مقدمة:

علاج إسلامي:

دور الإسلام والأسرة والمجتمع في رفع كفاءة مكافحتها

كثرت الأضرار الناجمة عن المخدرات والمفترات والمسكرات والتبغ (الدخان)، مما حدا بغير المسلمين أن يسعوا إلى تحريمها تحريما تاما، فعلت ذلك أمريكا، وفعلت ذلك الهند، وفشلت التجربة فيهما لأسباب من أهمها أنهم يقاومون ظاهر الجريمة بعد اقترافها، ويكتفون بالعقوبة وحدها، وهذا غير كاف لاستئصال شأفة هذه السموم من النفوس التي تسعى إليها وتبذل الأموال في سبيلها، وإنما المعوّل عليه في ذلك هو استثارة الإيمان في القلوب، وغرس التقوى فيها بحيث لا تقدم على الجريمة، فإن تمكن الشر من بعض النفوس فأقدمت على الجريمة في لحظات ضعف إيماني، وطمع مالي، ودافع شيطاني فإن في العقوبة زاجرا، وفي التعزير تأديبا وإصلاحا وتقويما ليعود هذا العضو (الفرد) إلى جسمه (المجتمع) بعد أن يكون قد برئ من الداء. وهذا ما فعله الإسلام.

والمسلمون يبحثون عن كل دواء لأمراضهم في غير دينهم، وهم مستعدون لتطبيق كل تجربة تمت في الشرق أو الغرب على أبنائهم وفي مجتمعاتهم، ولكنهم قد يحجمون أو يتباطئون إن قدمت إليهم دواء جاء به الدين، وجربه السابقون فنجح كل النجاح وحقق للمجتمع الأمن والفلاح، مع أن تجارب الآخرين إن نفعت في الدنيا فهي غير نافعة في الآخرة، وعلاجات الدين لانحراف النفوس نافعة في الدنيا والآخرة.

ولسنا نتكلم عن أدواء جسدية، ولكننا نتحدث عن انحرافات نفسية وأمراض أخلاقية وأضرار اجتماعية، وهذه قد عالجها الدين خير علاج وما علينا إلا أن نعتصم بديننا ونطبق أمر ربنا، ونتبع منهج نبينا صلى الله عليه وسلم لتسلم مجتمعاتنا، ونأمن على أنفسنا وأبنائنا، وندفع الشر والأشرار بعيدا عن طريقنا.

إن الدين عالج هذه السموم لا رغبة في إرضاء النفوس، وإنما صيانة للمجتمع من البغضاء والعداوة، وحفظا للعقل من أن تعبث به الخمر والمسكرات، وهو مناط التكليف، وحماية للمسلمين من أن يغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة. وهذه أمور لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات. ومجتمع المسلمين اليوم أحوج ما يكون إليها، ومقاومة هذه الآفات الضارة خطوة على طريق العودة إلى الدين الذي هو أساس التمكين.

ومن أجل السلامة من هذا الوباء لا بد أن تتضافر الجهود الحكومية والشعبية لحفظ البلاد من هذا الوباء ولتنقية أرضها من ملوثاته وقاذوراته باستخدام المطهرات الدينية والعقلية والفكرية، وإحكام الرقابة الأسرية، والمحاولة الدائمة لكسر حلقة التباعد بين الآباء والأبناء حتى يظل الجو الأسري محيطا بالأبناء يحس بنبضهم، ويساعدهم على التخلص من مآزقهم، ويطرد من طريقهم الأوهام، ويحفظ عليهم عقولهم وشبابهم، ويقيهم من كل محاولة للاختراق من جانب شياطين الإنس.

