الشيخ / د. جاسم مهلهل الياسين
عالمنا اليوم يسعى حثيثا نحو الاختصاص، فالعلم الواحد يتفرع إلى جزئيات عديدة، والعمل الواحد تنتجه عدة مصانع كل منها متخصص في ناحية بعينها، ثم تجمع هذه الجهود في عمل معين يعرض في الأسواق ويباع للناس بعد مروره بمراحل من الإنتاج تتجمع وتتصل لتشكل في النهاية تلك السلعة، وهذه التجزئة سواء مثلت سلعة كاملة أو جزءا من سلعة هي ما تحاول أن تقوم به المؤسسات والدول، فيما يسمى اليوم “بالخصخصة” التي تعني كذلك رفع يد الدولة عن عمل مؤسسة من المؤسسات ذات الشأن وتركها لأفراد يديرونها أو لبعض أفراد يشاركون في شراء أسهمها وأعمالها مشاركة جزئية أو انتقالا كليا، وكل ذلك من أجل زيادة الإنتاجية ورفع الكفاءة وتدفق العطاء البشري، ويأتي هذا الأمر طبيعيا اليوم، حيث تداخلت الأعمال وتزاحمت الأفكار وكثرت المشاغل، وهذه الأمور تدفع إلى إلزامية التخصص في الأعمال، ومن هذا المنطلق سنقف عند توجه بدأ يسري في أوساط الكثير من المبدعين في العمل الإسلامي، ألا وهو الإسراع نحو الهدف النبيل من أقصر طريق وبأيسر وسيلة، وهذا الشيء لا غبار عليه إن لم يأخذ طابع التسرع والعجلة، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، والمطلوب منا أن نرتقي بمستويات العطاء ونحن نقتحم الحياة ونقدم للناس هذا الدين أن نكون متسلحين بالعلم والإيمان والمعرفة بالأمور الجائزة والممنوعة في الميدان الذي نلجه، فعلى سبيل المثال نجد عند الكثيرين من المتحمسين لتطوير العمل اقتناعا بأنهم لا بد لهم من أن يفعلوا كذا وأن يصلوا إلى الناس في أماكنهم ولو كان في هذا الوصول تلطيخ لأثوابهم وأجسادهم بالطين، فالذي يقوم بإنقاذ الناس من البحر لا بد أن يبتل ثوبه ويصاب بأمراض البرد، ولا يأمن كذلك أن يغرق، ونحن إذ نشكر للمبدعين والمتحمسين هذه الروح منهم نخشى عليهم ألا يستطيعوا التخلص من لوثات هذه المغامرات لا لضعف في إيمانهم ولكن لعدم تخصصهم وقلة علمهم بالضوابط والقواعد الشرعية التي يجب أن ينطلقوا منها في تحركهم الإبداعي وإنتاجهم المتميز، فالمسلم قبل أن يفكر في إنقاذ الآخرين يفكر كيف ينقذ نفسه بين يدي الله يوم القيامة، ولهذا نجد أنه في عهد الصحابة رضوان الله عليهم كانت المسألة الفقهية تدور على ثلاثين من الصحابة رضوان الله عليهم، يدفعها كل واحد لأخيه يريد النجاة من غير جهل منه، وفي النهاية يفتي مضطرا لا مفتخرا!! وهكذا المسلم يحرص على إنقاذ نفسه قبل إنقاذ الآخرين!!
ولخطورة الدخول في مزالق الصراع مع الباطل نذكر مثالا من التاريخ: الإمام الغزالي قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 19/322: (الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام أعجوبة الزمان، زين الدين أبو حامد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط)، هذا الإمام ألف في ذم الفلاسفة “كتاب التهافت” فلم تقم لهم قائمة بعد ذلك، ولكن ماذا حصل نترك الإمام أبا بكر بن العربي ليقول: “شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة وأراد أن يتقيأها فما استطاع” 1 هـ19/327.
“هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بمعلوم أصلا” |
وكذلك دخل على المناطقة متأثرا بهم حتى قال عن علم مبنى على المنطق الصوري اليوناني: “هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بمعلوم أصلا” السير 19/329، المستصفى 1/10.
وقد امتدحه المازري في الفقه والأصول، ولكنه بين أن ما جاء به من أقوال شاذة في أصول الدين إنما هو من أثر تبحره في الفلسفة حيث أكسبته الفلسفة جرأة على المعاني وسهولة في الهجوم على الحقائق .. 9/341.
