إن التنازع والخلاف في كل ما يتصل بحياة الإنسان إنما يحكم فيه خالق الإنسان وهذا ما كان سائدا بين البشر حتى حرف رجال الدين دينهم الذي ارتضاه لهم ربهم.
لقد زعم رجال الدين في أوروبا أن الله خولهم خاصية التحليل والتحريم للناس ومن ثم فهم يملكون الغفران والحرمان كما أنهم المصدر الوحيد لجميع العلوم ولهذا أفتوا في العلوم التجريبية كالطب والهندسة والجغرافيا والفيزياء فخالفهم أهل الاختصاص فكان أن زعم البابوات بكفر هؤلاء العلماء وأمروا بقتلهم وحرق آخرين وقد كانت نتائج هذه المظالم قيام ثورتين:
الأولى: الثورة الفرنسية التي انتهت بفصل الدين عن الدنيا، فكانت ثورة ضد رجال الدين في انحرافهم وليست ضد الدين الذي يخول الشعب حق التحليل والتحريم، وبهذا انتقل التحليل والتحريم من البابوات إلى الشعب الذي لا يستطيع أن يمارس هذا بنفسه فاختاروا أن تمارسه الحكومة عن طريق البرلمان طبقا للنظام الديمقراطي.
الثورة الأخرى: هي الثورة الشيوعية في روسيا وكانت أكثر تطرفا فأنكرت الدين وادعت أنه أفيون الشعوب وأن الحياة مادة وأنكرت الألوهية وقد أصبحت أقوال كارل ماركس هي دين الشيوعيين لا يحيدون عنها وهي إلههم إنه ما زالت البشرية في شقاء من هذين المذهبين (المذهب العلماني الأوروبي والمذهب الشيوعي) ولقد اختلف اتباع هذين المذهبين فظهرت اتجاهات وتكتلات داخل الشيوعيين وأخرى عند العلمانيين الغربيين ولا يملك أي فرد أو نظام أو تيار أن يحسم هذه الخلافات، وقد نسي هؤلاء جميعا أن الله تعالى قد أرسل خاتم الرسل ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه وليصحح هذه الانحرافات.
إن التخلف والخسران المبين يرتبط بالكفر بالله، والتحضر والسعادة ترتبط بالإيمان بالله والعمل الصالح.
قال تعالى: “والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر“
وقال تعالى: “وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم“
وقال تعالى: “ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم“
إن كنز الأموال والخيرات وحجبها عن المستحقين لها من الفقراء والمستضعفين يؤدي إلى هلاك المال والحرث والنسل، قال تعالى: “وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين“
وقال تعالى: “وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم“
إن عدم الاستقامة على أمر الله والطغيان وشيوع الفواحش والمنكرات، يؤدي إلى هلاك الفرد والمجتمع.
قال الله تعالى: “فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا..” الأنعام (44)
وقد روى مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ظهر الغلول <سرقة المال العام>) في قوم إلا ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر في الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير حق إلا نشأ فيهم الدم ولا فتر قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو.
التحضر والرقي يرتبط بالقيم الإنسانية وهي قيم الفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى: “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون” الروم (30)
أواصر القرابة والجنسية واللون والقبلية والأرض والمال، كل منها ما لم يكن تابعا للدين يصبح معول هدم للحضارة، وقد أنكر القرآن هذه الروابط إن صادمت الدين ولم تكن تابعة له:
وفي إنكار الاستعلاء لهذه الروابط قال الله تعالى: “قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وأخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيلة فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين” التوبة (24)
إن التحضر الأوروبي الكاذب جعل الفواحش حقا للمرأة تحت اسم الحرية حتى انتهى دور الأسرة وحل محلها أولاد السفاح تحت اسم الأولاد الطبيعيين وذلك على الرغم من الأمراض الخطيرة التي تهلك الحرث والنسل والتي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم بقول (ما ظهرت الفاحشة في قوم يعمل بها علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم).
من أجل ذلك فحضارة الإسلام هي التي تحقق للناس الأمن والسلام، وسواها مما يسمى حضارة إنما يشبع رغبة إنسانية على حساب رغبات أخرى فيشقى بها الفرد والأمة.