لقد حرّم الإسلام الخمر تحريما قاطعا في قوله سبحانه: “يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه.. (المائدة: 90)

وحرم كل مسكر وجعله متصلا بالخمر، وقد جاء في الحديث المتفق عليه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل مسكر خمر وكل خمر حرام”، وحتى لا يترك الإسلام مجالا لنفوس الضعفاء كي تتأول الأقوال بحسب ما يشبع شيئا من رغبتها، ويحقق لها بعض هواها قال صلى الله عليه وسلم: “ما أسكر كثيره فقليله حرام” أخرجه أبو داود عن جابر بن عبدالله، وقال فيما روته عنه أم سلمة رضي الله عنها: “نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر” رواه أحمد، فالخمر والمخدرات بجميع أنواعها وأشكالها وأسمائها محرمة شرعا، وليس يقتصر التحريم على شربها أو تعاطيها، وإنما يشمل تحضيرها وتصنيعها ونقلها وبيعها وشراءها وحملها، وقد جاء في الحديث: “لعن الله الخمر، وشاربها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها” رواه ابن عمر (ص.ج.ص5091)

(وقد أفتى فقهاء الإسلام بتحريم استخدام التبغ بكافة طرق استعماله منذ أن ظهر التبغ والتدخين في حدود الألف الهجرية وألف الشيخ إبراهيم اللقاني شيخ الأزهر رسالة “تنبيه الإخوان في تحريم الدخان” سنة 1014هـ، كما حرمها مئات الفقهاء في رسائل متعددة وفتاوى مستقلة.

وقد أجمع علماء المملكة العربية السعودية على تحريم التبغ والزجر عنه، بل وعقوبة متعاطيه بالجلد تعزيرا منذ أن أصدر الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب فتواه بتحريم التتن “كلمة تعني التبغ” إلى يومنا هذا، حيث أصدر سماحة المفتي الحالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز العديد من الفتاوى في تحريم التبغ، وكذلك فعل الشيخ محمد صالح بن عثيمين، والشيخ أبو بكر الجزائري وهيئة كبار العلماء.

كما أفتى المجتمعون في مؤتمر مكافحة المسكرات والمخدرات والتدخين المنعقد في المدينة المنورة عام 1982م بتحريم التدخين والتبغ وهم يمثلون علماء من كافة الأقطار الإسلامية.

ثم قام الأزهر الشريف في مصر بإصدار فتواه بتحريم التدخين، وكافة طرق استخدام التبغ، وقامت منظمة الصحة العالمية بتوجيه سؤال عن حرمة استخدام التدخين إلى عشرة من كبار علماء مصر على رأسهم فضيلة الشيخ جاد الحق رحمه الله تعالى “شيخ الأزهر السابق”، وأصدرت المنظمة كتابا بعنوان “الحكم الشرعي في التدخين” عام 1988م، وقد أجمع هؤلاء العلماء بعد ظهور الحقائق العلمية الواضحة، على تحريمه قولا واحدا)

(مما لا شك فيه أن المخدرات تنشئ أفرادا في المجتمع غير صالحين، وتهدم الأخلاق وتفسدها، وتدفع إلى الإجرام .. ويصبح متعاطيها خطرا على نفسه وعلى المجتمع، ويزداد انحطاطه الخلقي والعقلي)[1] ويقل إحساسه بالمسئولية فيضيع ويضيّع من خلفه أناسا كثيرين.

[1] المخدرات وجنود الاحتلال والكويت والجهود الدولية لمكافحتها

 

الدين يسد كل منفذ أمام المسكرات

أرقام مفزعة:

ولعل ذكر بعض الأرقام تبين مدى الفاجعة التي تحيط بالإنسانية إن لم تتدارك أمرها، وتحزم قرارها، وتحاصر هذه المهلكات وتقتلها وتقضي عليها، ولا تسمح لها بالعـودة مــن جديــد. إن مستهلكي المخدرات في العالم يستهلكون سنويا ما قيمته 300 مليار دولار من مختلف أنواع المخدرات بحسب سعرها في السوق الأمريكية.

وإن العالم ينفق في استهلاك التبغ سنويا ما قيمته 225 ألف مليون دولار أمريكي، وهذه أرقام مفزعة. تستدعي علاجا سريعا وحازما.