ومع ذلك قال الإمام الذهبي عنه: “الغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ”.
وما كان من سبب لما وقع به الإمام من سقطات القوم إلا أنه دخل على القوم قبل ثبوت الرجل بالسنة النبوية المتبوعة، ففي كتاب الإحياء أحاديث لا سند لها عدتها 943 حديثا، ذكر ذلك الإمام السبكي في طبقاته 6/287،388، وقد بين ذلك الكثير من العلماء، (انظر السير 9/322-346 1-هـ)
وفي المقابل نرى أن شيخ الإسلام ابن تيمية دخل في علم المنطق وهدمه في كتابه (الرد على المنطقيين)، وخرج في الغالب سالما من لوثاتهم حيث كان مؤهلا للدخول في وحل المناطقه مع القدرة على الاحتراز من التلطخ بطينه، وإن كان ولا بد من إصابته بشيء منه، فقد استطاع أن يتنظف منه والمطلع على كتب الشيخ يجد أنه لا أثر عليه من الغوص في مغاليق المناطقه حتى قالوا: إنه عرفها أكثر من أربابها.
وواقعنا اليوم يحتاج إلى جرأة لاقتحام المستجدات وإسقاط الأحكام والقواعد العامة عليها مستجداته ولكن من له ذلك؟ إنهم أهل الاختصاص والمحققون في العلوم، فالدقة في البيان والإفتاء عند النوازل وتفصيل الأمور وتيسيرها بما لا يتعارض مع النصوص والقواعد الشرعية أمر يحتاج إليه العاملون في تحركهم، فنحن اليوم نحتاج إلى أصالة وصلابة شيخ الإسلام ابن تيمية، كما نحتاج إلى دقة الإمام الحافظ: محمد بن إسماعيل البخاري عندما بين مسألة اللفظ بالقرآن، فقال: القرآن كلام الله لفظا ومعنى، ولكن لفظي في القرآن مخلوق.
وكان الإمام أحمد لا يرى الخوض في هذه المسألة لقربها من فتنة المعتزلة في القول بخلق القرآن، ولكن بعد انتهاء ذاك الزمان كان لابد من الدقة في البيان الذي انبرى له الشيخ الإمام: محمد بن إسماعيل رضي الله عنه، وبعد قوله انقسم الناظرون إلى هذه الجرأة المبنية على العلم والفهم، فقال الإمام الذهلي وهو شيخ البخاري عندما كان في نيسابور: “من جلس مجلس محمد بن إسماعيل فقد تجهم”، لقوله باللفظ، ثم جاء بعد ذلك الإمام المحقق ابن قيم الجوزيه ليقول عن عبارة الإمام البخاري: “نهى الإمام أحمد أحوط، وقول البخاري أدق” ونحن عند أمن الفتنة نحتاج إلى الدقة وخصوصا أننا في بحر مائج متلاطم لا نهاية له، ولهذا نطلب من إخواننا الذين يخوضون في بحر الإبداع والتجديد والدخول إلى المستجدات في الحياة أن يتحصنوا بلباس العلم الأصيل المبني على الكتاب والسنة وأن يعطوا لأهل الاختصاص والعلم حقهم في توجيه المسار الدعوي والحركي.
وفي النهاية نسأل الله السلامة للجميع وأن يوفقنا إلى اتباع الوسائل الصحيحة للغايات العالية.
والحمد لله رب العالمين
من له الحق…؟ (2)
الشيخ / د. جاسم مهلهل الياسين
خطورة مزالق الصراع مع الباطل لا تخفى على العاملين المخلصين في المجال الدعوي |
خطورة مزالق الصراع مع الباطل لا تخفى على العاملين المخلصين في المجال الدعوي، رغم وقوع البعض أحيانا في شراكها وعدم قدرتهم على التخلص من أحابيلها، وخاصة إذا كان فيها بعض النفع الدعوي في الوصول إلى مجموعة معينة، أو طائفة خاصة من الناس، تغرى الدعاة بالوصول إليها، لمناقشة أفكارها، وبيان زيفها، وما لم يكن هؤلاء الدعاة على قدر كبير من سلامة الصدر من كل شائبة، فإنهم قد يتأثرون بأفكار بعيدة عن المنهج، بحيث يصعب عليهم التخلص من آثارها.
