بقلم : د.جاسم محمد مهلهل الياسين
مفارقات .. للمعتبرين :
نعم والله إنها لمفارقات تلو مفارقات تستدعي العجب العجاب وتستثير أولى الألباب..
ليل مدلهم ونهار يهم.. وظلام يدبر.. وشموس تقبل عبرة حارقة.. وبسمة مشرقة..وجه عابس، ووجه عن السعادة سافر.. نعمة تحل مغنية.. ونقمة تقض كاوية.. وحاصد يزرع ويجني.. وحاقد على الإسلام يجني.. وحزين لما يصيب المسلمين من الهموم والغموم.. وجذلان شامت يود لهم نار السموم.. مجرم عاتي.. وتقي زاكي.. مجاهد سباق للشهادة.. ومنافق بلغ في نفاقه الريادة. هكذا هي أحوال بني البشر وتلك هي دروبهم…!!
لتكن الأيام القادمة … شهر غسيل المحن وشحذ الهمم وامتلاء الأرواح بالإيمان.. للانتصار النفسي على الشامتين والساخرين . |
وقد سبق إلى ذهني قول ذلك الأعرابي.. وقد كان متخنفاً حيث صاح في أهل زمانه قائلاً (ياأيها الناس….! من عاش مات ومن مات فات.. وكل ما هو آت آت..سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج.. وبحار ذات أمواج.. ثم أخذ يترنم بهذه الأبيات:
في الذاهبين الأولين من القرون ** لما رأيت موارداً للقوم ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابر ** أدركت أني لا حالة حيث صار القوم صائر
وتلك نفثات.. ولوعات أخطها في شهر الإنتخابات .. وشهر الجولات والخطابات.. إذ على الداعية المتحرك لإنجنح المشروع الإسلامي أن يراجع أوراق نفسه مع ربه ويخطط لها.. واضعاً استراتيجية قويمة بعيدة المدى قوامها تجديد العهد مع الله والتزام طريق التقوى وتجنب مسالك الضلال بأي شكل وصورة .
ولا ينسى في تلك الاستراتيجية أن يجدد فكرته ويصقل قريحته بتعمق حال المسلمين وما يمرون به من محنة طاحنة تتداعى فيها عليهم الأمم.. وتشحذ أسلحتها المادية بداية من النووية والكيماوية وما دونها وتحدّ أسلحتها المعنوية ضد المسلمين بداية من الحرب الإعلامية الشرسة وإلصاق تهمة الإرهاب بكل تنظيم إسلامي فما دون ذلك.. ولله نحن في هذه الظروف العصيبة والأوقات المهيبة إذ لا يخلو حالنا من محب للإسلام وامق.. وشامت في مصابه حانق.. وليت ذلك ينسحب على غير المسلمين فحسب وإنما عدت الشماتة أعداء الدين من غير المسلمين إلى من يحسب على الإسلام وينعم بمسميات أهلية ويعيش على تراب أرضه.. وهذه مفارقة.. وأي مفارقة..؟!! أرجو أن نبين عنها وعن جوانبها في ذلك المقال الذي حري أن يعتصر قلوب الغيورين أسى على دينهم وعلى إخوانهم الرابضين على ثغور الدعوة وجبهات المقاومة وميادين العمل الإسلامي في كل بقاع الأرض.. فهلموا نتعرف على تلك المفارقات..
بين المؤمنين.. والمجرمين :
تلك مفارقة صارخة بين فريق المؤمنين الصادقين.. والمجرمين العاتين.. لها وجهات وجه دنيوي ووجه أخروي أما وجه الدنيا فهو ما بادرت به الآيات الكريمات في قوله تعالى (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون. وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين , وإذا روأهم قالوا إن هؤلاء لضالون).
وتلك صورة فنية بارعة يصورها القرآن الكريم في أسمق صور البيان حيث استبطن حال المجرمين ومواقفهم العاتية من المؤمنين الصادقين :
- فهم دائمو الضحك والفكاهة والتندر على زمرة المؤمنين العابدين فإما تراهم ساخرين على لحالهم أو على سيماهم أو على ركوعهم وسجودهم وحراكهم في سبيل الله….
- ثم تستطرد الآيات راسمة صورة هؤلاء المجرمين في التغامز والتهامز والتلامز من المؤمنين.. فهم لا يكتفون بالضحك عليهم وعلى مظاهر صلاحهم وإنما يعدون ذلك إلى التغامز وهي تلك الإشارات العينية والحركية في السخرية وغالباً ما تكون بحضرة المغموز من حيث لا يدري.
