليم وخطط تأخذ بيد الجماعة البشرية في هذا الطريق”[3].

       فالداعية لا بد له من العمل وفق هذه السنن، لأن النتائج لا تأتي وأسباب والخواتيم لا تأتي بلا مقدمات، لقد ربط القرآن كثيراً من النتائج المتحصلة من إعمال هذه السنن، بالتقوى… فمثلاً: ربط بين التقوى وما تؤدي إليه من بصيرة في النظر للأمور والحكم عليها  بالحق والباطل، والصواب والخطأ… يقول تعالى:” يأيها الذين أمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً[4].

– وهناك ارتباط بين الإيمان والتقوى، وبين اكتشاف سنن التسخير وزيادة الرزق:” ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض[5].

– وهناك ربط بين الإيمان والصبر الإيجابي، وبين تجاوز المحن:” ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين[6]

– وربط أيضاً بين الاستغفار والتوبة، وبين نزول المطر وتحقيق الخير.   

– وهناك ربط بين الانتصار في ميدان المبادىء، والانتصار على الشهوات، وبين الانتصار على العدو.

– وهناك الربط بين الظلم الاجتماعي ومنع الفقراء حقوقهم، وبين فقدان الثروة.

– وهناك أيضا الربط بين الفسق والترف، وبين الهلاك.

– وهناك أيضاً ربط بين غياب العدل، وبين انقراض الأمم والحضارات. 

       والسنن التي تحكم الكون والحياة قدر من قدر الله تعالى كما أسلفنا، والتعرف عليها والانضباط بمقتضياتها هو حقيقة التكليف، وحقيقة الإيمان، والتوكل، وهي مظهر من مظاهر العدل الإلهي.

       وحتى يكون حكمنا صحيحاً على الأحداث وحتى لا نفاجأ بنتائج مخالفة للسنن التي اعتمدنا عليها علينا عدم الخلط بين السنن  الجارية والسنن الخارقة، يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: “وقد تكون المشكلة أو بعض جوانبها، في الخلط  بين السنن الجارية التي تتطلب فعل مقدمات تحكمها نتائج، وبين السنن الخارقة التي لا تخضع للمقدمات والنتائج، ومن ثم الاستشهاد بالآيات التي غالباً ما تنصرف إلى السنن الخارقة، في مجال السنن الجارية، وبذلك خروج عن المنهج، وضياع عن السنن الجارية والخارقة معاً”[7].             

ويتكلم الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه “الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف” محذراً من خطر ضعف البصيرة بسنن الله في خلقه فيذكر منها خطورة ضعف البصيرة بالواقع والحياة فيقول:” فتجد أحدهم يريد ما لا يكون، ويطلب ما لا يوجد، ويتخيل ما لا يقع، ويفهم الوقائع عل غير حقيقتها، ويفسرها وفقاً لأوهام رسخت في رأسه، لا أساس لها من سنن الله في خلقه ولا من أحكامه في شرعه.

 الإيجابية صفة أساسية للداعية، وعندما سئل أحد العلماء : حتى متى تكتب العلم؟ أجاب: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تكتب بعد.

ولو رجع هؤلاء إلى السيرة النبوية لوجدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظل ثلاثة عشر عاماً في مكة يدعو ويربي، والشرك ضارب أطنابه عن يمينه وشماله، الكعبة البيت الحرام تحيط بها الأصنام التي بلغت نحو (360) صنماً، وهو عليه السلام صلي عند الكعبة، ويطوف بها، وتلك الأصنام من حوله، لم يفكر أن يقوم هو وأصحابه بهجمة فدائية لتحطيمها والخلاص منها، لأنه لو فعل لعرض نفسه وأصحابه للهلاك، لعدم تكافؤ القوى أو تقاربها، ولم تنته بذلك عبادة الأصنام.

ولهذا تركها صلى الله عليه وسلم، واشتغل بالدعوة إلى تحرير العقول بالتوحيد، وتطهير القلوب بالتقوى، وإعداد الصف المؤمن لمعركة فاصلة مع  قوى الكفر المتوثب للفتك، المضمر للسوء، وتربية أصحابه على الصبر الجميل، والنفس الطويل، حتى يأتي  أوان المواجهة  مع الوثبة العاتية وهو آت لا ريب فيه.

وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يأتونه عليه الصلاة والسلام، ما بين مضروب ومشجوج ومجروح، يلتمسون منه أن يأذن لهم بأن يشهروا سيوفهم ويقاتلوا دفاعاً عن أنفسهم، فلا يأذن لهم، ويأمرهم بالصبر وكف الأيدي، حتى يأذن الله بالقتال.