وضربنا مثلا بذلك الإمام أبا حامد الغزالي الذي كتب (تهافت الفلاسفة) فزلزل الأرض تحت أقدامهم ولم تقم لهم من بعده قائمة، ولكنه -رحمه الله- لم يستطيع أن يتخلص من كل أدران الفلسفة، فجاء عمله في السنة فيه شيء من التساهل حتى إنه جمع في كتابه الإحياء ضمن ما جمع 943 حديثا لا سند لها كما ذكر ذلك الإمام السبكي، وهذا ما يفسر قول الإمام أبي بكر بن العربي عنه: “شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة وأراد أن يتقيأها فما استطاع.
وخلصنا من ذلك بأن التريث لا ضرر منه والعمل بثقة وروية أمر مطلوب.
وحتى لا يفسر هذا الاستنتاج على غير تأويله ولا يحمل على غير محمله فإننا نقدم صورة لإمام آخر اقتحم هذه اللجة دون أن تبتل ثيابه، وخاض غمار الفلسفة والمنطق دون أن يتغير عطاؤه الدعوي بل إنه ازداد رسوخا على رسوخ وعطاء على عطاء، ناقش المتشككين، ودحض شبههم وأزال باطلهم دون أن يتأثر تفكيره، أو يقل تأثيره.
إنه الإمام ابن تيمية الذي دخل في علم المنطق وهدمه في كتابه (الرد على المنطقيين)، وخرج في الغالب سالما من لوثاتهم حيث كان مؤهلا للدخول في وحل المناطقه مع القدرة على الاحتراز من التلطخ بطينه، وإن كان ولا بد من إصابته بشيء منه، فقد استطاع أن يتنظف منه، والمطلع على كتب الشيخ يجد أنه لا أثر عليه من الغوص في مغاليق المناطقه حتى قالوا: إنه عرفها أكثر من أربابها، فأصالة الإيمان وصلابته هي العدة التي لا يمكن التخفف منها ونحن ندعو إلى هذا الدين، والتهاون في أي أمر من أموره -وإن تم عن جهل أو عن غفلة، أو عن استسهال للطريق- هو في ذاته عين الضرر وموطن الخطأ الذي يصاب به العاملون، علموا ذلك أم جهلوه.
وواقعنا اليوم يحتاج إلى جرأة لاقتحام المستجدات وإسقاط الأحكام والقواعد العامة عليها ولكن من له ذلك؟ إنهم أهل الاختصاص والمحققون في العلوم، فالدقة في البيان والإفتاء عند النوازل وتفصيل الأمور وتيسيرها بما لا يتعارض مع النصوص والقواعد الشرعية أمر يحتاج إليه العاملون في تحركهم، فنحن اليوم نحتاج إلى أصالة وصلابة شيخ الإسلام ابن تيمية، كما نحتاج إلى دقة الإمام الحافظ: محمد بن إسماعيل البخاري عندما بين مسألة اللفظ بالقرآن، فقال: القرآن كلام الله لفظا ومعنى، ولكن لفظي في القرآن مخلوق.
وكان الإمام أحمد لا يرى الخوض في هذه المسألة لقربها من فتنة المعتزلة في القول بخلق القرآن، ولكن بعد انتهاء ذاك الزمان كان لابد من الدقة في البيان الذي انبرى له الشيخ الإمام: محمد بن إسماعيل رضي الله عنه، وبعد قوله انقسم الناظرون إلى هذه الجرأة المبنية على العلم والفهم، فقال الإمام الذهلي وهو شيخ البخاري عندما كان في نيسابور: “من جلس مجلس محمد بن إسماعيل فقد تجهم”، لقوله باللفظ، ثم جاء بعد ذلك الإمام المحقق ابن قيم الجوزيه ليقول عن عبارة الإمام البخاري: “نهى الإمام أحمد أحوط، وقول البخاري أدق” ونحن عند أمن الفتنة نحتاج إلى الدقة وخصوصا أننا في بحر مائج متلاطم لا نهاية له، ولهذا نطلب من إخواننا الذين يخوضون في بحر الإبداع والتجديد والدخول إلى المستجدات في الحياة أن يتحصنوا بلباس العلم الأصيل المبني على الكتاب والسنة وأن يعطوا لأهل الاختصاص والعلم حقهم في توجيه المسار الدعوي والحركي.
وفي النهاية نسأل الله السلامة للجميع وأن يوفقنا إلى اتباع الوسائل الصحيحة للغايات العالية.