المتغيرات الكثيرة المتلاحقة إحدى سمات العصر الحاضر، فما كان يعد بالأمس القريب جديدا أضحى اليوم قديما، وقد يكون في الغد غير مقبول، لأن الزمن تجاوزه، والعهد به صار بعيدا، وتلك المتغيرات إحدى الحقائق العلمية في عصرنا، التي تؤثر على كثير من أنشطة الحياة، حتى في المجالات الفكرية والنفسية، فما عاد شيء، يتصل بدنيا البشر إلا ولحقه بعض التغيير أو إن شئت أن تقول بعض التطوير فلا حرج عليك في تلك التسمية، وليس الأمر في حاجة إلى دليل مكتوب، لأن كل المشاهد التي حولك في بيتك أو في مكتبك أو في السوق أو في غير ذلك ما هي إلا برهان مشاهد ودليل بين على ما نقول.
والثوابت الحياتية، تبقى لها هذه الصفة وإن تزيت بأزياء مختلفة، وتلونت بألوان شتى والدعوة إلى الله أحد أنشطة الحياة، بل هي من أهم الأنشطة عند المؤمنين، يبادرون إليها ويسعون إلى إظهارها بوسائل متعددة متغيرة، ورغم ثبات الدعوة على ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله الله عليه وسلم إلا أن وسائل الدعوة تتعدد بحسب ظروف الزمان والمكان وثقافة الداعية، وأحوال المدعوين، فما يصلح للناس في مكان ما على وجه الأرض لا يصلح لآخرين في مكان آخر رغم اتفاق الزمن، وما كان يصلح للناس منذ عقد أو عقدين لا يصلح لهم الآن، من هنا وجب على الدعاة أمران:
1- أن ينظروا إلى المستقبل على أنه الأمل المرتقب، الذي تحقق فيه الدعوة ظهورها، وتسلك فيه إلى كثير من الناس في الشرق والغرب سبيلها، متسلحة بأسلحة الحاضر التي يراها الناس ويسمعونها، في مجال الثقافة والتربية والحركة الإيجابية والسلوك الملتزم بحيث لا يظهر الداعية كراكب الدابة في الوقت الذي يركب فيه الناس كل الناس الطائرات الأسرع من الصوت أحيانا.
وإن من العجب أن يأخذ الإسلام بنيه إلى المستقبل في الدار الآخرة، فيتحدث القرآن حديثا مستفيضا عن الجنة ونعيمها وما أعده الله للمؤمنين فيها مما يجعل الوجوه تتهلل، والقلوب تستبشر، والنفوس تبتهج وتسر، ويتحدث كذلك عن النار وعذابها حديثا مستفيضا تعبس له الوجوه، وتبتئس له النفوس، وتضيق به الصدور، ويتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المستقبل، ويشد أذهان المسلمين إليه حتى في أشد حالات الضيق والكرب: “والله ليتمن الله هذا الأمر هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه”، قال ذلك، وقد جاء إليه خباب بن الأرت يشكو الأذى ويطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء للمسلمين والاستنصار لهم.
وفي كثير من مواقف الضيق والكرب كان صلى الله عليه يعطي للمسلمين الأمل في المستقبل القريب في الدنيا، والبعيد في الآخرة.
فما للمسلمين اليوم لا يكادون يفقهون من الحديث إلا ما كان عن الماضي، ماضي الإسلام والمسلمين، ماضي فلان الذي فعل كذا، وفلان الذي أصل، وفلان الذي نظر، وفلان الذي عاش ومات وهو يحمل في قلبه هموم دعوته، ولا بأس بذلك كله، وإنما البأس أن نقف عند هذا الحد، دون أن نتجاوزه إلى المستقبل المنظور.
2- الأخذ بالتخطيط لهذا المستقبل بحيث لا يكون أصحاب المشروع الإسلامي فيه نبتة تأتيها الرياح من أي اتجاه فتكفؤها، بل يكونون دوحة باسقة يستظل الناس بظلها، ويعرفون لها قدرها، وهذا يقتضي وضع برامج معينة، وإعداد قيادات مدربة، وغربلة للتراث الماضي، ومعرفة بتجارب الحركة الإسلامية، وما بها من كبوات أو نهضات، ويقتضي كذلك قيام المجامع الفقهية بإعادة صياغة الفقه الإسلامي، والنظر في المستجدات العصرية في ضوء قواعده وأسسه .. إلى غير ذلك مما يقتضيه هذا المستقبل الحافل بشتى التطورات والمتغيرات، بل المتناقضات أحيانا حتى لا يكون سلاحنا سيفا مثلوما في عصر الصواريخ والإلكترونيات.