بقلم الشيخ د. جاسم المهلهل الياسين

حسدوا الفتى إذا لم ينالوا سعيه      فالقوم أعداء له وخصوم

ومرد حسد العلماء إلى تفاضلهم في الاجتهاد، وتفاوتهم في الاستعداد لبذل الجهد، وتحمل المشاق والصبر على المكاره، وغير ذلك مما يستحيل أن يتم التساوي فيه بين الناس، لأن الله سبحانه اقتضت حكمته أن يتفاضل الناس فيما أعطاهم من شؤون الحياة، والسعيد من يرضى بما قسم الله له بعد أن يأخذ بالأسباب المادية المهيئة له لتحقيق ما يريد، ولذا جاء في الحديث: “وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس” والحاسد لم يرض بما قسم الله له، ولا بما قسم لغيره، ولذا فهو لا يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، لأنه يحب لنفسه الصدارة والسبق والتقدم ولا يحب لغيره من إخوانه ذلك، مما يدل على مخالفته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وأحب لأخيك ما تحب لنفسك تكن مؤمنا” والحسد دليل على ضعف الإيمان وتغلب الهوى على الإنسان وتملك الأثرة من نفسه، بحيث تغلبه في كل مجال ينبغي أن يكون فيه للإيثار نصيب وكان الله مقسم الأرزاق هو الذي نهى عن الحسد، وأمر بالاستعاذة من الحاسدين فقال: “ومن شر حاسد إذا حسد” وأظهرت آيات القرآن العجب ممن يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فقال سبحانه: “أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناه ملكا عظيما (النساء: 54)

وما كان الدافع وراء قتل هابيل على يد أخيه قابيل إلا الحسد، وما كانت المعاناة التي عاناها يوسف عليه السلام في غربته وسجنه وفراق والده وبيعه بثمن بخس، وحزن أبيه حتى ابيضت عيناه، وحتى اشتكى إلى الله بثه وحزنه، ما كان ذلك كله إلا بسبب الحسد والغيرة: “ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (يوسف: 8) إن نار الحسد تظل مؤججة السعير في قلوب الحاسدين، لا ينطفئ أوارها إلا بزوال النعمة عن المحسود:

كل العداوات قد ترجى إماتتها     إلا عداوة من عاداك من حسد

وينبغي للعلماء وقد حملوا صفة العلم أن يتخلوا عن هذه الصفة الذميمة، التي تقدح في علمهم، وتقلل من شأنهم، وتفرق شملهم، وتثير كوامن البغضاء بينهم، فإن وقعوا في ذلك ولم يحترسوا منه فإلى أي دعوة يدعون، وبأي حق يستمسكون؟

إن الدعاة العاملين يتكاملون ولا يتناقضون، ويعملون ولا يتجادلون، ويدعون إلى الله بالحسنى ولا يتحاسدون، ويرى أحدهم نجم أخيه يبزغ في سماء الدعوة إلى الله فيفرح بعضو جديد ينضم إلى العاملين، ويعاضد الداعين، ويعمل على إظهار الحق المبين، أما أن يحزن إنسان لظهور داعية جديد، ويفرح لكبوة داعية قديم. فليس ذلك من فعل المؤمنين الصادقين، إذ من قديم تقرر: “أن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه واتباعه نغفر له زلته ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه” (انظر كتاب إنصاف أهل السنة والجماعة – محمد بن صالح العلي ص28).

وقد بين ابن سيرين رضي الله عنه ما يجب على العلماء نحو هذه الآفة الخطيرة (الحسد) بقوله: “ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟”

وينبغي أن يكون طابع العلماء العاملين –وإن بعدت ديارهم- الإحساس بالأخوة والتواد والاعتراف بذوي الفضل وإعطاؤهم حقهم من التقدير والتكريم، وإظهار فضلهم بين الناس فذلك أجدى من الحسد، وأحق بالاستصبار والاعتبار.