بقلم: الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

            تعرضنا في المقال الماضي لفن مراقبة النفس وإلزامها منهاج الله سبحانه وتعالى لحصول الاستقامة وتحقيق الالتزام الذي يجعل زاوية الانحراف عن الدين القويم صفراً أو قريباً من ذلك واليوم نكمل المسيرة مع فن من أهم فنون القلوب الناجية، والذي به يكون النجاة من شرك الخواطر الشيطانية والنوايا التي ليس فيها لله نصيب، وهو فن محاسبة النفس وهو فن أصيل كانت النخبة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تحرص عليه أشد الحرص، وكاد يندثر في هذا العصر بسبب الانشغالات المغشوشة بالمهم عن الأهم، وفن محاسبة النفس وتقديم كشف حساب بما قدمته من الأهمية بمكان.

       فمن حاسب نفسه في الدنيا خف في يوم المعاد حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت في ذلك اليوم حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، ورحم الله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب القائل:”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا”.

محاسبة النفس فن أصيل كانت النخبة من الأمة المحمدية تحرص عليه أشد الحرص.

       والصنف الذي يديم الحساب لنفسه هو الصنف الذي يوصف برجاحة العقل، كما يوصف بالقوة والحزم، والذي تغلبه نفسه، ويسيطر عليه هواه، هو العاجز الذي فقد القوة والعزم، وفي ذلك يقول المصطفى المختار صلوات الله وسلامه عليه:”الكيس[1] من دان نفسه[2] وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني”.  

       ونحن ندعوك لتقف مع نفسك وقفتين: وقفة تحاسبها عما وقع وانقضى، ووقفة تبصرها بالمقبل الآتي، قف مع نفسك بين الفينة والأخرى ناظراً في أمسك الغابر، وتفكر فيما أودعته بياض نهارك من قول أو عمل، وما تضمنه سواد ليلك من صمت أو فكر، وانظر إلى ما قدمته يداك، وما تحرك به لسانك، وما وقع عليه طرفك، وما استمعت إليه أذناك، وما مشت إليه قدماك، فإنك مسئول عن ذلك كله:”إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا[3].

       وانظر في الحقوق التي كلفك الله القيام بها، فكانت عندك أمانة، هل أديتها كما طلب منك أم أنك ضيعتها، وغلبك طبعك الظلوم الجهول؟.

       والوقفة الثانية التي نريدك أن تأخذ نفسك بها هي وقوفك مع نفسك في الأوقات الآتية التي تمثل عمرك الباقي، وساعاتك القادمة، فإن الماضي لا حيلة لك في إرجاعه، وإن كنت تستطيع أن تصلح ما فسد منه بالتوبة والإنابة والاستغفار، أما الآتي فإنك تملكه، وتستطيع بالعزيمة القوية والهمة العالية أن تستقيم على أمر الله، وتكون كما يريد الله.

ولذا فإنه يتوجب عليك أن تستغل الفرصة فقد يكون اليوم الذي تحياه هو يومك الأخير، وقد تكون ساعتك التي أنت فيها هي الساعة الأخيرة، وكلنا يعلم أن له يوماً هو اليوم الأخير، وساعة هي الساعة الأخيرة، فما يدريك متى تحين؟! إننا ندعوك لأن تعمل في يومك عمل من أيقن أن شمسه أذنت بالمغيب، فهو يودع دار الفناء ويستقبل دار البقاء.   

ذكر نفسك بأن ربك وإلهك وسيدك مطلع عليك دائماً، أحاط علمه بكل شيء، فإذا أيقنت النفوس بأن الله بها عليك، وعليها رقيب، فإنها تحسن العمل وتتجافى عن الخمول والكسل. 

وذكر النفس الشرود الجموح بنعمة الله عليك.

وذكر نفسك بحقيقة الدنيا التي تهفو النفوس إليها وتقبل عليها، ذكرها بأن أيامها زائلة، وزهرتها ذاوية، وزينتها فانية، ومسراتها لا تدوم، وهي مع كل هذا متاع قليل وعارية مسترجعة، وذكرها بالنعيم المقيم في دار البقاء.

فإن كان القلب أقسى مما تظن، وأبت النفس أن تلين، فوبخها توبيخ السيد عبده الآبق، وقل لها: ويحك يا نفس، إن كانت جرأتك على معصية الله الاعتقاد أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك، وإن كان مع علمك باطلاعه عليك، فما أشد وقاحتك، وأقل حياءك.

شغلنا أنفسنا بالانشغالات المغشوشة وبالمهم عن الأهم، ولم يعد أحد يحاسب نفسه في آخر النهار إلا من رحم الله.

فإن أبت إلا عناداً، ولجت في الخصومة والرعونة، فذكرها بالموت وسكراته، والقبر وآفاته وفتنته، وكيف يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.

وقال بعض العلماء: من علامة المقت أن يكون العبد ذاكراً لعيوب غيره ناسياً لعيوب نفسه، ماقتاً للناس على الظن محباً لنفسه على اليقين.

وترك محاسبة النفس ومراقبة الرقيب من طول الغفلة عن الله عزوجل، والغافلون في الدنيا الخاسرون في العقبى، لأن العافية للمتقين، قال الله عزوجل:”وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون[4].

وطول الغفلة من العبد من الطبع على القلب، وهو الران الذي يتعقب الكسب فيكون عقوبة له، قال الله تعالى:” كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون[5]، أي: من المكاسب الخبيثة، وأكل الحرام، وفي التفسير، هو: الذنب على الذنب حتى يسود القلب.

وقد أمر الله بمحاسبة النفس بقوله تعالى:”يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد[6] وهذه إشارة إلى المحاسبة على ما مضى من الأعمال.