- تبين الآيات عن حال أولئك المجرمين وموقفهم من المؤمنين عندما ينقلبون لأهلهم فهم لا يكفون عنهم ولا يرحمون ضعفهم أو يتركونهم وشأنهم وإنما سمرهم وتفكههم وحبورهم وجلساتهم العائلية بين الأهل والولد والزمرة والعشيرة تكون في التندر والتنكيت على فئة المؤمنين الصادقين.. فلا يخرج ضحكهم عن (فلان العابد فلان المجاهد.. فلان الذي تنقبت امرأته أو فلان الذي هاجر لله مجاهداً في وطن إسلامي ما.. وفلان هذا الذي لا يبرح عن مناصرة قضايا المسلمين.. وهكذا دواليك..!!
- ثم يأتي المرحلة الأخيرة وهي قمة الإجرام ومنتهى العتو في سلوك أولئك المجرمين من إزاء الفئة المؤمنة حيث يبلغون غاية الإجرام بأن يقلبوا الحقائق ويغيروا المفاهيم ويلبسوا على القاصي والداني فيتهمون فئات المؤمنين الصادقين الذي نالتهم السخرية من المجرمين بسبب مواقفهم الصادقة ودربهم المستقيم في التمسك بقيمهم –بأن يصفهم هؤلاء المجرمين “بالضلال” وأشدد بها من صفة صارخة.. وفرية ظاهرة.. على قول القائل:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقد قال الله تعالى واصفاً حال من وصلت به ضلالته إلى هذا الحد بقوله تعالى (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وقال سبحانه (قل هي ننبئكم بالأخسرين أعمالاً) وهذه الحفنة من المجرمين (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنيعاً أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً) ثم يعقب الله بعد ذلك بمن يحيق بهم هذا الجزاء وأنهم الشامتون الساخرون المستهزئون فيقول سبحانه ( ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً) .
إن الدمعة لا تمسح العثرة… فلنستبدل بالدموع العمل.. وبالغصة الأمل.. ولنسع في متابعة المستجدات.. وتطوير الاستراتيجيات . |
فضح القرآن لأغوار وبواطن الشامتين الساخرين..!
لأن الله خالق عباده وهو أعلم بهم سبحانه فقد ذكر القرآن أدق مشاعر تلك الفئة العاتية العادية وفضحهم وأخرج مكنون بواطنهم جلية بينة وصدق الله إذ يقول (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ولذلك نجد طبائع ودقائق بواطن هذه الحفنة الشامتة تلوح من بين سورة لأخرى وهذا موجز سريع بأهم صفاتهم النفسية :
- أنهم متكبرون متعاظمون في بواطنهم
وهذه صفة لازمة لهؤلاء المبطلين حيث يرون ذواتهم الدنية في غير محلها فيحسبونها ذاتاً رافعة عالية كأنما خلقوا من فضة ولم يخلقوا من طين وقد توعد الله هؤلاء بالتمادي في الباطل والإنصراف عن الحق.. حتى يقذف بهم فعلهم إلى قعر الجحيم قال تعالى (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً..) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) ثم نفى النبي أن يكون كبراً ما يلبس من جديد الثياب والنعل وعرف الكبر بأنه بطر الحق وغمط الناس .
- في كل معركة تجد قلوبا مريضة :
قال تعالى (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) ومرضهم هو في الأساس مرض اعتقاد بالله فلو صحت بواطنهم لصحت ظواهرهم.. وهؤلاء يصدق عليهم قول المتنبي :
وكم من عائب قولاً صحيحاً وأفته من الفهم السقيم
وقال :
ومن يك ذا فم مرٍ مريض يجد مُرّاً به الماء الزلالا
إذ يجدون كل ظاهر حسن سيئاً خبيثاً فيظنون الناس على شاكلتهم وعلى دربهم.. وهيهات وهؤلاء مردوا على القبيح ودرجوا على السخرية والحسد.. فلا يأبهون لأحد ولا يكبرون لكبير ، وهذا وسم من مرد على القبيح وفقد الحياء من الله وصدق الله إذ يصور حال سخريتهم فيقول سبحانه (يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً) وقال سبحانه (ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) وقال سبحانه (والذين يلمزون المطوعين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم سخروا منهم) .
