بقلم الشيخ د. جاسم المهلهل الياسين

لكل دعوة أسس وقواعد، تنبني عليها، وتستمد منها نماءها وانتشارها بين الناس، هذه الأسس والقواعد تشربتها قلوب الكبار، ونشأت عليها وتعلقت بها عقول الصغار، وبقدر ثبات هذه الأسس وعمقها، وسلامتها، وموافقتها للفطر السليمة، والنفوس المستقيمة بقدر ما يحرص الناس عليها، ويتمسكون بها، ويعملون على نشرها، ويبذلون من أموالهم ومن دمائهم –إن اقتضى الأمر- في سبيلها.

ومن أجل ذلك يصعب العمل على تغيير قواعد الدعوة، أو التخلي عن بعض أنماطها، بل ويصعب العمل –أحيانا- على تجديد بعض وسائلها.

وكل محاولة تبذل في ذلك السبيل تلقى صدا وإعراضا كبيرين من الناس، مما يتسبب عنه الصراع بين الفرقاء، فتتبعثر الجهود، وتتوزع الطاقات، وتتشقق الصفوف، وتتزايد الفرقة، وتكثر الخصومات، وتتوالى الاتهامات، وتعلو وترتفع الظنون، وحجم كل صاحب فكرة جديدة عن عرض فكرته وتوضيح خطته، مما يجعل روافد الدعوة التي تمدها بالطاقة والحيوية والتجديد تتوقف، وينذر باضمحلال الدعوة بقواعدها وأصولها القديمة بعد أن يكون الزمن قد تجاوزها إلى غيرها، فإذا طال الأمد صارت غريبة بين قومها غير عزيزة على حماتها، بعد أن فقد الدعاة إليها حماسهم وحيويتهم، وفي هذا خطر يعرض الدعوة إلى التجميد، ويعرض الدعاة إلى الإعراض عنها، فكيف يمكن التغلب على هذه المشكلة والتخلص من هذه المعضلة؟ وبعبارة أوضح كيف تحافظ على القديم مع الاستفادة من الجديد؟

وليس في الأمر مشكلة كبرى –إن أحسنا التفكير والتقدير- لأن لكل شيء ذي بال أصولا يقوم عليها وفروعا تتصل به وتدل عليه وترشد إليه، والأصول –غالبا- لا اختلاف عليها، وإنما يكون الخلاف حول الفروع، التي لا يضر الخلاف حولها، لأن فيها سعة تتسع للناس جميعا على اختلاف قدراتهم ومواهبهم وجهودهم، وإذا فهمنا ذلك أمكننا أن نوائم ونوفق بين الجديد والقديم من غير نفور من القديم أو إعراض عن الجديد، لأننا لا نلغي القديم ولا نتجاهله، بل ندخل عليه من المستجدات والمستحدثات في الوسائل والفروع المساعدة، ما يعطيه دفعة قوية ومهارة عظيمة يتفاعل بها مع العصر، ويتزيا بزيه، فلا يبدو غريبا، ولا يكون عجيبا.

والمشاريع المكملة والخادمة، لا البديلة هي التي يمكن استخدامها في المزج بين القديم الذي يمكن لاستغناء عنه لأصالته وعراقته وبين الجديد الذي يفرض نفسه بحكم عصره، وأوانه، إذ لكل منهما منزلته التي لا يمكن الإغضاء عنها، فللقديم هدفه، وللجديد هدفه.

وجزء من مهمتنا الأساسية أن نعرف كيف نوظف كلا منهما في مكانه الصحيح من غير تضارب ولا تناقض، بحيث يتحقق الهدف العام منهما معا.

والتنظيمات الإسلامية –في بداية أمرها- إنما قامت على حسن اختيار الأفراد، وصبغتهم بصبغتها، وصنعتهم على عينها، بحيث يكونون منظمين فكرا، مستقيمين عملا، منضبطين سلوكا، متآزرين جهدا، بنيانهم مرصوص، وثباتهم معروف، وبذلهم ليس في حاجة إلى استثارة، ولا إلى استشارة، لا يقعدهم عن دعوتهم تهديد أو وعيد، ولا يصرفهم عن التضحية في سبيلها طمع أو ترغيب، وهذه الصفات لازمة للنخبة المؤسسة التي تقوم على عوائقها دعوة تحمل عبئها وتضحي في سبيلها، لأن هذه النخبة تعتبر الأصل، ولا بد في الأصل من أن يكون قويا ومتماسكا، يتحمل عوادي الزمن، أما ما يترتب على هذا الأصل ويتعلق به فليس من الضروري أن يكون متانته وقوته مساويا للأصل.

الأصل في النخبة التي تقوم عليها دعوة أن تتوافر فيها –بقدر كبير- هذه الصفات، أما الأجيال اللاحقة فليس بالضرورة أن تتوافر فيها كل هذه الصفات، وذلك لأن الدعوة تتسع وتمتد لتحوي في صفوفها أناسا كثيرين، قد لا يكونون في قوة الجيل الأول ولا يتمتعون بمثل صبره، ولا يتحملون مثل تضحيته، وإنما يكتفي منهم بشيء من ذلك مع اعتبار كثرتهم مددا للدعوة، يحملون في جموعهم الكثيرة بعض أعبائها، وهذا الذي تقرره ينطبق على الصحوة الإسلامية التي امتدت أكثر من الحركة الإسلامية، واتسعت وضمت في صفوفها الكثيرين، مما جعل الصحوة تسبق الحركة، ودفع الدعاة إلى طرح مفاهيم جماهيرية جديدة في معظمها، بدأ الجدل بها حول القديم والجديد، وطرح مبدأ التوفيق في الدعوة والحركة بين القديم والجديد كما فعل بعض الفقهاء في المسائل الفقهية، وحاول كثيرون أن يجعلوا الرغبة الجماهيرية مبررا مقبولا لهذه الدعوة التوفيقية، حتى لا تزيد التشققات والتمزقات.

وليس هذا –في نظري- حلا مرضيا، وإنما الحل ألا نعرض عن القديم وألا نغفل عن الجديد، فلا بد من أن يظل بناء الدعوة قائما على قاعدة صلبة من الانضباط والالتزام والثبات والتضحية والصبر الجميل، وهذه صفات ثابتة للمؤسسة الدعوية الأصيلة، ولا بأس أن تقوم إلى جانب هذه المؤسسة مؤسسات أخرى تتصل بالمؤسسة الأولى، تبني عملها وفلسفتها في تحركها الدعوي على المفهوم الجماهيري، وتسير المؤسستان جنبا إلى جنب بحيث يتلاشى الصراع، ويحقق كل اتجاه هدفه، فلا نتخلى عن قديم أثبت قوته وجدارته، ولا عن جديد أثبت انتشاره ومكانته، وإنما نجمع بين الطرفين، مدركين أن للقديم فرسانه ومحبيه، وللجديد كذلك فرسانه ومحبيه، ويظل العمل –بعد هذا المزج بين القديم والجديد- ساري المفعول، يجذب مجاميع من الناس، اختلفت مشاربهم نحو الدعوة فيعطيها ذلك كل حين مددا وقوة.