الوقاية قبل العقوبة:

والشريعة الإسلامية أنصفت الناس حين حرمت كل ما من شأنه الإضرار بالصحة أو إتلاف المال، وعاقبت عليه عقوبة محددة في الخمر، وعقوبة غير محددة هي التعزير الذي يبدأ بالعتاب وينتهي بالقتل إن اقتضت المصلحة ذلك، (ومعنى التعزير: التأديب، وقد جرت الشريعة على عدم تحديد عقوبة كل جريمة تعزيرية، واكتفت بتقرير مجموعة من العقوبات لهذه الجرائم تبدأ بأخف العقوبات وتنتهي بأشدها، وتركت للقاضي أن يختار العقوبة أو العقوبات في كل جريمة بما يلائم ظروف الجريمة وظروف المجرم فالعقوبات في جرائم التعزير غير مقدرة، وقد قصدت الشريعة من إعطاء أولي الأمر حق التشريع في هذه الحدود تمكينهم من تنظيم الجماعة وتوجيهها الوجهات الصحيحة، وتمكينهم من المحافظة على صوالح الجماعة والدفاع عنها ومعالجة الظروف الطارئة)[1].

على أن الشريعة راعت أن العقوبة هي نهاية المطاف فآخر الدواء الكيّ، كما يقولون إذ إن هناك مجموعة من القيود والسدود الإيمانية والتربوية والسلوكية تحول بين المؤمن وبين الجريمة وتمنعه من الإثم، وتصده عن المنكرات، وهي بذاتها كافية لردع الذين لم تتأصل الشرور في نفوسهم فتمنعهم هذه التربية الإيمانية عن اقتراف الكبائر والجرائم.

 

ومن أهم عوامل هذه الآفات:

1- ضرورة تعميق الإيمان:

لم يترك الإسلام المجتمع نهبا لضعاف النفوس، يعيثون فيه فسادا، ويشيعون فيه الفاحشة، وينشرون بين الناس الأرجاس والخبائث، ويعملون على تدمير بنيته الحية بالأراجيف التي تهدم صرح الفكر، أو السموم التي تهدم بناء الجسم، أو العقائد الضالة التي تحط من شأن النفوس أو القلوب، أو الغش والخداع الذي يبتز الأموال، أو الفتن التي تقضي على البشر .. لم يترك الإسلام المجتمع نهبا لهذا كله بل حافظ الإسلام على المسلمين وحصنهم ضد الوقوع في هذه الأخطار بالأمصال الإيمانية، التي تُغرَسُ في الأفراد وهم لبنات طرية، حتى تشب معهم فإذا ما اشتد ساعدهم، وقوى كاهلهم، كانت القوة الإيمانية في قلوبهم صلبة لا تنفك عنهم ولا ينفكون عنها. لأنها أصبحت تشكل تفكير المسلم، وتحرك أشواقه في الحياة، وتجعله موصولا بالله، مدفوعا نحو الخير، ممنوعا عن الشر، مأخوذا بقول الله: “استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم” (الأنفال: 24) وبقوله: “أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها (الأنعام: 122) وبقوله: “أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم(الملك: 22).

الإيمان هو طوق النجاة دائما، وبه يمكن تغيير الإنسان من داخله، وإصلاحه من باطنه، فالإنسان لا يقاد كما تقاد الأنعام، ولا يصنّع كما تصنّع الآلات من حديد أو نحاس أو معدن.

إنما يحرك من عقله وقلبه، يقنع فيقتنع، ويُهدى فيهتدي، ويرغَّب ويرهَّب، فيرغب ويرهب. والإيمان هو الذي يحرك الإنسان ويوجهه ويولّد فيه طاقات هائلة، لم تكن لتظهر بدونه، بل هو ينشئه خلقا جديدا، بروح جديدة، وعقل جديد، وعزم جديد، وفلسفة جديدة. كما رأينا ذلك في سحرة فرعون حين آمنوا برب موسى وهارون، وتحدّوا جبروت فرعون، وقالوا له في شموخ واستعلاء: “فَاقض ما أنت قاضٍ، إنما تقْضى هذهِ الحياةَ الدُّنيا

ورأيناه في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقلهم إيمانهم من الجاهلية إلى الإسلام: من عبادة الصنم، ورعاية الغنم، إلى رعاية الأمم، وقيادة البشرية إلى هداية الله، وإخراجها من الظلمات إلى النور.