وهذه مقطوعة أذكرها لأحد البلغاء في وصف زمرة الحاسدين والشامتين حيث قال:”الحسد –أبقاك الله- داء ينهك الجسد، علاجه عسير، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وما ظهر منه فلا يداوي، وما بطن منه فمداويه في عناء.. الحسد عقيد الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، منه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم من الأقرباء، ومحدث للتفرق بين القرناء، وملقح للشربين الحلفاء[1] .
همس في أذن الشامتين… واللامزين.. والهامزين :
وإني لأهمس من مقامي هذا إلى زمرة الشامتين أن (قد كم اتئدوا أربيتم في الغلواء).. تمهلوا.. وانظروا كيف سنن الله وكيف قضاؤه.. وكيف تحول الدهور وتتقلب الأمور وكل شامت لابد أن مشموت فيه..
وياويل من كانت شماته بعابد أو مجاهد أو فاضل نقي على وجه خير مع ربه تلك هي القارعة وتلك أعظم الواقعة لأن من لا نصير له إلا الله غالب ظافر وإن بعد أحيان وليس حينا وصدق الله إذ يقول (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (من عادى لي ولياً فقد أذنته بالحرب)، وإني لأذكر بعض النصائح عساهم أن يرجعوا من قريب.
- التدخل فيما لا يعني.. يضني ويكدي
فأولى بكل شامت أن يلزم خاصة نفسه وهذا الله موصياً في كتابه الكريم إذ يقول (ولا تقفوا ما ليس لك به علم) (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) وقال سبحانه (فلا تسألن ما ليس لك به علم) وقال سبحانه (ليس لك من الأمر شيئاً) .
- وجوب النصفة قبل ترويج الشائعات على المشموت فيهم وهذا واجب على كل عاقل أن يتقي الله ويتكفف عن نقل ما لا صحة فيه ولا صدق عنه إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال : ذكرك أخاك بما يكره، قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) رواه مسلم، وقال سبحانه ناهياً عن اتهام البرئ ووجوب التحري والتثبت (ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة بتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وقال سبحانه (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرمي به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً) وقال سبحانه (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) وقال سبحانه (إن تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) وقال (وما يتبع أكثرهم إلا ظناًَ) وقال سبحانه (إن بعض الظن إثم)
ولله القائل :
اسمع أخي وصية من ناصح ** ما شاب محض النصح منه بغشه
لا تعجلن بقضية مبتوتة ** في مدح من لم تبله أو خدشه
وقف القضية فيه حتى تجتلي ** وصفيه في حالي رضاه وبطشه
ومن الغباوة أن تعظم جاهلاً ** لصقال ملبسه ورونق رقشه
أو أن تهين مهذباً في نفسه ** لدروس بزته ورثه فرشه
- الحذر من عثار اللسان فهو مكبّ الناس في النار : وبما أن الشامت متقحم بلسانه ومتقعر في بيانه عن المشموت فيه فهذا مدعاة إلى ورود الهاوية وكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (أمسك عليك هذا ! قال : أوئنا لمؤاخذون بما نتكلم يا رسول الله؟! قال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم؟!
ولله القائل :
احفظ لسانك أيها الإنسان ** لا يلدغنك إنه ثعبان
- كل بني آدم … رهين بلاء وأسير قضاء
قد تغيب هذه الحقيقة عن كثير من الشامتين فيأنس بحاله ويغفل عن ماله ، وليته عرف أن تلك من حكم الله تعالى أن يقض البلاء مضاجع العباد، وأن تطرق خفايا الأقدار ومستور الأكدار كل باب ، قال تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فهذا هو حال الإنسان من بلاء على بلاء ، لا يكاد يستقر في تلك الحياة.. ولله در ابن الجوزي لما أتى على صورة من ذلك فقال (وهكذا لا ترى المتمتع بالمستحسنات إن وجدهن لم يجد مالاً يبلغ به المراد وإن اشتغل بجمع المال ضاع زمان تمتعه، وإذا تم المطلوب فالشيب أقبح قذى وأعظم مبغض، ثم إن صاحب المال خائف على ماله، محاسب لمعامليه، مذموم إن اسرف وإن قتر، ولده يرصد موته، وجاريته قد لا ترضى بشخصه، وهو مشغول بحفظ حواشيه، فقد مضى زمانه في محن، واللذات فيها خلسى لا لذة فيها، ثم في القيامة يحشر الأمير والتاجر خزايا إلا من عصم.. فإياك إياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم فإنك تستطيبه لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته، ثم إن في ضمنه من محن الدنيا والأخرة مالا يوصف، فعليك بالقناعة مهما أمكن ففيها سلامة الدنيا والدين)[2]
إذ ينبغي على الشامتين أن يلتفتوا إلى خاصة أنفسهم فإن كانوا في نعمة فليحمدوا الله ويسألوه المزيد.. وإلا فهم أولى وأجدى بأن يكفوا عن شمانتهم وأن يقطعوا بغيض الأدواء عنهم قبل أن تقطعهم .