وفي الخبر:”وينبغي للعاقل أن يكون له أربع ساعات: منها ساعة يحاسب فيها نفسه” وقال تعالى:” وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون[7]، والتوبة نظر في الفعل بعد الفراغ منه بالندم عليه.

       وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب قدميه بالدرة إذا جنه الليل، ويقول لنفسه: ماذا عملت اليوم؟

       وعن ميمون بن مهران أنه قال: لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، والشريكان يتحاسبان بعد العمل.

       وحديث أبي طلحة حين شغله الطائر في صلاته، فتدبر ذلك، فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندماً ورجاءً للعوض مما فاته.

هل فكر أي واحد منا أن اليوم الذي يعيشه قد يكون اليوم الأخير، والساعة التي يعيشها قد تكون الساعة الأخيرة.

       فأن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.

       وأن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.

الأسباب المعينة على محاسبة النفس

*هناك أسباب تعين الإنسان على محاسبة نفسه وتسهل عليه ذلك منها:-

1- معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استراح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداًَ.

2- معرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.

3- النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث.

4- صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.

5- النظر في أخبار أعل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح.

6- زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدارك ما  فاتهم.

7- حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير.

8- قيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات.

9- البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.

10- ذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوقفه لكل خير.

11- سوء الظن بالنفس، فإن حسن الظن بالنفس ينسى محاسبة النفس، وربما رأى الإنسان –بسبب حسن ظنه بنفسه- عيوبه ومساؤه كمالاً.

كيفية محاسبة النفس

*ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن محاسبة النفس تكون كالتالي:

أولاً: البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصاً تداركه.

ثانياً: ثم المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.

ثالثاً:محاسبة النفس على الغفلة ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله.

رابعاً: محاسبة النفس على حركات الجوارح، كلام اللسان، ومشي الرجلين، وبطش اليدين،ونظر العينين، وسماع الأذنين، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته.

فوائد محاسبة النفس

ولمحاسبة النفس فوائد جمة منها:

1- الاطلاع على عيوب النفس، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته.

2- التوبة والندم وتدارك ما فات في زمن الإمكان.

3- معرفة حق الله تعالى فإن أصل محاسبة النفس هو محاسبتها على تفريطها في حق الله وتعالى.

4- انكسار العبد وزلته بين يدي ربه تبارك  وتعالى.

5- معرفة كرم الله سبحانه وتعالى وعفوه ورحمته بعباده.

6- مقت النفس والإزراء عليها، والتخلص من العجب ورؤية العمل.

7- الاجتهاد في الطاعة وترك العصيان.

8- رد الحقوق إلى أهلها، وسل السخائم، وحسن الخلق، وهذه من أعظم ثمرات محاسبة النفس.

ترك محاسبة النفس من طول الغفلة عن الله والغافلون “لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون”.
أقسام محاسبة النفس

محاسبة النفس نوعان: نوع قبل العمل ونوعه بعده

*النوع الأول: محاسبة النفس قبل العمل فهو أن يقف العبد عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه، قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.

*النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل:

وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي.

وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور هي:-

1- الإخلاص في العمل.

2- النصيحة لله فيه.

3- متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه.

4- شهود مشهد الإحسان فيه.

5- شهود منة الله عليه فيه.

6- شهود تقصيره فيه.

*فيحاسب العبد نفسه هل وفى هذه المقامات حقها؟

*وهل أتى بها جميعاً في هذه الطاعة؟

حاسب نفسك قبل أي عمل وبعد أي عمل وتعلم مراحل المحاسبة الأربعة.

 

الصالحون ومحاسبة النفس

واعلم يا أخي الحبيب أن الله تعالى قائم على كل نفس بما كسبت، محاسب على النقير والقطمير، والصغير والكبير، والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت.

وأرباب البصائر عرفوا أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات وتحققوا أنه لا ينجيهم إلا لزوم المحاسبة، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها من الخطرات واللحظات.

ولنقف مع القمم الشامخة ومع محاسبتهم لأنفسهم.

عن سلمة بن منصور، عن مولى لهم، كان يصحب الأحنف بن قيس، قال:”كنت أصحبه، فكان عامة صلاته الدعاء، وكان يجيء بالمصباح، فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حس، ثم يقول:يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟”[8].

قال الحسن في قوله تعالى:”ولا أقسم بالنفس اللوامة”[9]:”لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والعاجز يمضي قدماً، لا يعاتب نفسه”.

وقال مالك بن دينار رحمه الله:”رحم الله عبداً قال لنفسه النفيسة: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله، فكان لها قائداً”[10].

قال سفيان بن عيينة: قال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، واشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي نفسي، أي شيء تريدين؟ قلت: أريد أن أرد إلى الدنيا، فأعمل صالحاً، قال: فقلت: فأنت في الأمنية فاعملي”[11]

عن إبراهيم بن أدهم قال:”كان عطاء السليمي إذا استيقظ قال: ويحك يا عطاء، ويحك يا عطاء، وأبيك يا عطاء، وأمك يا عطاء، حتى يصبح”[12].

 

[1] الكيس: العاقل

[2] دان نفسه: أي حاسبها

[3] سورة الاسراء:36

[4] النحل: 108- 109

[5] المطففين: 14

[6] سورة الحشر: 18

[7] النور: 31

[8] صفة الصفوة (3/199)، والإحياء (5/392)، ومحاسبة النفس ص(36).

[9] القيامة: 2

[10] الإحياء (5/392)، وإغاثة اللهفان (1/96)، ومحاسبة النفس ص(34)، وخطمها: أي قادما بكتاب الله، فالخطام: هو الحبل الذي يقاد به البعير.

[11] الزهد لأحمد (434)، والحلية (4/211)، ومحاسبة النفس ص (34).

[12] محاسبة النفس ص (68).