إن أهم ما ينبغي أن نشغل به اليوم إذا أردنا إصلاح حالنا: أن نبدأ البداية الصحيحة، وذلك ببناء الإنسان، بناء حقيقيا لا صوريا، نبني عقله وروحه وجسمه وخُلُقه، بناء متوازنا لا طغيان فيه ولا إخسار في الميزان، نبنيه عقليا بالثقافة، وروحيا بالعبادة، وجسميا بالرياضة، وخلقيا بالفضيلة، وعسكريا بالخشونة، واجتماعيا بالمشاركة، وسياسيا بالتوعية، ونعده للدين وللدنيا والآخرة، وليكون صالحا في نفسه مصلحا لغيره حتى ينجو من خسر الدنيا والآخرة الذي ذكره الله في سورة العصر: “والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر“)[2]

إن المؤمن الذي أحياه الله بالإيمان وجعل له القرآن نورا وبيانا، يأبى أن يكون في الظلمات، ويأبى أن يمشي مكبا على وجهه، ولا يقبل إلا أن يستجيب لله وللرسول، والله سبحانه أمر بالقسط والعدل والإصلاح والبر والخير، ونهى عن الجور والظلم والفساد والشر، قال تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.. (النحل: 90)

وفي ضوء هذا الإطار العام يأتي الأمر للمسلمين: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” (المائدة: 2) ويأتي الأمر بالابتعاد عن كل إثم: “وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون (الأنعام: 120) ويأتي النهي عن الفساد في الأرض حتى يظل الصلاح والإصلاح من سمات المسلمين: “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا” (الأعراف: 56) ويبين الله أن بعض الناس ينثرون جميل الكلام وينشرون قبيح الفعال فيكتسبون عداوة الله لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قال سبحانه: “ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب المفسدين(البقرة: 204-205) وقص القرآن الكريم علينا قصة أحد المفسدين، قارون الذي بغى على قومه فقالوا له: “.. وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين.. فكان جزاؤه حين تمادى في غيه: “فخسفنا به وبداره الأرض فما كان من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين(القصص: 81) وحكم الله بالخسران على المفسدين فقال: “الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (البقرة: 27) وكتب عليهم اللعنة وسوء الدار فقال: “والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار(الرعد: 25) وأمر بمعاقبة المفسدين: “إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو نقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا..” (المائدة: 33)أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم” (هود)

وبين الله سبحانه أن لا يصلح عمل المفسدين .. “ما جئتم به السحر، إن الله سيبطله، إن الله لا يصلح عمل المفسدين.

وكل ذلك يستلزم مقاومة المنحرفين والأخذ على يد المفسدين حتى لا تهلك الأمة وحتى يبقى جو الخير مشاعا في بلاد المسلمين.

2- إدراك أن الصلاح والإصلاح أساس التمكين:

ولا يستوي في دنيا الناس ولا عند الله الصالحون والطالحون: “أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار(ص28)، وقد كتب الله النجاة لمانعي الفساد ومقاوميه: “فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم

فالصالحون في منجاة من عذاب الله في الدنيا: “وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (هود: 116)

والصالحون المصلحون على وعد من الله أن تكون حياتهم طيبة “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة” (النحل: 97)، وجعل الأرض ميراث الصالحين قال سبحانه: “ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون(الأنبياء: 105). وجاء في القرآن الكريم أن الله يتولى الصالحين فقال: “إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين (الأعراف: 196) وأمر المرسلين بالعمل الصالح فقال: “يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا.. (المؤمنون: 51) ووعد الصالحين بالأجر غير الممنون فقال: “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (فصلت: 8)

