بقلم: الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين

       من نعم الله علينا نحن أهل الخليج وجود البقعة المباركة مكة المكرمة بين ظهرانينا، فييسر الله سبحانه وتعالى لنا أن نؤدي العمرة كلما ضاقت نفوسنا ورانت قلوبنا بأدران الدنيا وتبعات الحياة، فنذهب لنغسل النفوس والمهج والقلوب في ظلال بيت الله الحرام، وقد قدر الله لي في العمرة الأخيرة أن ألتقي العديد من الأخوة المشايخ الأفاضل وطلبة العلم من مختلف المشارب والتوجهات وتبادلنا الحوار والرأي في قضايا عديدة تتفاوت في الاهتمام والأولوية، ولكن ما أثار استغرابي أن سؤالاً وحيداً تكرر على كل لسان تقريباً وهو: هل سيقام حفل ما يسمى “بستار أكاديمي” بالكويت؟ 

       وقد أجبتهم إجابة عابرة باعتبار أن الموضوع أولاً ليس بهذه  الأولوية في قضايا البلد، وثانياً أن هناك أكثر من ثلاثين نائباً معترضاً على إقامة هذا الحفل وهو ما يمثل أغلبية صريحة تقترب من ثلثي المجلس، فكانت إجابتي أنه على الأغلب أن هذا الحفل الدخيل على مجتمعاتنا وأعرافنا نحن سكان الجزيرة العربية وأرض الحرمين الشريفين لن يتم، ولن تستخف الحكومة بمطالبة أغلبية صريحة في مجلس الأمة من أجل إرضاء مجموعة تريد أن تتكسب من نشر الفساد والميوعة بين شبابنا وشاباتنا، كما إننا يجب أن نوجه شريحة المراهقين في المجتمع لأعمال أخرى أكثر نفعاً وفائدة، وإلا ما الذي سنستفيده عندما نجعل قدوات هؤلاء هم المغنيين والمغنيات والراقصين والراقصات، وأي قيم إيجابية نزرعها في نفوسهم الغضة وهم يرون الحكومة تضرب بعرض الحائط بمطالبات مجلس الأمة من أجل إقامة حفل تافه؟!

والحقيقة إنني أصبت بالدهشة عندما علمت من بعض الأخوة أن الحفل قد تم، وسط اعتراضات سلمية من بعض الشباب الملتزم الذي قام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والكلمة الطيبة وهم الشباب الذين وصفهم بعض كتاب اليسار “بالذين يلبسون الشماغات والدشاديش القصيرة” (لاحظ الاستهزاء بالسنة)

وعلى إثر التصعيد الذي تلا الحفل تساءلت مع نفسي: هل كان من مبرر أن تدخل الحكومة في إشكالية مع مجلس الأمة من أجل إرضاء مغنيين ومغنييات وإقامة حفل “لا يودي ولا يجيب” ولماذا نحمل الإسلاميين تبعة تعطيل  إنجازات الدولة ولا نحمل الحكومة تبعة  التعطيل من أجل إرضاء مجموعة من المغنيين والمغنيات؟!

وأنا أعجب من هؤلاء الذين يطرحون أن هؤلاء النواب لا يمثلون رأي الشعب الكويتي ، وأن الأغلبية الصامتة ترفض وصاية هؤلاء النواب مع المجتمع، وكأن هؤلاء الكتاب أخذوا توكيلاً من الأغلبية الصامتة التي يتحدثون باسمها، بينما تثبت كل انتخابات أن الشعب الكويتي يزداد رفضاً لهم ولمنهجهم الفكري الذي يحاول التستر بدعاوي الحرية الشخصية لمبارزة الله بالمعاصي والآثام والذنوب

بل دعونا نذهب إلى أبعد من ذلك، ولا نقول إن الذين حضروا الحفل سبعة آلاف أو عشرة آلاف شخص إنما نذهب بعيداً ونقول كما قالت بعض الصحف المحلية أن المجتمع الكويتي بدأ يتغير ويحن إلى مجتمع السيتينات المنفتح في إشارة إلى بداية النهاية إلى سطوة التيار الديني على البلد أو كما يزعمون، وخصوصاً إن دعاة السبعينيات غير دعاة 2004 في تفانيهم في خدمة الدعوة إلى الله والحرص على نظافة المجتمع والضمير، وإن دعاة الجيل الجديد قد انشغل بعضهم بالعمل السياسي وبعضهم بالعمل الاقتصادي الإسلامي العام إلى غير ذلك، ودخولهم لمعترك العمل المؤسسي قد خفض من احتكاكهم المباشر مع الجماهير في ظل وجود هجمة إعلامية عالمية على الهوية الإسلامية، وعلى المثل والقيم بشكل عام

نقول إذا كان هذا التغيير قد حدث، فهل كل تغيير يصبح محموداً ومقبولاً ومرحباً به فهل سيكون الأب – وبناء على هذا التغيير – سعيداً عندما يرى ولده وقد تغير فترك المسجد والصيام والقيام وقراءة القرآن، وتحول إلى المراقص ومعاكسة بنات الناس، وهل ستكون الأم سعيدة وهي ترى ابنتها وقد نزعت الحجاب وبذلت قصارى جهدها لتكون نسخة مكررة من إحدى راقصات الفيديوكليب

ألا ترون طبيعة الجرائم التي ترتكب في مجتمعنا هذه الأيام، أليس لكم أقارب من شرطة وضباط يعملون في المخافر، وينقلون لكم عينات يشيب لها الشعر من القضايا  المعروضة هناك

