بقلم: الشيخ جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

       لم يبق حجة لمتقّول بعد ما أفتى به قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية بوزارة الأوقاف الشئون الإسلامية حول تنظيم الحفلات الغنائية، فقد جاء في صيغة الفتوى أنه ” لا يجوز لأية جهة تنظيم حفل غنائي باسم “ستار أكاديمي” أو تحت أي اسم آخر، ما دام هذا الحفل الغنائي يرافقه محرمات، كأن يكون بصوت امرأة يسمعه الأجانب عنها من الرجال، أو فيه اختلاط بين النساء والرجال مع كشف العورات أو فيه ألفاظ فاحشة مثيرة للشهوات وميوعة أو رقص أو تكسر.

      

مؤسسية الفتوى تضمن الرأي الوسطي المعتدل للشرع الذي يتجاوز شذوذ الفتاوى الفردية، وإعمال الهوى وإفتاء الجاهلين.

ولا يجوز حضور هذه الحفلات أو مشاهدتها أو تيسير إقامتها أو تقديم أية مساعدة لها أو الاستثمار فيها والله تعالى أعلم.

       وتوصي الهيئة الجهات الرسمية في الدولة بأن تمنع إقامة مثل هذه الحفلات وأمثالها، حماية للأخلاق والآداب العامة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين”.

       ونحن لنا وقفات معه هذه الفتوى والتي لا يعيبها أنها جاءت متأخرة، لأنه على ما يبدو أن من سياسة قطاع الإفتاء أن لا يبادر في الإجابة على أي حدث له أبعاد شرعية دون توجيه سؤال مباشر للقطاع حتى لا يعتبر البعض إن قطاع الإفتاء منحاز لإحدى الجهات أو متضامن مع بعض التيارات السياسية، ومن الوقفات التي نود توضيحها في هذا المقام ما يلي:

أولا: أن التيار الإسلامي عندما اعترض على هذه الحفلات لم يكن يضع نصب عينيه على كبت الحريات والحجر على الناس، كما ادعى البعض، بل كان كل منطلقه الوقوف عند حدود الله، وكانت الأمور واضحة لديه منذ البداية ويعلم العلمانيون والليبراليون قبل غيرهم أن شماعة الحريات لا تنطلي على أحد وأن المسألة متى كانت موافقة للشرع فلا حكم لأحد على أحد إلا سيادة القانون واحترام حريات الآخرين.

ثانياً: إذا كانت نوايا الأخوة الذين خالفوا التيار الإسلامي في موقفه من الحفلات تنطلق فقط من الحرص على الحريات العامة، وأنهم أبعد ما يكونون عند التستر بدعاوى الحريات في الحرص على نشر الفاحشة والميوعة والفساد في المجتمع، فعليهم أن يكونوا وقافين عند حدود الشرع ولا يتمادوا بعد ما ظهر لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وبعدما تأكدوا أيضاً أن الفقه الذي نادى به “التيار الإسلامي” في منع الحفلات ليس فقه التشدد والتطرف والتعصب، بل هو الموقف الشرعي الراجح والسليم والمعتدل والوسطي، فإن كانوا يعترفون بالإسلام كمرجعية فهذا حكم الإسلام بالمسألة، وإن أخذتهم العزة بالإثم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

بعد فتوى الأوقاف في تحريم الحفلات، يجب أن يكونوا وقافين عند حدود الله، وإن أخذتهم العزة بالإثم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ثالثاً: إن كان المخالفون بكل صراحة غير ملتزمين بالمرجعية الإسلامية للحكم على الأمور واتخاذ المواقف منها فأمامهم الأدوات الدستورية والساحة البرلمانية، والإسلاميون لم يتعدوا هذه الأدوات، ولم يتعرضوا لأحد بسوء، وكل ما فعلوه أنهم لجأوا للأدوات الدستورية حتى يحققوا رؤيتهم للأمور، فالقفز على هذه الأدوات والتباكي لدى القيادة العليا ومناشدتها إنقاذ الحريات أمر لا يستقيم مع الممارسة الديقراطية، وعليهم أن يكافحوا وسط الجماهير والمواطنين حتى يصلوا إلى البرلمان ويطرحوا رؤيتهم للأمور كما يشاؤون

مؤسسية الفتوى

       والفتوى التي لا تتأثر بضغوط السلطان ولا بصراخ المتباكين على الحريات، ولا حتى بإرضاء أطراف أخرى تؤمن بالمرجعية الإسلامية وتدين لها بالولاء، وتصدر عن جهة مؤسسية لها ضوابطها واعتدالها ومنهجها الوسطي فتوى جديرة بالاحترام.