فمنهج الشريعة هو المسارعة إلى الخيرات ونشر الإصلاح، والابتعاد عن الشرور وتركها ومقاومتها وسد أي منفذ أمامها يلحق منه الضرر فردا أو طائفة أو جماعة، ولذا جاء في الحديث: “لا ضرر ولا ضرار” ولما كان ضرر هذه المسكرات والمخدرات كبيرا حرمها الشارع في كل شريعة أنزلها. (فالمفاسد ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجب درؤه فإن عظمت مفسدته وجب درؤه في كل شريعة وذلك كالكفر والقتل والزنا والغضب وإفساد العقول)[3]

(ومثل هذه الأشياء حرمت في كل شريعة لأمرين: إما لأنها تتنافى مع مصلحة الجماعة، كحمل السلاح وتحريم الانتقال من محل موبوء إلى غيره ومثل هذه الأفعال تحرم لصالح الجماعة ودفع الضرر عنها .. ولما كانت العقوبة هي أمثل الوسائل لحماية الجماعة من الجريمة والإجرام فإن العقوبة بهذا تصبح ضرورة اجتماعية لا مفر منها)[4] وشريعة الإسلام التي حرمت هذه الأشياء وجعلت لها عقوبات معلومة وضعت أمام الناس سدودا وقيودا حتى لا يصلوا إلى مرتبة الإجرام والمجرمين، وقد رأينا النظام العام للجماعة يحث على الصلاح والإصلاح ويأخذ على يد المفسدين، ويجعل واجب الجماعة الحيلولة دون اقتراف الجريمة، فإن اقترفوها لاحقتهم الجماعة وأصلحت فسادهم، وردتهم إلى طريق التهذيب، وقد راعت الشريعة الإسلامية أن يكون (ابتعاد الناس عن الجريمة ناتجا عن وازع ديني، ودافع نفسي ليس مبعثه الخوف من العقاب، بل ابتغاء رضى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .. حتى يقوم مجتمع صالح تسود فيه نية المحبــة ولا مجال فيه للجريمة .. وقد قررت الشريعة نظام العقوبات غير المحددة المدة حتى يكون حد العقوبة هو توبة الجاني أو إصلاح حاله .. وهذا النظام هو بحق من مفاخر هذه الشريعة إذ إنه يقوم على الردع والزجر دون أن يغفل الناحية الشخصية لدى الجاني وملاءمة العقوبة لإصلاحه، فتحققت للمجتمع بذلك الحماية الكافية)[5]

3- الحجر على السفهاء:

ولم تترك الشريعة أرباب المال يتصرفون في أموالهم بحسب أهوائهم، فمن اتجر في الخمر أهرقت خمره وضاعت عليه أمواله لأنه ظلم نفسه بتعدي حدود الله، ومن فعل ذلك فلا عوض لماله، ولا تخفيف للعقوبة عليه إلا إن تاب وأناب، وإذا كان السفيه يحجر على ماله، وقد لا يستخدمه في الحرام بل إنه لا يحسن التصرف فيه فيما هو مباح فكيف يستسيغ المجتمع أن تترك الأموال في أيدي السفهاء الذين ينشرون الفاحشة في الذين آمنوا، ويدفعون الناس بالترغيب ثم بالترهيب نحوها؟ أليس هؤلاء أحق من السفهاء بأخذ أموالهم من أيديهم إلى أن يثبتوا رشدهم بالتوبة النصوح؟

4- ضرورة تنفيذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

والمعروف هو ما أمر به الشرع على سبيل الوجوب أو الندب، والمنكر هو ما نهى عنه الشرع على سبيل التحريم أو الكراهة، والمؤمنون جميعهم مطالبون -كل بحسب قدرته- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخمر والمخدرات رجس ومنكر: “يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه.. (المائدة: 90) فأوجب على المسلمين الابتعاد عن هذه السموم واجتنابها ولعن كل من له صلة بها. وأوجب مقاومتها باللسان عن طريق بيان الأضرار وبالقلب عن طريق النفور من سماع حديثها وصفاتها أو من رؤيتها أو غير ذلك، وباليد عن طريق منعها وإهراق آنيتها وتكسيرها ومعاقبة المتجرئين على جلبها أو تصنيعها.

