حركية الفقه الإسلامي:
تنص المادة الثانية من مرسوم إنشاء اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أن:
(تتولى اللجنة وضع خطة لتهيئة الأجواء لاستكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ومراعاة واقع البلاد ومصالحها..)
ومعنى ذلك ومؤداه أن اللجنة العليا بصدد مهمة تاريخية تندر من خلالها ندور فقه عام جديد هو فقه “المراعاة” مراعاة واقع البلاد ومصالحها وما يعتبر فيه هذا الفقه من نواة ثقافة إسلامية جديدة ومعاصرة، فمن المسلم به أنه لابد للفقه الإسلامي أن يكون في حركة دائمة ومضبوطة حتى لا تفلت حركة الحياة من سلطان الفقه فينكشف عنها سلطان الدين ويقف المسلم حائرا ماذا يأخذ وماذا يدع.
والفقه الإسلامي لا يقوم إلا مرتكزا على مجموعة من العلوم الإسلامية أساسها العقيدة واللغة العربية وعلوم التفسير والحديث والأصول وغير ذلك من علوم تفرعت وتنوعت وتجاورت وتحاورت حتى كونت هذه المنظومة المتفردة في تاريخ الفكر الإنساني والتي تسقى بماء واحد هو كتاب الله المبين يمدها بكل جديد.

المرابطون:
والفقه الإسلامي في جميع أطواره حتى اليوم وبجميع أنواعه وفروعه مسئولية علماء الأمة، فعلماء الأمة حماة مرابطون على ثغورها الفكرية والثقافية كما أن جنودها حماة مرابطون على ثغورها الجغرافية.
واليوم تتضاعف هذه المسئولية أضعافا مضاعفة حتى لا نرى في أمم الأرض أمة تقوم حركة الفكر والثقافة والعلوم فيها على غير فقهها وثقافتها وعلومها إلا أمة الإسلام!
ولهذا تتضاعف مسئولية اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في قيامها بل نهوضها ببناء “النموذج الكويتي الشامل” المأخوذ من الشريعة الإسلامية بمراعاة واقع البلاد ومصالحها.

الواقعية وصحة الفهم وحسن القصد:
ومراعاة الواقع وما فيه من مصالح بميزان الشرع يتطلب صحة الفهم وحسن القصد فما المقصود بهما؟ في هذا يقول ابن القيم رحمه الله “وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده بحسن القصد وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته عن أتباع الهوى، وإيثار الدنيا وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى”، ولا يتم ذلك إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، والعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للمرأة التي حملت كتاب حاطب ابن أبي بلتعة لما أنكرته لتخرجن الكتاب أو لنجردنك إلى استخراج الكتاب منها.

الأصل في الفقيه والاقتصادي المعاصر:
مما ذكر يتبين أن الوظيفة الأساسية للفقيه هي فهم ودراسة الواقع وتفسير ما هو كائن وهي نفسها الوظيفة الأساسية للاقتصادي المعاصر فكلاهما يشترك في دراسة وتفسير الظواهر الاقتصادية (الواقع) وبيان العلاقة بينهما ومن هنا نستطيع القول: إن كل فقيه اقتصادي بحسب الأصل وما ينبغي أن يكون، أما مهمة استنباط الحكم شرعي من أدلته التفصيلية وإنزاله على واقعات الواقع فهو عمل الفقيه بحسب ما ينبغي أن يكون، وهذا ما يقصر عنه عمل الاقتصادي المعاصر بسبب ما يقوم عليه الواقع الحاضر من فصل تام بين الفقيه والاقتصادي مع أنهما متلازمان ومتكاملان.
أما ما يترتب على دراسة الظاهر واكتشاف العلاقة بينهما من “التوقع” فيدخل فيما يسمى بالبدائل الشرعية، فالفقيه بحسب الأصل لا يكتفي ببيان الحكم الشرعي بل أيضا بتقديم البدائل والحلول الشرعية لما يواجه الناس من أقضية ومشكلات وآثر بعضهم أن يسميها “وجوه المخارج من المضائق” (3)

يا لها من مسئولية وطنية شرعية:
يا لها من مهمة تاريخية وحضارية ومسئولية وطنية شرعية تتحملها اللجنة الاستشارية العليا للعمل على استكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في حسن فهم الواقع الكويتي والتوصل فيه إلى ما يرضي الله ورسوله في بناء النموذج الشرعي الكويتي الذي يعبر عن عالمية الإسلام وشريعته، وحسنا فعلت اللجنة فيما أنجزته من القانون المدني، إذا جاء نص المادة الأولى في فقرتها الثانية من القانون رقم 15 لسنة 1996 بتعديل المادة 2 من القانون المدني رقم 217 لسنة 1980 جاء ولأول مرة في تاريخ الفقه الإسلامي وفي القوانين المأخوذة منه “بتقنين فقه الواقع” بما يعنيه التقنين من وضع الحكم في نص قانوني ملزم للقاضي وللمتقاضى وتم بذلك تثبيت النظرية “الموضوعية” في الفقه الإسلامي كنص قانوني بين النظريات القانونية السائدة في العالم اليوم وهما: النظرية المادية والنظرية الشخصية، إذ يقول النص الجديد المعدل في القانون المدني الكويتي: “فإن لم يوجد نص تشريعي حكم القاضي وفقا لأحكام الفقه الإسلامي الأكثر اتفاقا مع واقع البلاد ومصالحها، فإن لم يوجد حكم بمقتضى العرف”.

ولعمري إن هذا وذاك لهو الجديد في فقه الواقع اليوم، وصدق الله العظيم القائل:
“وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون” الزخرف (44)

والله الموفق والمستعان

الهوامش:
_______________________________________________________
(1) د. محمد أبو موسى – الوعي الإسلامي – يوليو 96
(2) إعلام الموقعين 1/87 وبأسرها
(3) ابن نخيم الأشباه والنظائر 92-93