       ونحن لا ننكر إن آلية إصدار الفتاوى قد أصابها الخلل في مواطن كثيرة، وبرز هذا الخلل عبر بعض الفتاوى التي صدرت بشكل فردي وليس عبر مؤسسات وأثارت ضجة نظراً لشذوذها على الرأي السائد بين جمهور العلماء، فإذا ما أضفنا إلى ذلك تكالب العديد من غير المؤهلين على الفضائيات وإصدارهم الفتاوى ذات اليمين وذات الشمال علمنا أن الحاجة تصبح شديدة إلى ضرورة الفتوى المؤسسية، وألا يترك هذا الأمر الهام إلا للثقات الذين هم على علم عميق بالفقه التي يتناول ضوابط الفتوى، قبل أن يتصدوا للفتى التي تتناول ضوابط الفقه.

التيار الإسلامي لا يريد الحجر على الحريات، ومتى كانت القضية موافقة للشرع، فلا وصاية لأحد على أحد إلا سيادة القانون، واحترام حريات الآخرين.

       فالعلماء يشترطون في المفتي الإسلام والبلوغ والعقل والعدالة وهجر ما يخرم المروءة ويوقع في التهم والشكوك، وأن يعلم أن ما يفتي به دين يحاسب عليه أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، كما أن على المفتي أن يلاحظ عرف البلد وعاداته ليعلم مقصود السؤال والبيئة التي جاء منها السائل، وأن يبتعد عن مظان التهم والريب وأن يكون ليناً متواضعاً لا فظاً ولا غليظاً.

       وعلى هذا فلا يجوز لجاهل أن يفتي الناس، ولا المفتي الماجن الذي يفتي الناس بما يستهون فيحلل لهم الحرام ويحرم عليهم الحلال بالشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة إرضاءً لهم واتباعاً لأهوائهم، فهذه الأمور عظيمة في شرع الله، ولذلك قال عبدالرحمن بن أبي ليلى:” أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول:” لولا الخوف من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت”.   


فردية التبعة

فإذا كان للفتوى ضوابطها وأصولها، فإن للمستفتي آدابه أيضاً، فالسائل الذي يريد أن يعرف رأي الشرع في مسألة معينة يجب أن تكون نيته خالصة لله سبحانه وتعالى في معرفة رأي الشرع حتى يلتزم به، ولا يكون سؤاله بحثاً عن الرخص والحيل التي يستطيع بها التفلت من الشرع وأحكامه، فعلى المسلمين وهم يتلقون الفتوى أن يعملوا رقابة ضميرهم وتقوى الله، لا أن يبحثوا عن المفتين الذين يبحثون لهم عن الحيل والمخارج الشرعية التي تمكنهم من التفلت والتلاعب بالشرع الحكيم، والله سبحانه وتعالى يقول:” وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم حسيبا، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا[1].  

أمر الفتوى يجب أن يترك للثقات، الذين لديهم علم بالفقه التي يتناول ضوابط الفتوى، قبل أن يتصدوا للفتوى التي تتناول ضوابط الفقه.

فالله سبحانه وتعالى دليلاً على فردية التبعة، يخرج يومة القيامة لكل إنسان كتاب عمله فيلقاه مفتوحاً أمامه، ويقال له: اقرأ كتابك الذي أحصى لك عملك كله فلم يغادر منه صغيرة ولا كبيرة، ويكفيك نفسك حاسباً لأعمالك محصياً لها عليك أيها الإنسان، فمن اهتدى فلنفسه فهو الذي ينجو من العذاب، ويسعد في دار السعادة، ولا تحمل يوم القيامة نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل كل نفس تتحمل مسؤوليتها بنفسها، فالمؤمن يتعبد الله بهذا الدين فيبحث عما يصلح نفسه نفسه ويصون ضميره من التفلت والتحايل على شرع الله.  

 

 

[1] الاسراء : 13- 15