التفاعل الاجتماعي:
القضايا الاجتماعية لا يقتصر تأثيرها على فئة معينة من الناس، لأن المجتمع دوحة كبيرة تتواصل فروعها وأغصانها، وتتأثر بما يجرى في جذعها من عصارة مستمدة من التربة أو متأثرة بالحرارة والهواء، ولذا فإن المهتمين بالشأن الاجتماعي وغير المهتمين يؤثرون في المجتمع ويتأثرون بما يجري فيه، مع اختلاف في درجة التأثر والتأثير نظرا لعوامل كثيرة تجعل بعض الناس أكثر إحساسا وأعظم تجاوبا مع قضايا المجتمع، فيقبلون على حمل الأعباء، ويضحون بالوقت والجهد في إزالة العلل الاجتماعية، لأن بقاءها واستشراءها كفيل بخلخلة المجتمع وإحداث بعض الثغرات فيه، ولذا تتضافر الجهود لتسد منافذ البطالة أو تقضي على المخدرات، وتحاول إقامة مؤسسات لليتامى والعجزة ولمن يرغب من كبار السن، وتحاول القضاء على الأمية، وتيسر سبل الزواج أمام الشباب وغير ذلك مما يتصل بهذا الأمر الاجتماعي، حتى يظل للمجتمع وجهه الإنساني المشرق وإحساس المشاركة والتعاطف بين ساكنيه والمجتمعين فيه.
العنوسة:
ومن القضايا الاجتماعية التي برزت كظاهرة تأخذ نسبة مئوية بين قضايا المجتمع ظاهرة “العنوسة” التي تختلف نظرة المجتمعات إليها بحيث تتحول في بعض الأحيان من النقيض إلى النقيض، فبينما نحن في شرقنا الإسلامي ننظر إلى صاحبة هذا الوصف نظرة ملؤها التقدير والاحترام، لأننا نرى فيها أختا أو بنتا، لم تجن ذنبا ولم ترتكب إثما، يرى غير المسلمين أنها السبب في إلحاق هذا الوصف بها، فهي -في رأيهم- مذنبة، لأنها لم تبذل نفسها رخيصة على مذبح الشهوة الآثمة حتى يقبلها المجتمع، وتظل تلاحقها الوصمات أينما حلت حتى تفقد آدميتها وإنسانيتها، ونظرة تلك المجتمعات غير الإسلامية إلى “العانس” هي جزء من نظرتهم إلى المرأة التي إن لم تكن صاحبة مال أو جمال تتابعت عليها الآلام، ولحقت بها الإهانات، فلا يشعر ابن نحو أمه -هناك- بغير النفور والتقزز، إن احتاجت منه إلى دريهمات تقتات بها، وتدفع البنت في بيت أبيها – بعد سن معينة- تكاليف نفقتها ومعيشتها، بصرف النظر عن مصدر كسبها.
فالاحترام مفقود هناك لغير صاحبة المال والجمال، فهل يبقى للعنوسة شيء من التقدير عند أصحاب النظرة المادية في المجتمعات المعاصرة؟
ولسنا في مجال المقارنة والموازنة بين المرأة الغربية والمرأة الشرقية، وإنما نحن نحاول أن نتعرض لظاهرة اجتماعية موجودة بيننا، ونحمد الله أن جعل نظرة الجميع إلى هذه الظاهرة نظرة طبيعية لا ميل فيها نحو الإفراط أو التفريط، ولا شطط في الحكم لها أو عليها، ويكفى أن جميع المسلمين يدركون أن صاحبة وصف “العنوسة” لا يد لها في هذا الوصف، ويبقى أن تدرك صاحبة الشأن وأن يستقر في وجدانها أنها لا نقص فيها ولا عيب يلحقها، وأنها جديرة بالاحترام والتقدير، فإنما يعاب المرء ويذم بما جنت يداه واقترفت من الذنوب جوارحه.
أما ما لا دخل له فيه فليس هناك ما يعاب به، لأن أقدار الله تجري على البشر وهم يتلقونها بالرضا والتسليم، أيعاب إنسان بسواد لونه؟ أيعاب إنسان بطوله؟ أيعاب إنسان بقصر قامته مثلا؟ كلا .. لا يعاب أحد منهم بشيء من ذلك، لأنهم لا دخل لهم فيما يلحق بهم من مثل هذه الأوصاف، وكذلك “العانس” لا دخل لها في هذا الوصف، فلها من المجتمع كل التقدير والاحترام.
إنما يلام الناس على سوء أخلاقهم، ورداءة سلوكهم، وشناعة أقوالهم يلام الناس على خيانة الأمانة، وعلى تهديدهم للأمن والسلامة، وعلى حرصهم على غمط الآخرين حقهم، واستيلائهم على جهودهم.