والأمة المسلمة بجميع أفرادها سياج حارس يحمي ويصون ويحافظ، فما يكاد إنسان يرى شيئا مرفوضا شرعا حتى يبادر إلى إصلاحه، ومنع شره، وإبعاده عن المسلمين ما استطاع إلى ذلك سبيلا. إنها حراسة متضامنة يقدمها المجتمع المسلم لجميع أبنائه (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) (ص.ج.ص6654) فلا يجوز لمسلم أن يرى أخاه يتردى في هاوية الخبال، ثم يتركه يلقى مصيره، ولا يمد له يد العون، وصادق النصيحة ويحميه من هذه السيئة “المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه” (ص.ج.ص رقم 6656)

وفي سبيل هذا التعاون  والتناصر في إقامة أوامر الدين جاء الأمر من الله: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” (آل عمران: 104) وجعل الله من لوازم الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (التوبة: 71) فالسلبية أمام المنكرات مهلكة للمجتمع كله، والإيجابية في مقاومتها ومنعها أساس لابد منه في مجتمع مسلم. وهذا ما ينبغي أن يقوم به المؤمنون، حتى يكونوا قائمين بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي لازمة من لوازم الإيمان.

5- التربية الصحيحة:

وهي التربية التي تستقى روح الشرع في كل ما تقدمه للصغار وتأخذهم بتعاليم الإسلام بالوسيلة المناسبة، التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع(ص.ج.ص رقم 5868) وهذه التربية تأخذ بيد الطفل المسلم من صغره نحو الخير يمارسه سلوكا عمليا، فيعرف من خلال الممارسة ما هو واجب يعمله وما هو محرم يتركه، وما هو مباح يجوز له أخذه أو تركه، ولابد أن تكون هذه التربية: (تربية إسلامية متكاملة معاصرة تتابع الطفل المسلم من سن الحضانة، وتستمر معه، حتى يتخرج في الجامعة، مستخدمة المناهج الملائمة، والأساليب المشوقة، والوسائل السمعية والبصرية، والتكنولوجيا المتطورة، بما يحقق ضرورة الدين للحياة، ويؤكد كمال الإسلام وعدالة أحكامه، وإعجاز كتابه، وعظمة رسوله، وتوازن حضارته، وخلود أمته.

وليست هذه التربية مطلوبة في درس الدين أو التربية الإسلامية فحسب، بل هي مطلوبة، في كل الدروس والمواد العلمية والأدبية، دون افتعال.

فلتلتمس في العلوم والمواد الاجتماعية واللغة والأدب، وتلتمس في الأنشطة المدرسية، وفي الجو العام، حتى يساعد على تنشئة جيل مسلم مؤمن بالله معتز بدينه وأمته، متكامل النماء بروحه وعقله وجسمه ووجدانه، مخلص لربه، خادم لوطنه، متسامح مع غيره، عامل لخير الإنسانية جمعاء.

ولابد م الوقوف في وجه الفلسفات والمناهج المادية واللادينية المستوردة، الفارغة من روح الدين، والمناقضة لفلسلة الإسلام عن الله وعن الإنسان، وعن الحياة والعالم، وعن الدين والدنيا).[6]

6- قيام الأسرة بواجباتها نحو أبنائها:

وإذا قلنا إن هذه الاشياء السابقة من أهم معالم الحصانة الدينية في المجتمع، وأن المجتمع يجب عليه إقامتها وتحقيقها فإن الأسرة -باعتبارها اللبنة الأولى في المجتمع- يقع عليها العبء الأكبر والأوفى في غرس هذه الأشياء في نفوس الصغار، وفي العمل على مراقبة تنفيذ أوامر الدين، باعتبار الأسرة من الرعاة الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” إلى أن قال: “والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها ..” (ص.ج.ص رقم 4569)

وحين نطالب الأسرة برعاية الأبناء ومراقبتهم وتوجيههم وتربيتهم فإنما نطالبها لأننا نعتقد أنها تقوم على المودة والرحمة التي جعلها الله بين الزوج وزوجه فقال: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” (الروم: 21) لأن هذه المودة والرحمة تفيض على الصغار فيعرفون أن الأسرة هي كل شيء في حياتهم يشبون على احترامها وتحقيق رغبتها، ومحاولة إرضائها والابتعاد عن إغضابها، ولذا يلتزمون ما توصيهم به الأسرة، ويشبون وقد تعودوا كثيرا من الأخلاق الفاضلة كالصبر والإيثار والعفة والشرف والصدق، وكلها تجعل الصغار في حصانة ضد كل المغريات والمنكرات.

