حتى لا تصبح الفتوى صنعة من لا صنعة له
بقلم: الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
التقرير المنشور في مجلة العالمية في العدد (170) جمادي الأولى1425هـ حول انتهاء الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي من وضع مسودة الاتحاد العالمي لعلماء الإسلام، أعاد إلى ذهني الشجون التي يعانيها فحول الفقهاء في بلادنا الإسلامية وهم يسمعون ويشاهدون ويقرأون فتاوى المتطفلين على الفتوى وهم يقصفون عقول المسلمين كل يوم بالجديد من الفتاوى التي لم ينزل الله بها من سلطان، ومشروع الدكتور القرضاوي الذي ظل يراود الفقهاء من فترة طويلة تمتد لربع قرن من الزمان وربما أكثر، يهدف إلى إيجاد المرجعية الإسلامية القادرة على تفقيه المسلمين بدينهم وإنارة السبيل للمسلمين في ظل الأوضاع المستجدة والأحوال المتطورة من حياة الأفراد والأسر والمجتمعات، بتوجيههم إلى الآراء الناضجة والحلول الناجعة لمشكلات حياتهم الفكرية والعملية من خلال أحكام الشريعة وقواعدها في ضوء الاجتهادات المعاصرة المعتبرة، الصادرة من جهات موثقة، أو من علماء مشهود لهم بالكفاية والأمانة، بحيث يصبح هذا التجمع العلمي لعلماء الأمة تجمعاً شعبياً وليس مؤسسة حكومية رسمية، فهو تجمع مستقل يجمع علماء الأمة على منهج الوسطية والاعتدال.
حتى متى يتم قصف عقول المسلمين بالفتاوى التي ما أنزل الله بها من سلطان. |
إننا نعيش اليوم في عالم شديد الاضطراب، وقد يحتاج لسنوات وعقود حتى تتضح بشكل نهائي صورة العالم الجديد بعد تمكن العولمة وأدواتها منه، وتحتاج كل التطورات القادمة إلى رؤية شرعية علمية فقهية تقوم على الدليل والبرهان وحسن الاستنباط وتكييف الأحداث للوصول بشكل جماعي إلى حكم فقهي جديد قادر على التعاطي مع هذه التطورات المخيفة دون تجاوز الثوابت والأصول الشرعية، وقد أصبح هذا المطلب أمراً هاماً وملحاً، وخاصة بعد افتراء غير المتخصصين في موضوع الفتوى تحت ضغط بريق الفضائيات، دون مراعاة لبيئة السائل، وأحياناً افتراء على الدليل الصحيح الثابت وتجاوزاً له، حتى كاد أن يتحول الإفتاء إلى صنعة من لا صنعة له.
ويبدو أن لهذه البرامج الفضائية جمهورها العريق، وبعض الفضائيات وهي في معركة المنافسة والصراع على الجمهور تحاول جاهدة أن توفر ما يريده الجمهور دون أن يكون لديها الخلفية الكاملة والضوابط الضامنة لاستضافة شيخ فقيه قادر على مواجهة تحديات البث المباشر، فتأتي أحياناً بالوعاظ ليفتوا الناس، وليس كل واعظ فقيه، ورب فقيه أشد على الشيطان من ألف واعظ، بل رأينا بعض الفضائيات تأتي ببعض الممثلين المعتزلين، والذين هداهم الله لطريق الخير والرشاد، ولم يتجاوز مشوارهم في الدعوة سنة أو بضع سنوات، فيأتون بهم لإلقاء المواعظ على الناس عبر برامج دينية أسبوعية، ويغفلون أن هناك قواعد وحقائق فقهية وبعض الضوابط الأصولية التي يجب أن يعلمها أي إنسان يريد أن يتصدى للوعظ والإفتاء، بل إن الدراسة غير المنهجية مهما كانت عميقة غير كافية لتصدر مثل تلك المجالس.
إن المريض إذا أصيب بعلة ذهب إلى الطبيب وليس إلى المحاسب ليعالجه، وإن المتهم إذا أراد البراءة ذهب إلى المحامي وليس إلى مصمم الإعلانات لكي يأتي له بالبراءة، وإن المالك إذا أراد بناء البيت ذهب إلى المهندس، وليس إلى الخياط ليبني له بيتاً، فلماذا وحده المستفتي إذا أراد أن يعلم مسألة من الدين يعلم حدود الحرام فلا يقع فيه وحدود الحلال فتيسر شئون حياته وآخرته لا يذهب إلى أهل الاختصاص في المسألة، نعم ديننا لا يوجد به رهبان يقفون واسطة بين العبد وربه، ولكن هناك علوم ومسائل معقدة تصدى لها فطاحلة العلماء ليقعدوها ويأصولها حتى يستطيع أهل الإفتاء أن يبينوا حدود الحلال والحرام، والله سبحانه وتعالى يقول:” وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون“[1].