ومن السنن المهمـة التي يغفـل عنها المتحمسون والمتعجلون سنتـان مهمتان هما:

1- سنة التدرج.

2- وسنة الأجل المسمى.

       فأما التدرج فهو سنة كونية، وسنة شرعية أيضاً.

       ولهذا خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، وكان قادراً أن يقول: كوني فتكون، ولكنه خلقها في أيام ستة من ايام الله تعالى، أي في ستة أطوار أو أزمنة يعلمها الله، فليست هي أيامنا هذه إذ هي قبل خلق الشمس والأرض وما يتبعها من ليل أو نهار.

       فهذا من الناحية الكونية، وأما من الناحية الشرعية، فقد بدأ الإسلام بالدعوة إلى التوحيد وتثبيت العقيدة السليمة، ثم كان التشريع شيئاً فشيئاً.

 هناك فرق كبير بين من يكرر نفس الأخطاء ليصل إلى نفس الطريق المسدود وبين من يراكم التجارب ويستفيد من الأخطاء ليجد طرق بديلة.

       فقد فرضت الفرائض وحرمت المحرمات  بالتدرج، كما هو ثابت في فرض الصلاة والصبام والزكاة، وتحريم الخمر وغيرها، ولهذا افترق القرآن المكي  عن القرآن المدني” انتهى.

فقهان مهمان:

مقاصد الشريعة وفقه الأولويات

       فقد يتقن الكثير من الدعاة أساليب الدعوة ووسائلها وخطاباتها وآلياتها وكل أعمالها الشرعية والتفصيلية، وقد يكون الداعية خريج معهد شرعي يلم بكافة النظرات الأصولية، والقواعد الشرعية، لكنه مع ذلك لا يوفق لإتخاذ القرارات في مواقف دعوية معينة قد تتطلب الدقة أو سرعة إتخاذ القرار، أو القراءة الصحيحة لمعطيات الواقع، وذلك لأن بضاعته في فقه مقاصد الشريعة متواضعة أو فقيرة.

كما أن فقه الأولويات جزءاً أساسياً في الممارسات العملية الحياتية اليومية، وهذا أيضاً يعتمد على فهم فقه المقاصد الشرعية وفقه المصالح والمفاسد والموازنة بينهما، ولعل من الثغرات التي تعانيها الدعوة اليوم هو ضياع  فقه المقاصد لدى الدعاة، وتمسك بعضهم بحرفية الوسائل منذ العهد النبوي، بل وبّدع كل من حاول النظر إلى مقاصد الشريعة في المسألة المطروحة دون تجاوز للأدلة الثابتة، ورغم ذلك لم يسلم من النقد والنتيجة المؤكدة ضياع الفرص على الدعوة، فمعرفة مقاصد الشريعة وفقه الأولويات وترتيبها من الأمور التي تحتاج إلى أصالة في العلم والفهم والاستنباط لأن صاحبها سيعيش مع مواضيع أصولية دقيقة التعارض والتساوي والتماثل والتعادل.

وهنا سؤال هام: هل فقه الأولويات إلى الفقه أقرب أم إلى الفكر؟؟

أ- إلى الفقه – فهو مأخوذ من قول العلماء ” خلاف الأولى” وهذا يطلق على ما دون مرتبة المكروه وهو ما يستحسن تركه ولا يعاقب على فعله.

ب- وقد يدخل فقه الأولويات في الفكر لأنه بحث عقلي، لأن العقل هو الذي يحكم بتقديم رأي أو فعل أو تصرف على أخر.

الخلاصة:- أنه يدخل “فقه الأولويات” في الفقه الأكبر كما سمي عند أبي حنيفة “فقه عقيدة- أصول”.

       وعليه يجب معرفة التدافع بين الفقهاء والمفكرين حيث تحول الصراع بين الحكام والفقهاء “أولي الأمر” إلى صراع بين “المفكر والفقيه” من جهة وبين “المفكر والفقيه والسلطان” من جهة أخرى.