- الجزاء من جنس العمل :
وبهذا قضى الله سبحانه فمن شمت من أخيه ، دالته الأيام واعتقبته الشماتة نفسها ، ولله القائل (لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك ).
رفعت الأقلام… وجفت الصحائف على ما قدره الله :
نعم تلك من مسلمات عقيدة المسلم أن قدر الله نافد، ومشيئته ماضية على الخلق بما شاءوا وبما لم يشاءوا، وصدق الله إذ يقول (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) ومما قدر الله سبحانه أن الزرع الأخضر يكبر ويكبر ويهيج ثم تراه مصفراً ثم يعود حطاماً قال تعالى (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بيكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً..) ومما قدره سبحانه أن كل رفيع الشأن سوف يوضع وكل نسيب حسيب سوف يخفض وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كانت له ناقة تسمى القصواء وكانت لا تسبق فأتى أعرابي فسابق النبي فسبقه فشق ذلك على الصحابة فقال صلى الله عليه وسلم (ما من شئ رفعه الله في الدنيا إلا كان حقاً على الله أن يخفضه) وهذا حديث بيّن في حال الخلق وتحولهم من الرفعة إلى الضيق ومن الصعد إلى الصبيب فلا باق إلا الله سبحانه .
أيها الساخرون الشامتون.. رب شماتة تعقبها العافية ورب سخرية موردها الهاوية.. |
وقد أدرك ذلك السابقون من ملوك وسوقة ، فهذا مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية وكان يدعى مروان الحمار لكثرة الحروب التي خاضها دفاعاً عن مملكته وسقطت حتف أنفه ورغم براعته وحنكته وقد قال لمن تمنى موته وزوال ملكه:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد
لعل الذي يرجو فنائي ويرتجى ** به قبل موتي أن يكون هو الردى
وهذا أحد ملوك الأقدمين يصيح في التعبير عن العسرة بعد اليسرة وعن الضعة بعد الرفعة فيقول :
أنزلني الدهر على حكمه ** من شامخ عال على خفض
وهذا آخر ينعى قوماً كان يحبهم ويجلهم وحتى سبقه الظن أنهم من الخالدين فصفعهم الدهر فيمن يصفع وصبحهم بالتراب بعد العزة والتلاد فقال :
رب قوم قد أناخو عيسهم ** في ذرا مجدهم حين بسق
سكت الدهر عليهم حقبة ** ثم أبكاهم دماً حين نطق
وإني لألتفت إلى فأقول اضحكوا ما تضحكون.. واعلموا أن الحق باق.. والباطل إلى انمحاق وكم من ضاحك سيبكى.. وكم من آمن سيفزع وأهمس في أذنهم بقول القائل :
وإن امرأً لم يصف لله قلبه ** نعي وحشته من كل نظرة ناظر
وإن امرأً لم يرتحل ببضاعة ** إلى داره الأخرى فليس بتاجر
وإن امرأً يبتاع دنيا بدينه ** لمنقلب منها بصفقة خاسر
والعاقبة .. للمتقين :
وإني لألتفت من مقامي هذا إلى تلك الفئة المؤمنة التي عانت ولا تزال تعاني من سخرية واستهزاء جموع الشامتين إن أصبروا وصابروا ورابطوا على ثغوركم في الدعوة إلى الله والجهاد في سبل الله وأن العاقبة لكم والظفر نوالكم… وأذكرهم بهذه القبسات الموجزات :
أولاً : البلاء والعناء هو دأب النبيين فالصالحين فالأمثل ثم الأمثل
وقد مضت سنة الله بذلك حيث يمحص الله القلوب ويبتلي خبايا النفوس حتى ينصهر دهنها ويبقى نفعها ونقاؤها كما قيل (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل .. يبتلى المرء على قدر دينه فإن وجد في دينه صلابة زيد في ابتلائه)
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا وإمامنا يتغلب من بلاء إلى بلاء ومن جوع إلى اضطهاد إلى سب في عرضه إلى أن تدمى جبهته ويسيل دمه ويطرد من بلده، وتقتل ابنته زينب، وتؤكل كبد عمه.. ولا تزال قريش تصعد ضده كل قاص ودان حتى منّ الله عليه بالصبر والجبر وآجل الخير.. وكذلك عقبى الصابرين.
