بقلم الشيخ / د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
السم اليهودي الزعاف الذي يسري في أوصال الأمة الإسلامية، ويخدر جوارحها وقد يشل حركتها –بعد حين- ليس جديدا على أمة الإسلام التي خبرت يهود، وجربت التعامل معهم، فكانت متسامحة مع الذئاب، وكانت مسالمة مع العقارب، فاستطاعوا –رغم قلة عددهم- أن يحدثوا في الأمة البلابل، وأن يفتحوا على الفتنة أبوابها، وأن يجعلوا من دينها وكتاب ربها مدعاة للتندر والسخرية والطعن واللمز.
ولن نعود لفترة النبوة ولا إلى عصر الخلفاء الراشدين لنستقي منه كيف حاول اليهود الكيد للمسلمين الذين أدركوا من كتب ربهم وسنة نبيهم طبيعة اليهود فردوا عليهم وردوا كيدهم إلى نحورهم، لأن هذا تاريخ معروف لدى عامة المسلمين وخاصتهم، ولكنا نجري في طريق التاريخ الإسلامي إلى عصر ملوك الطائف بالأندلس، لنتوقف أمام الكيد والمكر المدبر للأمة على يد أحد كبار عتاة اليهود ممن وصلوا إلى سدة السيطرة على شئون المسلمين لا يسبقه في ذلك إلا أمير ضعيف لا يحمل من أمر الدين شيئا.
إنه يوسف بن إسماعيل المعروف بابن النغريلة الذي خدم في بلاد باديس بن حبوس حاكم مالقة (إحدى الإمارات الأندلسية في عهد ملوك الطوائف) واستطاع بدهائه وسعة حيلته والرشاوى التي قدمها أن يجمع مقاليد الأمور بيديه وأن يوطد نفوذه، ويشتت أعداءه بمؤامرته ودسائسه، وأكثر من استخدام اليهود حتى أظهروا استطالتهم على المسلمين، ثم بدأ يتطاول على الدين الإسلامي ويزعم أن هناك تناقضا في القرآن، وقد كتب رسالة في ذلك في زمن علو شأن وازدياد نفوذه في البلاد ما بين عامي 456-459هـ أثارت سخط المسلمين وقام العلماء يردون عليها.
وكان من هؤلاء العلماء بن حزم الذي ابتدأ رسالته التي انتقد فيها ولاة المسلمين في عصره الذين فتحوا الأبواب أمام اليهود والنصارى واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، ومكنوهم من رقاب الناس، وقد جاء في رسالته “اللهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لمعادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سببا إلى انقراض أعمالهم، وعونا لأعدائهم عليهم، عن حياطة ملتهم التي بها عزوا في عاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم، حتى استشرف لذلك أهل القلة والذمة، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أرباب الدنيا لاهتموا بذلك ضعف همنا، لأنهم مشاركون لنا فيما يلزم الجميع من الامتعاض للديانة الزهراء والحمية للملة الغراء. ثم هم بعد متردون بما يؤول إليه إهمال هذه الحال من فساد سياستهم، والقدح في رياستهم، فللأسباب أسباب، وللمداخل إلى البلا أبواب، والله أعلم بالصواب”.