       ولذلك رأينا في مسار الحركة الإسلامية أنها سارت بعيداً عن العلماء والمشايخ “حرب العراق والكويت” وبقيت نظرة التوجس قائمة بين الحركيين والعلماء          – ومعرفة هذا الأمر يستدعي أن نكشف  الأرضية المشتركة ونقاط الالتقاء بين الفريقين لأنهم في الحقيقة في خندق واحد “نظرية الخندقة” وهل تنجح فيها الحركة المستقبلية؟

       وهذا يجعلنا ننظر أن ما كتب حول ” أصول  فقه الدعوة” و”أصول فقه الحركة” وهو إسقاط للقواعد الأصولية والفقهية على القضايا الحركية – وهذا أدى إلى نقاط حمراء لا يمكن الإقتراب منها مع أنها اجتهاد بشري وكما أن تحديد “فقه الأولويات” جعل الناس تسير في اتجاه واحد مفروض عليها، فالخلاصة أنه على التربية الأصيلة للشخصية القيادية أن تعطي الأخ مساحة كبيرة من الرأي .    

       ويجب أن يكون هناك تناغم بين  فقه الأولويات والمقاصد “فقه المقاصد يمكن من فهم الوحي وفقه الأولويات يمكن من فهم الواقع – والصحيح أن الدين مركب بين الاثنين[8].

حتى لا يضيع أدب الخلاف

       فلا بد والاجتهادات كثيرة والدعاة العاملين للإسلام يتنوعون فكراً ومواهب وقدرات سواء بشكل فردي أو بشكل جماعي، من الاطلاع على أدب الخلاف، فيعرف الداعية الخلاف المحمود والخلاف المذموم، والفرق ببن الخلاف والتنوع والاجتهاد، ومتى يعذر الداعية أخيه عند الاختلاف، وكيف يقلل الدعاة الخلافات فيما بينهم وكيف يزيدون مساحات الالتقاء، فأدب الخلاف مطلوب حتى لا تكون هناك انشقاقات وتمزق في الدعوة، وتاصيل ذلك علمياً كما ينبغي التفقه في مراتب الأحكام، فكثيراً ما يكون منشأ الخلاف بسبب الاختلاف الفقهي والتكييف الشرعي للمسألة محل الخلاف، يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه ” الصحوة الإسلامية بني الجمود والتطرف:” ومن الفقه الذي يغفل عنه بعض المتدينين: معرفة  مراتب الأحكام الشرعية، وأنها ليست في درجة واحدة من حيث ثبوتها، وبالتالي من حيث جواز الاختلاف فيها.

 التراجع الذي يصيب بعض الدعاة يدفعهم إلى إلقاء اللوم والمسئولية على الآخرين وكأنهم  قاموا بكامل أعباء الدعوة.

       فهناك الأحكام الظنية التي هي محال االجتهاد، وتقبل تعدد الأفهام والتفسيرات، سواء كانت أحكاماً فيما لا نص فيه أو فيما فيه نص ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، أو ظنيهما معاً، وهذا شأن معظم الأحكام المتعلقة  بالعمل، كأحكام الفقه، فهذه يكفي فيها الظن، بخلاف الأحكام المتعلقة بالعقيدة، التي لا يغني فيها إلا القطع واليقين.

       فالاختلاف في الأحكام الفرعية العملية والظنية، لا ضرر فيه ولا خطر إذا كان مبنياً على اجتهاد شرعي صحيح، وهو رحمة بالأمة، ومرونة في الشريعة، وسعة في الفقه، وقد اختلف فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، فما ضرهم ذلك شيئاً، وما نال من إخوتهم ووحدتهم كثيراً ولا قليلاً.

       وهناك الأحكام التي ثبتت  بالكتاب والسنة والإجماع، ووصلت إلى درجة القطع، وإن لم تصبح من ضروريات الدين، فهذه تمثل الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة، ومن خالفها خالف السنة، ووصف بالفسق والبدعة، وقد ينتهي به الأمر إلى درجة الكفر.

وهناك الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، بحيث يستوي فى العلم بها الخاص والعام، وهى التي يكفر من أنكرها بغير خلاف، لما في إنكارها من تكذيب صريح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .

فلا يجوز إذن أن توضع الأحكام كلها فى إطار واحد، ودرجة واحدة، حتى يسارع بعض الناس إلى إلصاق الكفر أو الفسوق أو البدعة بكل من عارض حكماً ما، لمجرد اشتهاره بين طلبة العلم، أو تداوله فى الكتب، دون تمييز بين الأصول والفروع، ولا تفريق بين الثابت بالنص، والثابت بالاجتهاد، وبين القطعي والظني فى النصوص، وبين الضروري وغير الضـروري فى الدين، فلكل منها منزلته، وله حكمه .