ألا تستشعرون هذا القلق والاندفاع الغريزي والسقوط في وحل المخدرات وشقق الزنا والفجور التي تطالعنا أخبارها كل يوم في      الصحف

ألا ترون كم الشقاء الذي تعانيه الأسر اليوم في المجتمعات الأخرى التي سبقتنا لهذا النوع من “الحرية الشخصية” التي لم  تجد من يدافع عنها عندما تعلق الأمر ببعض معتقلي غوانتناموا الأبرياء وبعض الذين قادهم حظهم السيء إلى سجن أبو غريب

وأظن أن دعاة السبعينات ومن هم في الصف المقابل كلهم لمسوا موجة الفساد والانحلال التي عمت في النصف الأول من السبعينات، ثم انحسرت بعد ذلك بجهود المخلصين، والنظر في عواقب مثل هذه الموجات المنحلة، وها نحن نشهد موجة جديدة سيكون مصيرها كسابقاتها، لكن المشكلة تكمن أنها ستأتي على حساب قضايا أخرى أكثر اهمية ومصيرية، كما تأتي هذه المرة ضمن هجمة عالمية تعتمد على مقدرات إعلامية واقتصادية هائلة ولها وكلاء محليون في كل بلد عربي وإسلامي، وإن كان من حسنة لمثل هذه الأزمات الصغيرة فإن من حسناتها أنها تكشف مواقف بعض الأصوات التي تستميت في محاولة نشر الفاحشة في المجتمع، لأنها البيئة التي تستطيع تلك الجهات أن تتنفس فيها الجو الملوث الذي تعودت عليه.

للأسف فإنه في الوقت الذي نرى صراعات من ألوان مختلفة تحيط بالكويت والمنطقة فإن الحكومة مصرة على زيادة التوتر بين السلطتين من أجل حفل كان يمكن إلغاء العشرات من أمثاله دون أن يحدث أدنى   ضرر

فهناك الطرح الأمريكي في مسألة الشرق ومحاولة السيطرة عليه ينطلق من الكويت،  وهناك المشاكل الإقليمية وعلى رأسها الملف العراقي المعقد وتداعياته الخطرة ينطلق من الكويت أيضاً.

وهناك القلق الواضح التي تعيشه بعض الأنظمة الخليجية وأيضاً تعيشه الكويت وهناك القلق الذي تعيشه شريحة كبيرة من أبناء المجتمع الكويتي المحاصر بين الهجوم على هويته الكويتية وبين الضيق الاقتصادي وارتفاع أسعار الأراضي والسكن واحتياجات التعليم وغيرها

وقد آن الأوان أن نحترم الخصوصية الكويتية واللعبة الديمقراطية بحلوها ومرها، ودعونا نبحث عن رجل رشيد فينا يلتفت إلى أمرنا ويصلح شأننا بدلاً من هذا التحريض الرخيص ممن فقدوا الأغلبية وباتوا خارج اللعبة وأصبح شعارهم “يا فيها يا أخفيها”.

إن الحرية الشخصية يمكن أن تمارس في الأماكن الخاصة بعيداً عن العيون والرقباء، وهؤلاء الذين يتمحكون بالحرية الشخصية لهم الخيار في اقتراف ما يشاؤون من المعاصي والآثام ولهم رب يحاسبهم ويجازيهم، إما أن يفرضوا ألوان من الانحراف على المجتمع ويريدونها أن تسود العلاقات الاجتماعية، فهذا مرفوض وأمر ينذر بالدمار النفسي والاجتماعي، وأثر الذنوب في هدم الدول والحضارات معلوم ومستيقن. 

فالحريات الشخصية لا تعني إسقاط القيم ومبارزة الله بالمعاصي بعد كل هذه النعم التي أنعمها علينا والتي يحسدنا عليها الداني والقاصي والقريب والبعيد والعدو والحبيب، والحريات الشخصية لا تعني قولبة  شبابنا في الأشكال التي يبرزونها لنا كنماذج في شاشات الفضائيات ونذوق طعم بعض مرارتها في مجمعاتنا التجارية، والتي أقسم إنني لم أرها في كثير من الدول الأوروبية على الرغم من كثرة أسفاري لها.

الشيء بالشيء يذكر:

       إن التفلت الأخلاقي عندما تزيد وتيرته ويخرج عن النطاق الطبيعي فإنه يستفز الغيورين من أبناء الوطن حتى أولئك الذين لا يصنفون تقليدياً بأنهم من أبناء التيار الإسلامي، وقد رأينا ذلك في عدد النواب الذين وقفوا ضد الحفل السيء الذكر، وأعجبني في هذا المقام الروح الكويتية الأصيلة التي تحدثت بها الإذاعية القديرة الأخت عائشة اليحيى، فقد سمعت برنامجها الصباحي في الإذاعة وأنا في طيارة العودة من العمرة، فأثلج صدري أسلوبها ومضمونه وهي ترجو أولياء الأمور أن ينتبهوا لأبنائهم وبعض ممارساتهم المشينة وملابسهم المثيرة في بعض المجمعات التجارية، وهذا أمر طبيعي لكل من يمتلك فطرة سوية وخلق قويم، فأمر الفضيلة والأخلاق لا يهم فقط التيار الإسلامي بالمجتمع الكويتي، بل هو شأن كل كويتي غيور على أهله وبلده.