عندما تتمكن العولمة وأدواتها من فرض صورة العالم الجديد نحتاج إلى رؤية شرعية تتناسب مع المتغيرات والمستجدات. |
فليس المطلوب أن يتحول كل المجتمع إلى طلبة علم وعلماء، فلا يمكن أن يخلوا مجتمع من مدرس وطبيب ومهندس وصحفي وخياط ونجار…، لكن كل أفراد المجتمع عليهم أن يعلموا ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويعلموا عبادات فرض العين وسننها وفروضها وآدابها وأركانها ومكروهاتها ومبطلاتها كالصلاة والزكاة والحج والصوم وغيرها من أساسيات الدين، أما غير ذلك فلها أهل العلم المختصين، وليسوا رجال الدين، فلا يوجد رجال دين ورجال دنيا فالمسلمون كلهم رجال دين ورجال دنيا، وفيهم أهل الاختصاص في العلوم الشرعية حتى لا يعتقد البعض إننا نحاول احتكار الفتوى لفئة معينة أو طبقة معينة من المسلمين.
فإننا سنخصص هذا المقال لنعرض شرحاً مختصراً عن تاريخ الفقه ومصادره والأدوار التي مر بها هذا العلم، وبعض الرموز الفقهية في عجالة سريعة حتى يعلم المتطفلون أي بحر ولجوا، ثم نختم المقال ببعض القواعد الفقهية حتى يتبين للقاريء إن المسألة ليست خبط عشواء، ولا هي قراءة آية من كتاب الله أو حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم النطق بالحكم والفتوى دون معرفة علوم القرآن كالناسخ والمنسوخ والمكي والمدني وأسباب النزول وغيرها، ومعرفة علم الحديث ومصطلحه وتخريجه ناهيك عن علوم الآلة كالنحو والبيان واللغة العربية.
مصادر الفقه
معلوم إن الفقه هو الأحكام الشرعية العملية، أي الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين من عبادات ومعاملات، والمصادر التي يعتمد عليها الفقيه لإصدار فتاواه والأحكام الشرعية هي ما تعرف ” بمصادر التشريع الإسلامي” وهي مصادر أصلية وهي الكتاب والسنة ومصادر تابعة مثل الإجماع والقياس.
أولاً: القرآن الكريم:
هو كتاب الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف، ولفظ القرآن ومعناه من عند الله سبحانه وليس للرسول صلى الله عليه وسلم سوى التبليغ، وقد نقل إلينا نقلاً متواتراً، والنقل المتواتر هو نقل القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أقوام لا يحصون ولا يتصور العقل تواطأهم على الكذب وهكذا نقله عنهم آخرون بنفس صفاتهم حتى وصل إلينا متواتراً بما يفيد اليقين والعلم القطعي، وقد وصل إلينا القرآن كاملاً بلا نقص ولا زيادة، وهو كتاب معجز.
أن يعتزل الفنان أو الممثل ويلتزم دينياً شيء وأن يتحول بين ليلة وضحاها إلى مفتي في الفضائيات شيء آخر. |
والأحكام في القرآن الكريم ثلاثة، فهناك أحكام تتعلق بالعقيدة وأحكام تتعلق بتزكية النفوس والأخلاق القويمة، وأحكام تتعلق بأقوال وأفعال المكلفين وهي الأحكام العملية التي تدخل في موضوع الفقه وهي قسمان: عبادات، ومعاملات.
وقد جاء بيان القرآن للأحكام على ثلاثة أنواع، فهناك بيان كلي وهو ذكر القواعد والمبادىء العامة مثل الأمـر بالشورى والعدل وحرمة مال الغير وهي التي تكون أساساً لتفريع الأحكام وبناؤها عليها وهناك بيان إجمالي للحكم مثل ذكر الحكم بصورة مجملة تحتاج إلى بيان وتفصيل مثل وجوب الصلاة والزكاة والحج، ولم يبين القرآن مثلاً عدد ركعات الصلاة أو أنصبة الزكاة بشكل تفصيلي، ولا فصل بمناسك الحج تفصيلاً كاملاً بل ترك ذلك للسنة النبوية المطهرة، وهناك نوع ثالث وهي البيان التفصيلي مثل أنصبة الورثة وكيفية الطلاق والمحرمات من النساء في النكاح، والحكمة في عدم تفصيل جميع أحكام القرآن في أن ذلك يخرجه عن مقصده الأول وهو الهداية والإرشاد، بالإضافة إلى وجود بعض الأحكام بشكل عام يعطيها مرونة ليناسب التطبيقات في كل زمان ومكان ويلائم عموم وبقاء الشريعة.
ويلاحظ أن الأحكام في القرآن غالباً ما ترتبط في بيانها بالعقيدة، لأنها هي المحرك الفاعل في التزام هذه الأحكام وتطبيقها، فهو تذكير بأن هذه الأحكام من عند الله سبحانه بحيث تجب طاعته ولا يجوز مخالفة أمره، ويعرض القرآن للاحكام عرضاً بديعاً فيه تشويق للامتثال وتنفير عن المخالفة، وقد يأتي الحكم الواحد في القرآن في أكثر من موضع واحد للتذكير به والتأكيد عليه.