لهذا كان من المعاني الكبيرة التى يجب على شبابنا أن يحسنوا التفقه فيها : أن يعرفوا ما يجوز فيه الخلاف، وما لا يجوز، وأن منطقة ما يجوز فيه الخلاف أوسع بكثير مما لا يجوز، وأهم من هذا كله أن يتعلموا ” أدب الخلاف ” وهو أدب ورثناه من أئمتنا وعلمائنا الأعلام، علينا أن نتعلم منهم كيف تتسع صدورنا لما يخالفنا فى فروع الدين؟ كيف تختلف آراؤنا ولا تختلف قلوبنا ؟ كيف يخالف المسلم أخاه المسلم فى رأيه دون أن تمس أخوته، أو يفقد محبته أو احترامه لمخالفته .. ودون أن يتهمه فى عقله أو فى علمه أو دينه ؟

يجب أن نتعلم أن الخلاف فى الفروع أمر واقع، ما له من دافع، وأن لله حكمه بالغة حين جعل من أحكام الشريعة القطعي فى ثبوته ودلالته، فلا مجال للخلاف فيه، وهذا هو القليل، بل الأقل من القليل، وجعل منها الظني فى ثبوته أو دلالته، أو فيهما معاً، فهذا بما فيه مجال رحب للاختلاف، وهو جل أحكام الشريعة، وهناك من العلماء من آتاهم الله القدرة على التحقيق والتمحيص والترجيح بين الأقوال المتنازع فيها، دون تعصب لمذهب أو قول، مثل الأئمة : ابن دقيق العيد، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، والدهلوي، والشوكاني، والصنعاني .. وغيرهم، لكن محاولات هؤلاء من قبل، لم ترفع الخلاف، ومحاولات غيرهم من بعد، لم ترفع الخلاف ولن ترفعه .

ذلك، لأن أسباب الخلاف قائمة فى طبيعة البشر، وطبيعة الحياة، وطبيعة اللغة، وطبيعة التكليف، فمن أراد أن يزيل الخلاف بالكلية، فإنما يكلف الناس والحياة واللغة والشرائع ضد طبائعها .

على أن الخلاف العلمي فى ذاته لا خطر فيه، إذا اقترن بالتسامح وسعة الأفق، وتحرر من التعصب والاتهام وضيق النظر” انتهى .

المسئوولية والوعي بالأحداث

فأخطر ما يمكن أن يصيب الدعاة الأحباط واليأس فيلجأ إلى الجمود والركون والقعود عن العمل للدعوة، وحتى يغطى هذا التراجع يبدأ بسلسلة مطولة من إلغاء اللوم والمسئوولية على الآخرين، ويصبح خطابه مليئاً بنقد الآخرين العاملين والقاعدين فتارة ينسب الضعف إلى الأمة وتارة أخرى إلى الظروف، ومرة ينسب الخطأ والتراجع إلى أعداء الأمة ومرة إلى الأنظمة الحاكمة بينما هو المبدأ من العيوب والقائم بكامل أعباء الدعوة ومهامها، يقول الشيخ سلمان العدوة فى كتابه ” قضايا فى النهج ” وتحت عنوان: يا رجال الإسلام ! أين أنتم ؟

الكثير من المتحدثين يحسنون إلقاء المسؤليات على أكتاف الآخرين، فكلمة ” يجب ” من أكثر العبارات ترديداً فى أحاديثنا ومناقشاتنا، فالإعلام يستخدمها، والرسميون، والأساتذة والمعلمون، والآباء، والخطباء، والشباب، والصغار .. والجميع لا ينفك حديثهم عن ” يجب .. ويجب ! . لكن لا أحد يسأل نفسه إن كان هو من ضمن أولئك الذين ” يجب ” عليهم ما يجب، أم مهمته تنتهي عند حل ” تقسيم ” الواجبات على الآخرين ثم ينام بعد ذلك قرير العين !

ألتقي كثيراً بعلماء أفاضل يفزع إليهم الناس – بعد فزعهم إلى الله – فى سائر أمورهم، فى فتاواهم ومشكلاتهم وأسئلتهم وشفاعاتهم وسوى ذلك من شؤون حياتهم، فطالما سمعت من بعض هؤلاء الفضلاء من يقول : يجب على العلماء أن يفعلوا .. ويا ليت العلماء .. وأتمنى أن يجتمع العلماء .. وأقترح .. وأرى ..!