أما إن كانت الأسرة مفككة فماذا تنتظر من أبنائها؟

إن التفكك الأسري يخلف في البيت شقوقا وندوبا ظاهرة يراها الصغار والشباب فتمتلئ أنفسهم بالقلق والضيق والحرمان، ويودون أن يجدوا خارج البيت متنفسا للأحزان والآلام، وقد يدفعهم ذلك لأن يرتكبوا الحماقات ويقعوا في الموبقات ويصبحوا أسرى المخدرات .. لأنهم فقدوا اليد الحانية، والنصيحة الصادقة، والمودة الجاذبة والرحمة الهادية المرشدة. وأين يجدونها وسط جو الخلاف القائم في البيت الذي يشيع فيه الضباب والظلام؟ وقد صدق من قال واصفا مثل هذا البيت

البيت أصبـــح تائها ويكاد يطويـه الدمار
لا الأمهات لهــا بـه عطف وليس لها قرار
والبيت في أيدي الغريب   يديره فيمــا يــدار
أطفالنــا متغربــون  فلا حنـان ولا اعتبار

      إن الأسرة المفككة محتاجة لمن يصلح عوجها، ويسد خللها، فهل تصلح الأبناء؟ وكيف..؟ وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟

ولذا فإن على الأب والأم دورا كبيرا في قيام الأسرة على الأسس السليمة حتى يكون نتاجها سليما قويا غير قابل للاختراق من هواة الشر.

ثم يكون التدرج التربوي السلوكي، وتشجيع الأبناء على كل خير مناسب لهم، وبيان الأخطاء التي يمكن أن يقعوا فيها حتى يحذروا منها، مع ضرورة مراقبة أصدقائهم ومعرفتهم بأماكن تواجدهم وماذا يفعلون؟ ومن يصاحبون؟ هل يصاحبون الأخيار أو يصاحبون الفجار؟ وماذا يشاهدون في أجهزة الإعلام؟

وتدخل الأسرة في مثل هذه الأمور لا يمكن إغفاله في وقت تكالبت فيه الفتن، وزادت الشهوات، وكثرت المغريات، وفعلت أجهزة الإعلام بالناس الأفاعيل.

فإن لم تكن الأسرة خط دفاع قوي إنهار الشباب وسقط فريسة في شباك المهربين، فلا يتركونه إلا بعد الهلاك والضياع وخراب النفس والمال.

إن مسئولية الأسرة في العصر الحاضر عظيمة عظيمة فإن وفقت في القيام بها كانت نعم العون للأبناء، وإن لم تقم بها عرضت نبتها الغض للرياح الهوج والعواصف المدمرة.

وبرقابة الأسرة واستقامتها على منهج الله، وبتحقيق المجتمع للسمات الإسلامية فيه، بغرس الفضائل ومقاومة الرذائل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون خط الدفاع القوي الذي يصد كل الشرور والآثام، فإن تسرب -بعد وجود هذه الموانع- شيء من السموم فالعقوبة الرادعة كفيلة باجتثاثه والقضاء على المفسدين.

[1] التشريع الجنائي الإسلامي ص80، 81

[2] في فقه الأولويات ص210، 211

[3] قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبدالسلام ج1 ص34

[4] التشريع الجنائي الإسلامي – بتصرف ج1 ص384

[5] الشريعة الإسلامية وأثرها في الظاهرة الإجرامية ص115 و116 بتصرف

[6] في فقه الأولويات ص288