ثانياً: السنة
والسنة هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير، والسنة المصدر الثاني للتشريع، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وقد أمر الله بطاعة رسوله ” قل أطيعوا الله والرسول” وجعل طاعة الرسول طاعة لله ” من يطع الرسول فقد أطاع الله” بل والأمر الصريح باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ” وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” وغير ها من الآيات، وقد أعطى الله رسوله سلطة بيان أحكام القرآن وتفصيل أحكامه المجملة والكلية.
إذا أردنا أن نبني بيتاً نلجأ إلى مهندس، وإذا أردنا العلاج نلجأ إلى الطبيب فلماذا لا نلجأ في الفتوى إلى أهل الاختصاص. |
والسنة إما أن تكون قولية وهي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتسمى بالحديث، وإما سنة فعلية وهي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مثل أدائه لمناسك الحج، وإما سنة تقريرية وهو سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار قول أو فعل فهذا السكوت يدل على جواز الفعل وإباحته لأنه عليه الصلاة والسلام لا يسكت على باطل أبداً.
وأنواع الأحكام التي جاءت بها السنة أربعة: فهناك أحكام موافقة لأحكام القرآن الكريم مثل ما جاء في السنة عن النهي عن عقوق الوالدين وشهادة الزور، وهناك أحكام مبنية ومفصلة لمجمل القرآن الكريم مثل السنة التي بينت مقادير الزكاة وعدد ركعات الصلوات، وهناك أحكام مقيدة لمطلق القرآن أو مخصصة لعامه، مثل تحريم الميتة فقد استثنت السنة ميتة البحر وخصصت الميتة بغير ميتة البحر، وهناك أحكام مستقلة لم يذكرها القرآن وذكرتها السنة لأنها مستقلة بتشريع الأحكام وفيها أمثلة كثيرة.
وفي الحديث:” ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه” ولا خلاف في أن السنة مصدر التشريع ولكن رتبتها تالية لرتبة القرآن، فالاحتجاج بالكتاب مقدم على الاحتجاج بالسنة.
أما بالنسبة لمصادر الفقه التابعة فيمكن الحديث بشيء من الإجمال عن الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب.
فالإجماع مثلاً هو اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي، وهو مصدر للتشريع ودليل من أدلة الأحكام، والأمة الإسلامية لا تجتمع على خطأ، ومثال ذلك إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة حيث كان ذلك بطريق الاجتهاد، وقد أخذ طائفة من العلماء على الإجماع صعوبة وقوعه لأن المجتهدين متفرقون ولا سبيل لمعرفة آرائهم والمسألة بها تفصيل ليس هذا مقامها.
أما القياس فهو إلحاق مسألة لا نص على حكمها بمسألة ورد النص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص لتساوي المسألتين في علة الحكم، وهذا الإلحاق يسمى قياساً ومثال ذلك: حكم شرب الخمر وقياس تحريم كل مسكر لأن العلة هي الإسكار ويعرف علماء أصول الفقه الاستحسان بالعدول عن قياس جلي إلى قياس خفي أو استثناء مسألة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة لدليل يقتضي هذا العدول، مثال ذلك: أن القاعدة العامة تقتضي بأن بيع ما ليس عند الإنسان باطل لأنه بيع معدوم ولكن السلم وهو بيع معدوم استثنى من البطلان لورود النص بجوازه، وقال الحنفية أن وجه الاستحسان في جواز السلم هو السنة.
ليس بين العبد وربه واسطة، ولكن هناك ضوابط لاستنباط الأحكام الشرعية لا يجيدها إلا أهل العلم الشرعي. |
أما المصالح المرسلة فهي المصالح التي لم يشرع الشارع أحكاماً لتحقيقها ولم يقم دليل معين على اعتبارها أو إلغائها، ومثال ذلك: جمع القرآن في مصحف واحد من قبل أبي بكر، وتدوين الدواوين من قبل عمر بن الخطاب وغيرها.
وسد الذرائع وهو من المصادر التابعة عبارة عن سد الوسائل المفضية إلى الحرام والفساد فالذرائع تسد وتمنع إذا كانت تفضي إلى الفساد، وتجب وتفتح إذا كانت تفضي إلى المصالح، والمفاسد والمصالح تكون بميزان الشرع لا بميزان آخر، ومثال ذلك: ما عمل به فقهاء الصحابة حيث ورثوا المطلقة بائناً إذا طلقها زوجها في مرض الموت سداً لذريعة حرمانها من الميراث، وهو أصل معتبر وأخذ الأئمة المجتهدون به وكان أكثرهم أخذاً بسد الذرائع الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل.
ولا نريد الاستطراد أكثر من ذلك في العرف ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا في والاستصحاب فهي مبسوطة في كتب أصول الفقه مع أدلتها وأمثلتها.
[1] التوبة: 122