أيها الغيورون لا تتفجعوا .. ولا تفزعوا .. فلا يخلو العالم من محب للإسلام وامق.. وشامت في مصابه حانق..! |
وهؤلاء هم أنبياء الله بعذبون من أقوامهم ويضطهدون في أوطانهم ويشمت منهم كل شامت ولا يفت ذلك في عضدهم، وليكن لنا اعتبار بنبي الله نوح الذي مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ولم يؤمن به إلا القليل ولم ينج من ألسنة الشامتين ولا سخرية الساخرين وهذا الله يذكرنا بحاله في قوله عن قومه وشكواه لربه (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في أذانهم واستشغوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً) ثم يحكي الله عنهم سخريتهم من نبيه فيقول (كما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه ..) وقال عن زمرة الساخرين فمن تمرد على اتباع الحق لأن فقراء المؤمنين اتبعوه (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) وقال عن كبر قريش وسخريتهم من فقر النبي صلى الله عليه وسلم وحاله (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)
ثانياً : أن العاقبة والنصر للمؤمنين :
نعم والله طال الأمد أم قصر ، استطال ليل السخرية أم انحسر ، فإنس نصر الله آت في الدنيا عاجلاً أو في الآخرة آجلاً ، وصدق الله تعالى إذ يقول (حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء.. ) وقال سبحانه (ولاتهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون..) وقال سبحانه يطيب خواطر المؤمنين (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون) وهذا نبي الله نوح عندما سخر منه قومه رد عليهم قائلاً (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون)
وماذا بعد ؟
وفي التفاته إلى النفس نقول لا بد أن نصارح أنفسنا ونقف وقفة جادة يقوم بها أهل الدعوة والحركة الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي ليراجعوا كشف حساب الدعوة ويتأملوا الخسائر والأرباح، وليقوموا بتقويم الماضي تقويماً أساسه الصدق والصراحة والشفافية بعيداً عن إلقاء التبعات على الظروف والواقع، وإلقاء تبعات المسئوولية على الغير، فالمجاملة في هذا الأمر وفي تلك الظروف لم تعد أبداً مقبولة، ممن يجب أن يكونوا هم التيار الإيجابي الذي تؤمل عليه الأمة لينتشلها من هذا الضياع وتلك الفرقة والتشتت، فهل يقوم الرجال الكبار بمثل هذا الوقفة ليضعوا الأصابع على الجروح، والنقاط على الحروف، ويستشرفوا المستقبل..
سبق قضاء الله فيما يلمّ بالإسلام.. والأيام دول والدهر غير.. ولا يضر النجم أن تراه على صفحة الماء . |
لقد حان الوقت وأزف لأن ينتشل الكبار أنفسهم من الاستغراق في تفاصيل العمل اليومي والذي قد يستطيع من هم دونهم في المسؤولية القيام به بشئ من التوجيه، وأن يفرغوا أنفسهم ليلقوا نظرة على الدائرة من فوق بدلاً أن يكونوا هم أحد حلقاتها، وأن يتحولوا من الهم التكتيكي الذي أكل أوقاتهم ويبذلوا جهدهم على الهم الاستراتيجي والاستشراف المستقبلي الذي يخلط الاستيعاب لسنن الله الكونية والشرعية في عمليات الهدم والبناء للأمم مع الحقائق والدراسات التي تعدها مراكز الأبحاث المتخصصة في دراسات المستقبل حتى لا يكون البناء القادم تكراراً فاشلاً لما سبق من تجارب قامت على الأمنيات والأحلام البشرية فقط؟
إن أسئلة كثيرة وبالحجم الثقيل أصبحت ملحة وضرورية وتبحث عن إجابات لا تقبل الانتظار والتسويف وتتنظر من يقوم بالإجابة عليها:
- هل آن الأوان للحركة الإسلامية أن تجتمع وبشكل جاد وصادق على نقاط استراتيجية واضحة حتى لا تتكرر الماساة في كل فترة حياة من الدعوة، فتعالج قضايا مصيرية مثل وحدة العمل الإسلامي بأي صورة من الصور التي تحقق أهداف العمل ونتائجه، وعدم الاستطراد كثيراً والمماحكة على شكل واحد من أشكال الاتحاد .