لذا اهتم الحكام –في زمن ابن حزم- بكل ما يخدم مصالحهم الشخصية، ويحقق لهم الامتيازات من دون الناس، فاتخذوا المظاهر التي تمكن لسلطانهم من إقامة القصور وجمع الأموال وتقريب أهل النفاق الذين لهم وجوه عدة لا وجهان اثنان، والذين يسيرون خلف كل من ملك شيئا من الحطام، ومن أجل هؤلاء المنافقين أصحاب كل سلطان مهما اختلفت نوازعه، يستبعد الغيورون المصلحون، الذين يسعون لخدمة الناس، وتحقيق الأمان لهم، وتوفير الكفاية التي يحتاجون إليها، ومع المنافقين الملتفين حول كل صاحب نفوذ –إلا من رحم ربك- لا تعدم بين المتسللين إليه، المندسين عليه يهوديا صريحا، أو غير يهودي في مظهره يهوديا بقلبه وجوهره، قد يعمل في بطانته ، ويعرف سر دولته، ويقوده إلى الفساد والإفساد، بحيث يمنع مصالح المسلمين، ويدل على عوراتهم، ويؤخر –أحيانا- أعطياتهم وقد يضرب بسوط السلطان وسيفه أبشارهم أو أعناقهم في بعض الحالات، ومن أجل هذه المخاطر كان عمر بن الخطابيأبى على أبي موسى الأشعري أن يولي ديوان الخراج (الشئون المالية) في العراق واحدا غير مسلم، لما لهذا المنصب من الأهمية في ميزان الدولة في عصره. ورغم هذا التنبيه الهام فإن حكام المسلمين الذين جاءوا بعد ذلك في الدولة العباسية وفي الأندلس وخاصة في عهد ملوك الطوائف وفي الدولة العثمانية، وربما في العصر الحديث لم يلتفتوا إلى هذه الناحية كثيرا، ولم يقفوا بأنفسهم عند حدود قول الله “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتكم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون” وقد أوجد عدم الاحتراز من تولية غير المسلمين بعض المناصب حالة من الاستياء العام لدى الناس ظهرت في بعض المواقف تجاه بعض الحكام فقد روت كتب التاريخ أن العزيز بالله الفاطمي ولي الوزارة العزيز عيسى بن نسطورس، وكان نصرانيا من أقباط مصر، فمال إلى النصارى وقلدهم الأعمال والدواوين، واستبعد الكتاب المتصرفين من المسلمين، واستناب في الشام منشا بن إبراهيم بن الفرار، فعمل عمله، بأن استبعد المسلمين وعين اليهود، مما جعل أمور الدولة يسيرها غير المسلمين فكتب رجل من المسلمين رقعة وأعطاها إلى إحدى النساء، وجعل لها مالا إن سلمتها إلى العزيز وحملت الرسالة هذه الكلمات: يا أمير المؤمنين بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس، واليهود بمنشا بن الفرار، وأذل المسلمين بك إلا نظرت في أمري” واستطاعت المرأة أن تعترض موكب العزيز وأن تلقي بالورقة فتقع في يد بعض حرسه ويسلمها إليه كالمعتاد، فلما قرأها العزيز بحث عن المرأة فلم توجد لأنها غاصت في زحام الناس، وظل العزيز متفكرا في واقعه وحاله وما أصاب المسلمين على يديه، وحين حاول أن يرد شيئا من الاعتبار للمسلمين في العمل في الدواوين والمصالح المهمة لم يستطع أن يحقق ذلك على النحو الكامل.
والعجيب في أمر أولئك الحكام أنهم في الوقت الذي يدعون فيه أنهم يعملون لخدمة دين الله والمحافظة عليه ويتلقبون بالألقاب الإسلامية كالحاكم بأمر الله، والعزيز بالله والمعتز بالله وغير ذلك من الألقاب يخالفون أوامر الله مخالفة صريحة تضر بهم وتضر بالمسلمين، إنهم يتناسون قول الله: “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم” ويتناسون أن فريقا من بين السكان في بلاد الإسلام يعمل لخدمة الأعداء، وقد كان المنافقون قديما يقومون بهذا الدور، وقد كشف الله ألاعيبهم في قوله: بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا” وقد قام بدور المنافقين هذا في مناصرة الأعداء وتأييدهم بعض نصارى مصر في الحملة الفرنسية حيث كونوا ما يمكن أن نطلق عليه اليوم ميليشيا مسلحة بقيادة المعلم يعقوب كانت تقاتل إلى جانب الفرنسيين بعد أن جمعت 2000 رجل، فلما خرجت الحملة الفرنسية من مصر خرج معهم المعلم يعقوب إلى فرنسا وعاش هناك، تماما كما يفعل “لحد” الآن في لبنان، حيث يقاتل لصالح اليهود، ويتردد أنه في حال الانسحاب الإسرائيلي في موعده –كما حددوه هم- فإن لحد وغيره ممن يحيطون به سيمنحون حق اللجوء السياسي في فرنسا. فهل التاريخ يعيد نفسه؟
لبس تجب إزالته:
لقد حدد الله ولاء المؤمنين، وليس بعد تحديد ولاء الله تحديد آخر، قال سبحانه “إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون”
وقال: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”
وليس معنى هذا الولاء ألا يُراعى غير المسلمين في الدولة الإسلامية، إذ إن الإسلام أقر لهم حقوقا وكفل لهم ضمانات يستطيعون بها العيش في سلام وأمان داخل حدود الدولة الإسلامية التي ترعاهم وتحفظ حقوقهم ووصايا رسول الله r عديدة في هذا الباب، وتعامل الصحابة مع غير المسلمين أسوة لنا، وقد مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيهودي في المدينة يتكفف الناس (أي يسألهم مالا) فسأله عن حاله فأخره أنه صار شيخا كبيرا لا طاقة له على العمل وليس له مورد يأكل منه، ففرض له عمر بن الخطاب رضي الله عنه راتبا شهريا يأخذه من بيت مال المسلمين وقال قولة حكيمة: ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثم تركه عند الهرم” أي ما عدلنا معه إن خدم الدولة المسلمة بعمله في شبابه ثم نتركه بغير رعاية له في كبره.