أما الأوفياء الأمناء أصحاب الذمم النقية، والهمم الفتية، الباذلين لغيرهم في مجتمعهم مما ملكت أيديهم فعلام يلامون؟ وبم يؤاخذون؟
إن الإنسان إنما يقاس بمدى نفعه للآخرين من البشر، ومدى ما قدم لغيره، ومدى ما تحلى به من إيثار في سبيل الآخرين، ولا شيء يعيب هذا الإنسان طالما تمسك بالخلق القويم والسلوك المستقيم، ونحن هنا لا نتحدث عن الأسباب البشرية التي كتب فيها من قبل، مثل (إعراض الشباب عن الزواج – غلاء المهور – وجود الفارق الاجتماعي بين الخاطب والمخطوبة – انتشار أماكن الرذيلة) إلى غير ذلك من الأسباب.
باب العمل الاجتماعي:
والمجتمع يدرك أن هذه “العانس” جزء منه، وفرع في دوحته، لا يستغنى عنها، ولذا فإن أبواب العمل الاجتماعي أمامها مشرعة مفتحة، وهي أبواب عديدة تدخل من أي باب شاءت، لتشارك أبناء المجتمع في بنائه، وتشاركهم في تخفيف آلامهم، وإزالة متاعبهم، فإن المؤمن والمؤمنة لا يقف عند حدود ذاته، بل يتعدى ذلك، لأنه يدرك (أن الرسول صلى الله عليه وسلم يربط بين الفرد ومجتمعه في صورة تجعل الفرد عاملا من أكبر عوامل تدعيم المجتمع كي يصبح صالحا نافعا، فلا يغدو الفرد عضوا سلبيا كليلا لا ينفع أحدا من المجتمع الذي يعيش فيه، بل يصبح عنصرا فعالا، يتعايش مع مجتمعه مؤديا ضريبته الإنسانية، وبهذا يصير الفرد شيئا له كيانه وفائدته، وذلك يدفع المجتمع نفسه إلى الاهتمام بشأن الفرد والعناية بأمره في كل ما يرفع من شأنه في هذه الحياة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “على كل مسلم صدقة، فقالوا: يا نبي الله .. فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا فإن لم يجد؟ قال: فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها صدقة“).
والحديث لم يترك درجة من درجات القدرة الإنسانية إلا كشف عنها وفتح الطريق أمامها لتعطي مما تملك للمجتمع بغير حدود، فمن كان صاحب مال فسخاؤه مطلوب، ورحمته بالسائل والمحروم لازمة، ونفقته على المحتاجين والفقراء واليتامى والمساكين لا غنى عنها -بقدر وسعه- والمؤمن على العموم (عف الفرج، عف اللسان واليد، ملتزم بواجبات المجتمع، لا يخون أمانة، ولا يغدر في عهد، ولا يكذب أو يكتم شهادة الحق) (1) وكل أعماله في خدمة الآخرين عبادة (فإلقاء السلام عبادة .. وعيادة المريض عبادة .. وزيارة الأخ في الله عبادة، وأن تبسمك في وجه أخيك صدقه، والكلمة الطيبة صدقة .. ومصافحة أخيك صدقة .. وأن مسح رأس اليتيم عبادة، وصلة الرحم عبادة، وبر الوالدين عبادة، وإغاثة الملهوف عبادة، وقضاء الحوائج عبادة، ومساعدة المحتاج عبادة ولو أن تحمل عنه شيئا يثقل عليه) (2).
فمعظم القضايا الاجتماعية تدخل في دائرة العبادة بمعناها العام الشامل وينال فاعلها الثواب العظيم من الله رب العالمين، إن أخلص نيته وأحسن عمله، وفيها مجال فسيح لكل من يريد أن يعمل خيرا ذكرا كان أم أنثى، متزوجا أم غير متزوج، وما على الإناث إلا أن يتخيرين من بين الأعمال الاجتماعية ما يناسبهن، ليعملن فيه بقدر طاقتهن واستعدادهن، ولسنا بذلك نقلد الغربيات في أعمالهن لأن الغربيات لم يهتممن بالأعمال الاجتماعية إلا في القرن الأخير، على حين أن المسلمات منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لهن أعمال نافعة في المجتمع، (فقد كانت أم المؤمنين زينب بنت جحش امرأة صناع اليد، فقد كانت تدبغ وتخرز ثم تتصدق في سبيل الله، وكانت امرأة عبدالله بن مسعود سيدة تتكسب وتنفق على ولدها وزوجها، وولى عمر امرأة للإشراف على جانب من السوق .. وكن -النساء- يخرجن في الغزوات يداوين الجراح ويسقين العطشى، وكان كبار الصحابة يسألون السيدة عائشة رضي الله عنها عن الفرائض، وكانت من أفقه الناس، وأحسنهم رأيا في العامة).
وظلت النساء يعملن في رفعة شأن المجتمع ويقدمن له مما يملكن من جهد أو مال ما يستطعن، وكم كانت لهن أعمال نافعة في خدمة المسلمين، وما زالت أسماؤهن يتحلى بها سجل التاريخ ويسطر لهن الفخار والتقدير دون نظر إلى أن هذه المرأة متزوجة أم هي غير ذات زوج.
وما زال عطاء المرأة في مجال الخير لا يقل عن عطاء الرجل، بل يسبق العمل الخيري النسائي في بعض المجالات أعمال الرجال.