- كيف يمكن تحديد طبيعة المعركة الدعوية القادمة؟ وكيف ستكون آلياتها، وعناصرها ومناهجها التربوية وفهومها الإسلامية؟
- مدى القدرة على تحديد الأولويات بوضوح كامل مع تحديد للمسئووليات والتبعات؟
- كيف يمكن التعامل الذكي والخلاف مع المستجدات المتلاحقة والسريعة على الساحتين الفكرية والسياسية دون أن تضطرب الصفوف، وتنقسم الأفكار وتتيه البوصلة من التيار الإسلامي؟
ترتيب البيت العالمي :
من يقرأ التاريخ يدرك أن القوى العالمية التقليدية التي سادت في منتصف القرن، الماضي إنتهت إلى حربين عالميتين وإلى ثلاثة عقود منذ بداية الحرب العالمية الأولى وإلى نهاية الحرب الثانية لكي ترتب البيت العالمي، ففي الحرب العالمية الأولى 1917 تم اسقاط الخلافة الإسلامية، وفي الحرب العالمية الثانية 1938-1945 تم توزيع الغنائم على القوى التقليدية في معاهدات سايسكوبيكو وقبلها وعد بلفور، مما جعل المنطقة رهينة لهذه النتائج المرة التي عانى مازال يعاني منها العالم الإسلامي ومن ويلاتها .
ثم بعد ذلك نجد أمريكا بعد أن استطاعت ان تحسم الحرب الباردة لصالحها وتسقط الندية التي كان يتعامل بها الاتحاد السوفيتي معها سابقاً، وبعد أن انتهت من ترتيب البيت الأمريكي الداخل منذ زمن بعيد، وبعد أن حجمت الدول الأوروبية وجعلتها تدور في فلكها، يصبح السؤال المطروح مشروعاً: ماذا سيكون في أجندة الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة ترتيب البيت العالمي بشكل يضمن تفوقها ومصالحها؟ وهل ستستمر أمريكا في لعبة تهيئة الفرص لتنفيذ مخططاتها بشكل يضمن استمرار سياسة الاستعمار والعولمة الاقتصادية والسياسية بعد أن انتهى دور الاستعمار المباشر والغزو الثقافي الذي لبس رداء العولمة وحقوق الأقليات وصراع الحضارات؟
هلا سابقنا الأحداث.. واستشرافنا المستقبل .. وحولنا أمالنا إلى خطط مقننة وبرامج ماثلة.. وحياة واقعة.. . |
أسئلة نطرحها للمعنيين بالأمر بعد رؤيتنا للربيع العربي وسقوط طواغيت تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا في الطريق إن شاء الله ، ونرى أن الأيام القادمة حبلى، ولكن لمن لديه الصبر لكي يرى كيف سيكون السيناريو؟
خـاتــمة :
قد تكون هذه الكلمات ورقة من أوراق التاريخ التي لا يلتفت إليها إلا بعد حين، أو مجرد بطاقة اجتهد كاتبها على أن تكون من بطاقات الخير، التي ترفع الميزان يوم القيامة، حيث إنني وغيري كتبنا كثيراً في عملية تطوير العمل الإسلامي، وكنا نؤمل أن يكون هناك استجابات تدفع بهذا العمل لكي يحقق أهدافه المرصودة، ولكن أرض الواقع لم تعطينا ما كنا نؤمل، وهذا لا يدفعنا لليأس أبداًَ، بل إلى المزيد من العطاء والتصبر، ولعل ما نقوله لا يقبل اليوم ويقبل في الغد، أو لعل الفكرة لا تقبل من صاحبها إذا جاءت ابتداءً من مقولة ومنطوقة، ويتقبل إذا جاء بها الإنسان من منقولة، ولكنها في النهاية تقبل، لأننا لسنا ممن يحتكر الأفكار والعقائد، بل إن الفرح الصافي هو الثمرة الطبيعيية، لأن ترى أفكارنا وعقائدنا ملكاً لأخرين
[1] من وصف للجاحظ المتوفي سنة 255هـ انظر كتاب (البياو التبيين).
[2] ابن الجوزي صيد الخاطر ص219 ط المكتبة العلمية بيروت د.ن