ولكن هناك فرقا كبيرا بين موالاة هؤلاء وإطلاق العنان لهم يعملون ما يشاؤون من خلال توليهم مقاليد الأمور ومهماتها وبين توظيفهم في بعض الأعمال التي يكتسبون منها، كما أن هناك فرقا بين الولاء والتسامح، إن كل ما قد يضر بالمسلمين في حاضرهم أو مستقبلهم ينبغي تجنبه والابتعاد عنه، اتقاء لسخط الله وطلبا لمرضاته أولا ثم مراعاة لصالح المسلمين ثانيا.
ومن المعلوم أن اليهود لا يقف شرههم للمال والأرض عند حد، وهم في كل يوم يأخذون من المسلمين شيئا، فيوما يأخذون أرضا، ويوما يأخذون مياها، ويوما يثبتون أقدامهم بزراعة مستوطنات جديدة، ولا يقصرون أبدا في إيقاع الأذى بالمسلمين حين يعملون بجد حول المسجد الأقصى وتحته ليتهدم بنيانه فيقيمون هيكلهم وحين يرسلون جواسيسهم إلى البلاد التي أقامت علاقات معهم، ولا يتورعون من تصدير كل خبيث إليها ابتداء من الإيدز الذي تحمله سائحات يهوديات إلى البذور التي تسمم التربة، واسألوا مصر فهي أدرى بما يحدث على أرضها، وشرهم هذا يزحف على البلاد الإسلامية من مصر إلى الأردن إلى موريتانيا إلى تركيا، ثم أعلن أخيرا أن هناك تبادلا تجاريا بين باكستان وبين إسرائيل ابتداء من الحكومات التي جاءت بعد ضياء الحق، والله وحده يعلم كم من النظم الإسلامية تمد أيديها سرا لليهود وتتعاون معهم، وفي هذا مذلة للمسلمين المقهورين مما يفعله اليهود بهم وبديارهم ومع وضوح هذه الأمور وانكشافها فإن المسلمين سائرون في الطريق الذي سار فيه أسلافهم فيمكنون اليهود المحاربين، ويسالمون الذئاب الغبراء ويأمنون لهم، ولا يدرون بذلك أنهم سوف يلقون غيا.
ورسالة ابن حزم التي كتبها ردا على يوسف بن إسماعيل الملقب بابن النغريلة، حين ادعى –زورا وبهتانا- يتناقض القرآن، وكتب في ذلك رسالة مليئة بالهرطقة، رسالة ابن حزم هذه تحذر المسلمين –آنذاك- من شر اليهود الذين لا يكتفون بنهب خير المسلمين وإنما يحاولون تشويه دينهم، ولو استطاعوا لهدموا مقدساتهم، ما تزال صالحة لأن توجه للمسلمين في عصرنا رغم تباعد الأيام، ولكن الحقائق لا يغيرها مرور الزمان.
وإني لأرجو القارئ الكريم أن يعيد مرة أخرى قارة مقدمة رسالة ابن حزم ثم أسأله بعد ذلك: أليست هذه الرسالة صالحة لعصرنا ربما بأكثر من صلاحيتها لعصر ابن حزم؟