وقد تكون الفرصة مهيأة أكثر أمام غير ذات الزوج لتنضم إلى العمل الاجتماعي بنفسها أو برأيها وقلمها أو بمالها، فتمسح رأس اليتيم، وتقدم العون للمحتاج، وتخفف أعباء الأرامل والفقراء، فتقدم للآخرين الرعاية والعناية وتساعد في صنع الخير لمن حرموا منه، إن مجال الخير مفتوح على مصراعيه وهو يتسع لكثير من الناس ليشاركوا في العمل من أجل الآخرين، الذين إن لم نساعدهم بأنفسنا وجهودنا ساعدناهم بأموالنا وصدقاتنا، وتركنا بينهم أثرا عظيما من التقدير والاحترام.
__________________________________________________
(1+2): السلوك الاجتماعي في الاسلام ص16،18
جهود غير المتزوجين:
إن ظاهرة (العزوبة) بين الذكور أو بين الإناث ليست ظاهرة جديدة، ومشاركة أصحابها في بناء المجتمع مشاركة قديمة، فقد كان من بين العزاب المحدثون والفقهاء والباحثون وعلماء اللغة والأدباء والشعراء والباحثون وكان من بين العانسات العابدات الزاهدات كرابعة العدوية والأديبات الناشطات مثل (مي زيادة) ومن حملن على عاتقهن مشاكل الأيتام أو الفقراء، أو المرضى والعجزة، ومنهن من قامت بدور رائد في مجتمعها، لأنها لم تنظر إلى ذاتها، وإنما نظرت إلى يتامى المجتمع على أنهم أبناؤها، وإلى مرضى المجتمع على أنهم أخواتها، وإلى العجزة والمقعدين على أنهم شركاؤها في الحياة، يستحقون منها العون والمساعدة باليد أو بالقلم أو بالمال، ومن هؤلاء كانت (جين آدامز) تلك التي ركزت دراستها في الطب لتعيش للفقراء، فقد كان شعورها ببؤسهم يطغى على تفكيرها (ولذا) صممت على استئجار منزل في شيكاغو تجمع فيه كل من تتحرك فيه العواطف النبيلة لمساعدة الآخرين، وأخذ المتطوعون يتدفقون عليها للاشتراك في تشييد الوحدة الاجتماعية التي سميت: (هل هاوس) والتي عنيت بالأطفال والشيوخ، وكافحت ضد مرض السل وحدت من انتشار وبيع المخدرات، وقد نالت (جين آدامز) هذه جائزة نوبل على خدماتها، ونالت هذه الجائزة كذلك عنساء أخرى هي (غابريللا مسترال)، تلك الشاعرة التي تملكتها نزعة أمومة قوية لم تعط فرصة تغذيتها فحولتها إلى أطفال الآخرين، وقد كانت صاحبة نظرة شمولية تنظر إلى الإنسانية كأنها أسرة واحدة، رافضة التمييز بكل وجوهه، فالإنسان يقدر بقيمته وكيانه الإنساني، وليس بعرض من أعراض الحياة الدنيا.
وكم من فتاة عانس في بلادنا العربية كانت ملء السمع، بعد أن حققت بأعمالها شهرة كبيرة في مجال العمل العام، ومن هؤلاء (ولادة بنت المستكفي)، و(حسانة التميمية)، و(الزباء بنت عمير) وغيرهن في القديم والحديث، وكم من امرأة لها باع طويل في المشاركة في بناء المجتمع، والتفاعل مع مشاكله وقضاياه لا يدفعها الزواج إلى ذلك العمل، ولا تمنعها “العنوسة” من مزاولة الخير وتقديم النفع والحرص على العمل العام.
ومجال المجتمع مفتوح يتسع لكل صاحب طموح تزوج أم لم يتزوج، والمشاركة في بناء المجتمع تغني بعض الذين وهبوا أنفسهم لخدمته عن غيره، والأمثلة عديدة في تراثنا القديم وفي عصرنا الحديث، وفي المجتمع الغربي الحديث، فكم من واحدة أخذت على عاتقها القيام بعبء مجموعة بذاتها في ركن من أركان الأرض، فسعت إليهن الصحف، وأتتهن الجوائز العالمية، وسعى إليهن -في احترام- كبار الرجال.
فلسنا نعدم في مجتمعنا الإسلامي كثيرات قمن وما يزلن بخدمات كثيرة، وإن زهدن في الدعاية لأنفسهن والإعلان عن أعمالهن، دون أن يشعرن أنهن فقدن شيئا، أو أن في حياتهن نقصا، والعمل الخيري الكويتي يشهد بذلك فكم من مسجد حمل اسم محسنات، وكم يتيم كفلته النساء، وكم من مدرسة شاركن في بنائها، وكم من بئر للمياه حفر على نفقتها، وما يزال هذا الباب مفتوحا أمامهن يشاركن فيه بالمال أو بالجهد إن أردن، والأبواب الأخرى لم تغلق ولن تغلق في وجه من تريد الخير، وتفعل البر حملت لقت (سيدة) أم ظلت عذراء تحمل لقب الآنسة.