حسناً .. فمن هم العلماء ؟ ومن هي الشخصية التي ترشحها لتترجم هذا ” القول الجميل ” إلى ” فعل ” ؟

أثار شجوني فى هذا الموضع أحد الأساتذة وهو يتحدث عن مشاهداته فى الجمهوريات الإسلامية التى خرجت لتوها من ” الاتحاد السوفيتي ” ويذكر مجالات العمل هناك من التبشير بالإسلام وإقامة المدارس والجامعات وإنشاء المراكز والإفادة من الأوضاع الجديدة فى الاستثمارات الاقتصادية الإسلامية وغيرها . فقفز إلى ذهني هذا السؤال : من ننتظر أن يؤدى هذه الأدوار ؟

الرسميون؟ هيهات فهذا ليس داخلاً فى دائرة اهتمامهم إلا بقدر ما يحقق من المصالح الذاتية الخاصة.

التجار ؟ هيهات .. فهم مشغولون بتجاراتهم، وحتى الغيورون منهم قد يكونون مستعدين للمساهمة والدعم أكثر من استعدادهم للتفكير والتنفيذ، وأقل القليل منهم من يفكر ويخطط وينفذ .

العامة ؟ كلا، فهذا فوق مستوى تفكيرهم، وهم لا يحيطون به علماً ولا يقتربون منه فهماً فما لهم وله ؟

وجولت فكري فى أصناف الناس فلم أر أحداً يمكن أن ينتدب لهذه المهمة العظيمة ولأمثالها إلا دعاة الإسلام فى كل بلاد الإسلام، فأين دعاة الإسلام ؟ منهم المشغول بهموم دعوته المحلية، ومنهم المنفذ غير المفكر ولا المخطط، ومنهم المستغرق فى بعض القضايا التى حجبته عما سواها، ومنهم من يرى نفسه موثقاً بالأغلال لا يستطيع أن يعمل شيئاً بسبب العوائق النفسية التي تقعده عن أي عمل مثمر كبير، فهو يكتفي بالأعمال اليسيرة المضمونة القليلة ويوهم نفسه أنه بذلك قد أدى ما عليه .

وكل همي فى هذه القضية أن أفرض على ذهن القاريء هذا السؤال – ولنكن عمليين فى إجابته – : من ننتظر إذاً أن يقوم بهذه الأدوار وينفذ هذه الأعمال التى نراها ضرورية للإسلام والدعوة ؟

 فقه المقاصد يمكن من فهم الوحي، وفقه الأولويات يمكن من فهم الواقع.

وهذا يستدعى قبل تحمل المسئوولية الوعى بالأحداث الجارية والتفاعل معها، فيجب على الداعية أن يكون واعياً لما يدور حوله فعلى سبيل المثال الأيدى الماسونيه والغربية فى عبثها بالأمة فعلى سبيل المثال القديم روايه نجيب محفوظ ” أولاد حاراتنا ” ألفها عام 1959 ثم امتنع من نشرها بعد فتوى الأزهر فجاء أصحاب جائزة نوبل – فاشعلوا الفتنة من جديد واعطوا نجيب محفوظ جائزة نوبل على الروايه التى فيها – الحاد بالله وطعن بأنبياء اليهود والنصارى وطعن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد طبعت 1967 وترجمت للغة الأنجليزية 1988 – لمعرفة المزيد من تفاصيل “أولاد حاراتنا” أرجع إلى الكتاب “أولاد حارتنا” د.صلاح الدين سلطان .

ومثال آخر هو نهج ” الاستشراق السياسى المخابراتي” الذى نشط بعد سقوط الاتحاد السوفايتى ليجدد العهد السابق لحركة الاستشراق بنمط جديد فى وسم الإسلام بكل سوء – يقول المستشرق الكندى “سميث” فى سياق تحريضه على الإسلام والمسلمين :( … والإسلام هو القوة الإيجابية الوحيده التى انتزعت من المسيحين أناساً دخلوا فى الدين الجديد وأمنو به بعشرات الملايين ” وقد استخدمت كل الوسائل لمحاربه وتشويه الإسلام”[9]

   

1سورة فاطر: آية 43

2سورة محمد: آية 10

3 كتاب (أصول إعادة تشكيل العقل المسلم) للدكتور عماد الدين خليل.

4 سورة الأنفال: 29

5 سورة الأعراف: 96

6سورة البقرة: 155

7 مراجعات في الفكر والدعوة والحركة للأستاذ عمر عبيد حسنة.

[8] انظر بتوسع إلى مقاصد الشريعة للأستاذ طه جابر العلواني

 [9] انظر حوار الحضارات ” عطيه فتحى الويشي.